واجهت
المرأة الفلسطينية على مدار سنوات الكفاح الفلسطيني، ما واجهه الشعب الفلسطيني منذ
الاحتلال البريطاني؛ وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي المستمر، وما رافق ذلك من تشريد وتهجير للشعب الفلسطيني وإقامة المستعمرات الصهيونية في مناحي فلسطين لتهويد الزمان والمكان.. وهي أحداث كان لها أثرها المباشر في طبع الفلسطينيين بهوية خاصة جوهرها إنساني يقوم على فطرية الحرية التي ولد الإنسان عليها، وأفقها وطني مختوم بخصائص الانتماء الفلسطيني..
ومثلما هو حال الرجل الفلسطيني، وربما بشكل أكثر التصاقا بالشأن الفلسطيني كان حال المرأة الفلسطينية، التي شاركت في بناء الهوية الفلسطينية في مراحلها المبكرة وصولا إلى كافة مراحل الكفاح الوطني؛ وقد اختارت كل إمرآة فلسطينية شكلاً من أشكال المقاومة لتكون سنداً في التحرير وصانعة لرجال المستقبل في آن، ومنهن شادية أبوغزالة التي كانت أول شهيدة فلسطينية بعد نكسة حزيران/ يونيو من عام 1967.
سيرة أبو غزالة
من المعروف أن العائلات الفلسطينية كانت كبيرة قبل عام 1948، وحتى عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، ومرد ذلك ارتفاع خصوبة المرأة الفلسطينية وتالياً عدد المواليد. وعلى خلاف إخوانها الذكور الستّة وأخوتها الإناث العشرة الّذين ولدوا في يافا؛ ولدت شادية أبوغزالة في مدينة نابلس عام 1949؛ بعد ثلاث سنوات من وفاة والدتها، وتلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدارس المدينة وتخرجت من المدرسة الفاطمية للبنات؛ ثم التحقت سنة 1966 بجامعة عين شمس في القاهرة، قسم الاجتماع وعلم النفس، ثم قررت العودة إلى نابلس وإكمال تعليمها في كلية النجاح الوطنية، ولم تنجح محاولات أسرتها بثنيها عن هذا القرار، خاصةً بعد أحداث النكسة؛ حيث بدأ نشاطها السياسي منذ ريعان شبابها وفتوتها.
انتسبت شادية أبوغزالة إلى التنظيم الفلسطيني لحركة القوميين العرب عام 1962، وبعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في الخامس من حزيران/ يونيو من عتام 1967، انبثقت عن حركة القوميين العرب تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان رمزها الأول الراحل جورج حبش، جنباً إلى جنب مع ثلة من رفاقه؛ وديع حداد وأبوعلي مصطفى وأحمد اليماني أبوماهر، ولتصبح شادية فيما بعد عضواً قيادياً فيها.
وحول العمليات العسكرية التي شاركت فيها شادية أبوغزالة؛ روت الكاتبة منى أحمد الغندور في كتابها "الفدائيات؛ أم أحمد وبناتها الثلاث" إحدى العمليات العسكرية التي اشتركت فيها شادية أبو غزالة مع أم باسل، وهو الإسم الحركي لإحدى الفدائيات، وذلك تحت مظلة العمل السري المسلح، حيث وضعتا عبوة ناسفة داخل صندوق سيارة عسكرية كانت تقف إلى جانب المبنى، وقد دمر الانفجار السيارة بالكامل وأودى بحياة ثلاثة جنود وتسبب في جرح اَخرين.
وبعد انتداب أم باسل لتدريب بعض المجندات الجدد في نابلس، تولت أبو غزالة مهمة تنفيذ عمليات تستهدف مواقع عسكرية للاحتلال بدلًا عنها، لتصبح واحدة من أبرز القيادات بالتنظيم السري الذي انضوى تحت لوائه التنظيم النسائي بشكل عام .
شادية.. الإنسانة والشهيدة
لم تكن شادية أبوغزالة مجرد مقاتلة وفدائية، بل كانت إنسانة بكل معنى الكلمة؛ حيث كانت جدية ومتفوقة في دراستها إلى أبعد الحدود، كما أنها كانت صامتة، وتحب الأطفال بشكل كبير؛ فضلاً عن شغفها وحبها للشعر وخاصة الوطني منه، وكانت تردد باستمرار بيت الشعر "أنا إنْ سقطتُ فخذ مكاني.. يا رفيقي في الكفاح".
وقد شاركت شادية أبو غزالة في العديد من العمليات الفدائية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 كانت تعد في منزل عائلتها قنبلة، فانفجرت القنبلة بين يديها مما أدى لاستشهادها، لتكون بذلك أول شهيدة فلسطينية بعد نكسة 1967.
وتروي أختها إلهام أبو غزالة الحادثة كالتالي: "كنا جميعاً حول مائدة الطعام، كانت غرفة الطعام في أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من بيتنا القديم الكبير، ذي الأقواس العالية والقبب المرتفعة، قُرع الجرس؛ قفزت شادية لتفتح الباب، وفي لحظة، انفجر المنزل، واقتحم اللهيب كل مكان من البيت، رأينا ألسنة النيران من كل حدب وصوب، تراكضنا مذعورين لمعرفة ما الذي جرى وسط الظلام الدامس، أخذت الأصوات تتعالى، ابحثوا عن شادية، ابحثوا عن شادية"؛ وقد تمّ التعرف عليها بعد الاستشهاد عبر خصلة من شعرها وجزء من ملابسها؛ "فقد تطايرت أشلاؤها بكل مكان، حتى وصلت مدرسة الفاطمية على بعد أمتارمن المنزل. دفن ضريح الشهيدة شادية أبوغزالة في في مقبرة مدينة نابلس الغربية إلى جوار والدتها، ونقشت أختها إلهام على شاهدة القبر أبيات شعرها المفضّلة، "أنا إن سقطت، فخذ مكاني يا رفيقي للكفاح"، وهي للشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو.
إضافة إلى الشهيدة شادية أبوغزالة، كأول شهيدة نفضت غبار النكسة، برزت أسماء عدد كبير من الشهيدات على مذبح الحرية والانتصار على المحتل الإسرائيلي الغاشم والجاثم على أراضي الشعب الفلسطيني ووطنه، ومنهن، الشهيدة لينا النابلسي والشهيدة رجاء أبوعماشة، والشهيدة دلال المغربي، وشهيدة يوم الأرض في الثلاثين من آذار/ مارس 1976 خديجة شواهنة، وثمة شهيدات ماجدات؛ الشهيدة آيات الأخرس، أم نضال فرحات،؛ حيث كانت المرأة الفلسطينية على الدوام حاضرة وبقوة بكافة مراحل الكفاح الوطني الفلسطيني؛ وهي بذلك أيقونة النضال وعنوان انتصار الشعب الفلسطيني ألآت مهما طال زمن الاحتلال الصهيوني .
*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا