لم
تهن الحركة الأسيرة ولم تهزم أو ترفع الراية البيضاء بمجملها في يوم من الأيام،
صحيح أنها تتراجع وتتقدم، تعلو وترتفع وتيرة المواجهة أحيانا وتهبط وتتردّى أحيانا
أخرى، ولكنها أبدا لم تستسلم ولم تلق سلاحها، وذلك بأنّ العدو واضح، وواضح أكثر
ماذا يريد للمعتقل
الفلسطيني في سجونه؛ يريد باختصار كلّ شيء من شأنه أن يسوّي
كرامة الإنسان الذي يواجهه بالأرض، يريد تفريغه من محتواه الفكري والوطني والقيمي
وتحويله إلى مجرّد خردة بشرية لا قيمة لها ولا دور ولا تأثير في مجريات الحياة
العامة، أثناء فترة وجود المعتقل في السجن، حيث يعتبر السجن محضنا لصهر الوعي والتدمير
النفسي المريع، وبعد خروجه، ليستمر في صيرورة تسيّر ما تبقى من عمره على ما صنعه
السجن والسجّان في أعماقه.
وبتجرّد
موضوعيّ وجدنا من تخرّج من سجون الاحتلال وقد وصل السجّان معه إلى كلّ أهدافه، أقلّها
أنه لم يبق له في الحياة إلا حياته الخاصّة دون أن تعنيه القضية التي سُجن من
أجلها لا من قريب ولا من بعيد. وإذا أردنا أن نتجرّد أكثر وأكثر (بعيدا عن العاطفة
والبطولية التي يحلو للبعض أن يتغنى بها فتعميه عن رؤية الواقع كما هو)، فإننا نجد
من صار متفهّما للمشروع الصهيوني وصار ينظر إليه نظرته لـ"الآخر" الذي
يختلف معه على وجهات نظر يسهل بلعها وتجاوزها. وفي المقابل، وجدنا من خرج من السجن
وقد فشل السجان في الوصول لأي هدف من أهدافه، نجده وقد ازداد وعيا وتماسكا ومتانة
وانتماء، وازدادت قدراته على خدمة قضيته التي سُجن من أجلها فبقيت عامرة وشعلة
متقدة في صدره.
تبدأ معادلات الصراع في زنزانة المعتقل في تحديد هويّة هذا
الصراع: هل هو مطلبي لتحسين ظروف السجن المعيشية؟ أم هو سياسي يريد تحقيق الحرية؟
أو هو الأمران معا أو تارة يتغلّب هذا وتارة ذاك؟ وكذلك من هذه المعادلات كيف
يحقّق المعتقل ذاته الوطنية وهويته الثقافية وكرامته الإنسانية؟ وكيف يحافظ على
هذه الذات دون أن تنالها قدراتهم الخارقة على التشويه والتغيير والتبديل والتفريغ؟
ثم ما هي أدوات ووسائل المعتقلين، وما مدى قدرتها وفاعليتها في مواجهة أدوات
ووسائل السجّان اللئيم؟
وفي
رحى هذه المعادلات تتحرك إرادة المعتقلين ويحتاج الأمر إلى توظيف الخبرات
التراكمية في هذا الصراع الكمّي والنوعي وما نجح منها وما فشل، وكذلك تلعب دورا
هامّا توفّر الحنكة والذكاء في إدارة الصراع. وبالإضافة إلى صراع الإرادات، هناك
صراع الأدمغة ووفرة الحسّ الأمني الذكيّ الذي يمنع الوقوع في شركهم وألاعيبهم
الماكرة.
وقد
خبرت تجربة المعتقلين طبيعة هذا العدوّ المجبول على المكر والخداع، والتنكّر
للاتفاقيات والقدرة على الالتفاف عليها وتفريغها من مضامينها، وإجادة اللعب على
الوقت والمماطلات التي تهدر الجهد والوقت، والقدرة الفائقة على الإشغال واللعب في
مسائل فرعية ليست ذا بال على حساب المهمة والجوهرية، مع تضخيم ما يبدو أنه تنازل
منهم على أنه جبال من الإنجاز، بينما هو لا يزن النقير.
والمعادلات
التي يسير عليها سجان الزنزانة الصغيرة لا تبتعد كثيرا عن معادلات سجان الزنزانة الكبيرة.
أذكر أن أوّل وفد فلسطيني زار سجن جنيد بعد أيام من دخول السلطة الفلسطينية؛ سألناه
عن الإفراجات وما يتعلّق بالاتفاق على ذلك، فقالوا إن هذا تحصيل حاصل، وقد تم
الحديث في هذا الموضوع ولم يكن هناك نص مكتوب. طيبة القلب هذه عند الفلسطيني
اصطدمت بعراقيل لا نهاية لها في موضوع الإفراجات، الكلّ يعلمها، وأصبح اتفاق أوسلو
كما قيل عنه أن كل كلمة فيه تحتاج إلى اتفاق. هم يجيدون الالتفاف على النصوص
الواضحة والمحددة، فما بالنا بالمتروكة لحسن النوايا. فيجيدون تفريغها من مضمونها
وحرفها عن أهدافها وهذه هي طبيعتهم.
وتجوز
المقارنة تماما بين المُعتقلين وإجراءات ذات السجان فيها، فالسجان يتحكم تحكما
كاملا في حركة المعتقلين وأكلهم ومسكنهم وحتى الهواء الذي يتنفسونه، وفي الزنزانة الكبيرة يتحكم أيضا في حركة الناس، وله من الحواجز ما يجعل
الضفة منافي مغلقة خلال دقائق، ويتحكم في حركة أرزاقهم والاستيراد والتصدير والتحكم
في مصير أراضيهم ومياههم وأجوائهم ومعابرهم وحركة أسفارهم.. الخ.. هي وحياة
المعتقل بين صغيره وكبيره في ماكينتهم العنصرية السوداء سواء.
الآن
بعد ربع قرن من تلك الاتفاقيات البئيسة يصلون بها إلى أفق مسدود، وإلى استحالة فتح
أفق سياسي يعيد بعض الاعتبار للحق الفلسطيني. وقد ضيّعوا بالمناسبة فرصة تاريخية
لصالحهم، إذ رضيت السلطة الفلسطينية بدولة على حدود الرابع من حزيران/ يونيو، أيّ
بالتنازل عن 48 في المائة من فلسطين خالصة لهم.
هم
الآن أوصلوا الأمور لتكون المعادلة مطلبية؛ مداها تحسين الأوضاع المعيشية منزوعة
الكرامة (البهيمية)، ولا يريدون خيرا للمسار السياسي أبدا ولا أيّ خير للمسار الذي
يلبّي الحدّ الأدنى من كرامة الإنسان، وكل ما له علاقة بمحتواه الفكري والوطني
والقيمي. ينظرون إلى المجتمع الفلسطيني على أنه خردة بشرية لا قيمة لها ولا دور
ولا وزن ولا انتماء وطنيا، ولا أمل لوجود لدولة فلسطينية ذات سيادة حرة ومستقلة بأي
حال من الأحوال، تماما كما ينظر السجان للمعتقلين بذات النظرة وذات الطريقة في
التعامل وقواعد الاشتباك ومعادلات الرضوخ والإهمال والتفريغ. يريدون للفلسطينيين
أن يكونوا مجرد تجمعات بشرية من العبيد والاستجابة المطلقة للأهواء الصهيونية
المنحرفة، وإن كان ولا بدّ فبعض الفتات وما من شأنه أن يوصف بأن له علاقة بالأوضاع
المعيشية البهيمية، والتي ترتضيها الخراف والماعز ومزارع الأرانب، تماما كما أراد
السجان وفق منهجيته في التعامل مع الأغيار وطبيعته العنصرية السوداء.
وكما
امتشق معتقلنا بإرادته وثبّت قواعد اشتباك ومعادلات تتغلّب في كثير من الأحيان على
سجّانه، وأثبت انحيازه التام لقضيته وهويته الثقافية وروحه الإنسانية العالية رغم
القيود العاتية وجدران السجن القاهرة، ففي المعتقل الكبير يربض شعب حرّ قادر على إثبات
ذاته في أقسى ظروف الاحتلال، هذا الشعب الحرّ يثبت جدارته بالحياة واستعصائه على
كل محاولات النفي والإلغاء.
هذا
ليس مجرد أمل عابر أو شعار لامع، وإنما هو حقيقة على الأرض ظهرت على شكل انتفاضة وهبة
تلو الأخرى في أحيان متعددة، ومقاومة رست قواعدها بكل صلابة وثبّتت قواعد اشتباك
لن يبقى فيها السجان سجانا ولا المعتقل معتقلا.