المعتقلون أولا

في الآونة الأخيرة، تواصل معي عدد كبير من أسر المعتقلين في مصر بخصوص ما تم تداوله عن احتمالية فتح باب المصالحة أو الحوار بين النظام المصري من جانب، والمعارضة المصرية وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر.

"إحنا تعبنا"، كلمتان بسيطتان، كانتا تكفي لفهم ما آلت إليه حياة آلاف الأسر المصرية بعد اعتقال أحد أفرادها؛ وتحول الحياة إلى الدوران في فلك السجن والزيارة وعرض النيابة والتغريبة، والحديث من وراء أسلاك شائكة تمنع الرؤية وتحجب الصوت وتنزع الروح انتزاعا.

التعب هو مرادف الإرهاق ونظير المشقة وشقيق المعاناة ونتاج الألم وخلاصة الضغط، ونتيجته الحتمية هي العجز وقلة الحيلة.

"إحنا تعبنا"، كلمتان بسيطتان، كانتا تكفي لفهم ما آلت إليه حياة آلاف الأسر المصرية بعد اعتقال أحد أفرادها؛ وتحول الحياة إلى الدوران في فلك السجن والزيارة وعرض النيابة والتغريبة والحديث من وراء أسلاك شائكة

لو تحدثت ولو لدقائق قليلة مع أسرة معتقل مصري لغرقت في تلك المترادفات، ولوجدت نفسك تعيش حالة من الضيق والغضب مما تسمع من آلام وتفاصيل للمعاناة اليومية التي تعيشها أكثر من ستين ألف أسرة مصرية.

حدثتني زوجة أحد المعتقلين عن إصابتها بالاكتئاب الحاد، وكيف أنها بدأت في متابعة أحد الأطباء النفسيين، الذي وصف لها بعض الأدوية والمهدئات كي تتحسن حالتها. زوجها شاب مصري في بداية الثلاثينيات من عمره، محكوم عليه بالسجن لما يقارب مائة عام، عندما تم اعتقاله كان لا يزال شابا في منتصف العشرينيات من عمره. كتبت تحكي عن ذكرياتها معه في أثناء تجهيز بيتهم للزواج، قبل أن تداهمه الشرطة وتعتقل خطيبها لينتهي الحلم قبل أن يبدأ، ولتبدأ مع خطيبها قصة حب من نوع آخر؛ عنوانها الوفاء والإخلاص، برغم ظلم ذوي القربى وخذلان من هم في الخارج.

في سجون السيسي شاب محكوم عليه بمائة وخمسين سنة حضوريا، وآخر محكوم عليه بثلاثة أحكام بالمؤبد مدى الحياة.. في داخل السجون أعمار تهدر، ومستقبل يمحى، وحكايات أغلقت دفاترها قبل أن تكتب.. في داخل السجون شباب أصبحوا شيوخا، وشيوخ يسألون الله حسن الخاتمة.

كل قصة منهن تصلح ليكتب عنها كتب في الحب برغم الصعوبات، وبالتمسك بالأمل برغم التحديات.. كل قصة منهن تصلح لتكون مثالا ناصعا لرباط القلوب، الذي لا يفرقه سجن ولا تشغله مسافة ولا يؤثر به اختلاف الزمان والمكان

وفي خارج السجون فتيات أطلقن على أنفسهن لقب "المخللات" نسبة إلى المخلل، ينتظرن أزواجهن وخطابهن منذ سنوات، هن عنوان الوفاء والإخلاص والحب.. كل قصة منهن تصلح ليكتب عنها كتب في الحب برغم الصعوبات، وبالتمسك بالأمل برغم التحديات.. كل قصة منهن تصلح لتكون مثالا ناصعا لرباط القلوب، الذي لا يفرقه سجن ولا تشغله مسافة ولا يؤثر به اختلاف الزمان والمكان.

ولكن مهلا؛ فعلى الرغم من كل هذا، إلا أنهن قد أصابهن التعب أيضا.

في حديثي مع أسر المعتقلين، علمت بحدوث حالات طلاق بين زوجات وأزواجهن المعتقلين، والسبب واضح: "تعبنا"، لم نعد نطيق التحمل، أصابنا طول الأمد وخذلان الجميع لنا بالتعب، فلم يعد بمقدورنا أن نكمل.

صعوبات نفسية وتحديات مادية ومخاطر أمنية وأطفال لم يروا آباءهم قط، وبيوت غيّرتها السنوات، ونظام وقح كلما شعر بضعف أسر المعتقلين زاد من ضغطه عليهم وقمعه لذويهم، ومجتمع مريض لا يألو جهدا في الضغط على زوجات المعتقلين وبث اليأس في نفوسهن.. فتلك سيدة تتصل بزوجة معتقل أو خطيبته لتسألها هل يستحق حقا كل هذا؟ لماذا تنتظرين مجهولا لا يعلم أحد متى يعود؟ وكيف تثقين به؟ سيخرج ليتزوج عليكِ؟

هل هناك جديد عن المصالحة؟ هل سيخرج فلان بالفعل؟ هل لديك معلومات عن مصالحة أو انفراجة في ملف المعتقلين؟ أنا أرسل إليك الآن وأنا أبكي، فلقد بلغ بنا الألم مبلغه.

رسالتي إلى قيادات المعارضة المصرية عامة وإلى قيادات جماعة الإخوان المسلمين في الخارج خاصة، وأنا أعلم ما يمرون به من أحداث في الأسابيع الأخيرة: اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في معتقلي هذا الوطن وأسرهم وأبنائهم وزوجاتهم

هذه عينة بسيطة مما أقرأه يوميا من رسائل تأتيني من أسر المعتقلين وأهاليهم، أنقلها لمن يهمه الأمر، وأنا على يقين أن كلماتي ستصل إليهم فردا فردا.

رسالتي إلى قيادات المعارضة المصرية عامة، وإلى قيادات جماعة الإخوان المسلمين في الخارج خاصة، وأنا أعلم ما يمرون به من أحداث في الأسابيع الأخيرة: اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في معتقلي هذا الوطن وأسرهم وأبنائهم وزوجاتهم.. إن كان قدركم أنكم كنتم ولا زلتم في قيادة المشهد، وإن كان قدركم أن لكم قواعد لا زالت تحت مسؤوليتكم، فاجلسوا واتركوا خلافاتكم جانبا، وفكروا في طريقة لإخراج هؤلاء الأبطال وذويهم.

لن يحاسبكم أحد الآن على عدم التواصل مع الخارج، ولن يتحدث عنكم أحد عن أدائكم طيلة السنوات الماضية، ولكن الجميع يطالبكم الآن بمطلب واحد ملخصه في كلمتين: المعتقلون أولا.

twitter.com/osgaweesh