نشرت
صحيفة "
واشنطن بوست" الأمريكية تقريرا نقلت فيه رواية ما يقرب من عشرين مسؤول
أمريكي وأفغاني وأحد قادة
طالبان عما حدث يوم سقوط
كابول.
وقالت
الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن استيلاء طالبان على كابول
يوم 15 آب/ أغسطس حصل بسرعة أثارت دهشة جميع الأطراف المعنية، من بينها طالبان نفسها.
وقد تم الإقرار بأن ذلك لم يكن ليحصل لولا بضع خيارات مصيرية اتخذت في ذلك اليوم، وأهمها
القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس الأفغاني للهروب من البلاد، يليه قرار الولايات المتحدة
في التركيز على إخراج جنودها من المطار، عوضًا عن التصدي لطالبان.
ما قبل
السقوط
في كل
من واشنطن وكابول، اتسمت الأيام والأسابيع التي سبقت سقوط كابول بالتهاون والتراخي،
حيث كان الرأي السائد في كلتا العاصمتين أنه لا يزال هناك متسع من الوقت قبل أن تستطيع
الحركة الاستيلاء على مدينة كابول التي كانت لفترة طويلة المركز العصبي للوجود الأمريكي
في البلاد. ووفقًا لمسؤولين أفغان وأمريكيين رفضوا الكشف عن هوياتهم، فقد كان الرئيس أشرف
غني ينضح بهذا الاعتقاد.
عندما
تقدمت طالبان على المعابر الحدودية الرئيسية مع إيران وطاجيكستان في أواخر حزيران/
يونيو، تخلت القوات الحكومية عن مواقعها. وأعلن مستشار الأمن القومي حمد الله محب أن
القوات ستستعيد هذه المعابر قريبًا، لكن الواقع لم يشهد أي محاولات حقيقية لذلك، مما
حرم الحكومة من موارد دخل رئيسية. ولم يستجب محب لطلبات الصحيفة للتعليق.
مع استمرار
طالبان في حصد المكاسب، فقد بدأت ثقة المسؤولين الأمريكيين في الرئيس الأفغاني تتزعزع.
وأخبروه بذلك في اجتماع في تموز/ يوليو، حيث نقل أحد المسؤولين المشاركين في الاجتماع
أنهم نصحوا غني بوضع "خطة واقعية وقابلة للتنفيذ للدفاع عن البلاد"، والتخلي
عن "محاولات الدفاع عن جميع عواصم المقاطعات البالغ عددها 34 عاصمة"، لكنه
لم يأخذ تلك النصائح بعين الاعتبار.
وأضاف
المسؤول: "كان غني يريد التحدث عن رقمنة الاقتصاد" في إشارة إلى خطط الرئيس
لنظام دفع رواتب حكومي، بدلا من "التهديد المحدق". واستمر الرئيس على نهجه
حتى ظهر يوم السبت السابق لسقوط كابول، ولم يشر غني إلى أي ضرورة ملحة بشأن ترتيبات
المغادرة أو سلامة كبار الموظفين. وأعطى الأولوية لوضع مخططات تدعم اقتصاد البلاد.
وأشارت
الصحيفة إلى أن الأوهام لم تقتصر على الجانب الأفغاني، حيث كان الرأي السائد من جهة
أمريكا أن طالبان لن تشكّل تهديدا حقيقيا لكابول حتى أواخر فصل الخريف. لربما كان المسؤولون
الأمريكيون يحثون غني على إبداء مزيد من الإلحاح، لكن أفعال الضباط العسكريين وكبار
موظفي البيت الأبيض لم تدل على ضرورة ذلك أبدا.
قبل
يوم من سقوط العاصمة الأفغانية، أدى استيلاء الحركة على مزار الشريف إلى إقناع المسؤولين
الأمريكيين بأنهم بحاجة إلى الإسراع، لكن مدى السرعة كان موضع خلاف بين البنتاغون ووزارة
الخارجية. وفي مكالمة مع الرئيس في ذلك اليوم، دعا وزير الدفاع لويد أوستن إلى النقل
الفوري لجميع موظفي السفارة الأمريكية إلى مطار كابول، وذلك حسب مسؤول أمريكي مطلع
على المكالمة.
منذ
يوم الجمعة، كان زملاء ويلسون في السفارة يسارعون في تدمير الوثائق والمعدات السرية
في المجمع، إذ جاء في مذكرة داخلية حصلت عليها صحيفة "واشنطن بوست" أوامر
لموظفي السفارة بإتلاف المواد الحساسة باستخدام المحارق، وتدمير "الأعلام الأمريكية،
أو أي عناصر أخرى يمكن إساءة استخدامها في أنشطة البروباغاندا".
في مساء
السبت، تحدث غني مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عبر الهاتف. وعلى أمل تجنب
مواجهة في العاصمة، فقد ناشد بلينكن غني أن يدعم ترتيبا توسطت فيه الولايات المتحدة مع
حركة طالبان والذي سيبقى المسلحون بصدده خارج كابول إذا تنحى الزعيم الأفغاني، بينما
تتولى حكومة مؤقتة زمام الأمور. وقال أحد كبار المسؤولين الأمريكيين إن الهدف من ذلك
كان كسب الوقت لبدء مفاوضات تهدف إلى تشكيل حكومة شاملة تضم طالبان وغيرها. ووافق الرئيس
على مضض، وبدا للأمريكيين أنهم شقوا طريقًا إلى انتقال سياسي سلمي يتجنب عمليات الاستيلاء
العنيفة كالتي شهدها تاريخ أفغانستان.
الاستيلاء
صباح
يوم الأحد، استيقظت كابول على أنباء سقوط جلال أباد ليلاً، مما جعلها مدينة معزولة.
ومع أن السكان لزموا بيوتهم إلى حد كبير، لم يظن أحد أن هناك عملية استحواذ في أفق
العاصمة القريب. ذلك الصباح، كان الناشط الحقوقي نادر نادري متوجهاً للدوحة للمشاركة
في مفاوضات مع طالبان، دون أي اشتباه بأن الحركة قد تدخل كابول، لأنه اعتقد أن الدبلوماسية
لن توقع البلاد في أزمة على غرار ما حدث في التسعينيات.
بالمثل،
قالت مديرة الاتصالات في القصر الرئاسي مرجان متين أنهم كانوا على افتراض بأن القوات
الأمريكية والبريطانية ما زالت هناك. لكنها انتبهت لخطب ما في طريقها للعمل، حيث باتت
المتاجر تغلق أبوابها، وكان الطلاب يهرعون لمنازلهم، بينما وقف مقاتلو طالبان على المداخل
الرئيسية للمدينة. قالت متين إن الأمر "كان أشبه بفيلم رعب".
أما
في داخل القصر، خرج أغلب الموظفين لتناول وجبة الغداء. وأفاد مسؤولون بأن أحد كبار
المستشارين جاء للرئيس حينها قائلا إن المسلحين قد دخلوا القصر، وأن عليه الهروب للنجاة
بحياته.
أكدت
الصحيفة أن ذلك لم يكن صحيحا كما اتضح لاحقًا، حيث بقت طالبان على أطراف كابول ولم
تكن تعتزم الاستيلاء على السلطة بالعنف. لقد كان هناك اتفاق قائم للانتقال السلمي،
وكانت الحركة تنوي احترامه. ولكن لم تكن هذه هي الرسالة التي تم إيصالها لغني الذي
وافق أخيرا على الرحيل على متن طائرة هيلوكوبتر مع زوجته وعدد من المسؤولين.
وأوضح
أحد المسؤولون على متن الطائرة أنها هبطت في أوزبكستان، ومن هناك، استقلوا طائرة صغيرة
متجهة إلى الإمارات العربية المتحدة. أما في أفغانستان، فعاد مساعدو غني من استراحة
الغداء ليجدوا أن رئيسهم قد اختفى، وأن مكتبه فارغ.
فيما
بعد، برر الرئيس مغادرته كوسيلة لتجنيب بلاده "إراقة الدماء"، وكتب على "فيسبوك"
أنه واجه خيارًا بين الموت قتلاً أو "مغادرة البلد العزيز الذي كرست حياتي لحمايته
على مدى السنوات العشرين الماضية". لكنه لم يطلع معظم الرتب العليا في الحكومة،
بمن فيهم نائبه، على قراره بالرحيل، كما أنه لم يبلغ الحكومة الأمريكية التي تُركت تتخبط
بين الشائعات والتقارير الإعلامية.
ذكرت
الصحيفة أن المسؤولين اتبعوا خطوات رئيسهم وبدأوا بالفرار لجهات مختلفة. ذهبت مجموعة
منهم، بمن فيهم رئيس البرلمان، إلى باكستان. بينما استقل وزير الدفاع بسم الله خان
محمدي، طائرة عسكرية متجهة إلى الإمارات. وكذلك تمكن النائب الثاني سرور دانش، ورئيس
المخابرات الأفغانية أحمد ضياء سراج من الهروب. أما آخرون مثل وزير الحج، وهو عضو سابق
لطالبان لطالما انتقد زملاءه السابقين، فتم إلغاء رحلته، مما أجبره على العودة إلى
المدينة حيث أصبح أصدقاؤه الذين تحولوا إلى أعداء حكامًا فعليين.
العاصمة
في فوضى
عقب
رحيل غني، عمّت الفوضى على الأطراف الثلاثة المعنية بالصراع. وجد المسؤولون الأفغان
أنفسهم دون رئيس، ودون أدنى فكرة عما حدث له. أما المسؤولون الأمريكيون، الذين كانوا
على افتراض بأن غني باقٍ لتعزيز انتقال سلمي إلى سلطة مؤقتة حسب اتفاقهم، فقدوا كل
آمالهم. وقال مسؤول أمريكي: "إنه لم يتخل عن بلاده فحسب، بل تسبب في تفكيك الوضع
الأمني في كابول". وفي الحيز المتروك، بدأ القانون والنظام ينهاران، مع ورود أنباء
عن تحرك عصابات مسلحة في الشوارع.
ذكرت
الصحيفة أن كبار القادة العسكريين الأمريكيين في الدوحة، بمن فيهم ماكنزي، قائد القيادة
المركزية الأمريكية، التقوا في اجتماع شخصي تم الترتيب له على عجل مع عبد الغني برادار،
رئيس الجناح السياسي لطالبان. وحسب مسؤول أمريكي، قال برادار: "لدينا مشكلة ليس
أمامنا سوى خياران للتعامل معها: إما أن تتحملوا أنتم (جيش الولايات المتحدة) مسؤولية
تأمين كابول، أو أن تسمحوا لنا بالقيام بذلك".
طوال
اليوم، ظل بايدن حازمًا في قراره بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، ولم يغير
انهيار الحكومة الأفغانية رأيه. على علم بتلك الأوامر، ردّ ماكنزي بأن مهمة الولايات
المتحدة تقتصر على إجلاء المواطنين الأمريكيين والحلفاء الأفغان، وهم بحاجة للمطار
للقيام بذلك. تم التوصل إلى تفاهم على الفور، وأُعطيت الولايات المتحدة المطار حتى
31 أغسطس/ آب، شريطة سيطرة طالبان على المدينة.
بذلك،
حلّ دور الطرف الثالث والمنتصر: تحركت طالبان عبر كابول بعد تلقي أحد أعضائها محمد
ناصر حقاني رسالة جاء في نصها: "تركت الحكومة كل وزاراتها. عليك أن تدخل المدينة
لمنع تصاعد الاضطراب وحماية الممتلكات والخدمات العامة".
تفاجأ
حقاني ورجاله بما وجدوه عند دخول المدينة، وقال "لم نر جنديًا أو شرطيًا واحدًا".
لعدة ساعات بعد ذلك، فعل ما أُمر به، وامتنع عن التقدم إلى قلب المدينة. ولكن بعد ورود
أنباء عن انهيار الحكومة، استمروا بالتحرك وصولا للقصر الرئاسي، حيث تساقطت دموعهم
من شدة الفرح.
وأشارت
الصحيفة إلى أن مشهد اتخاذ مقاتلي طالبان مواقعهم في شوارع كابول أدى إلى تسريع الهجرة
الجماعية التي بدأت بالفعل، حيث هرع الناس إلى منازلهم من العمل أو إلى المطار لمحاولة
الالتحاق برحلة ما. عند رؤية ذلك، أدركت مديرة الاتصالات في القصر متين أنها بحاجة
ماسة إلى تغيير ملابسها: "كانت ترتدي الجينز والقميص، لكنها كانت تعلم أن ذلك قد يوقعها
في مشكلة مع السلطات الجديدة".
في القصر،
صوّرت عدسات الجزيرة حركة طالبان في القصر الرئاسي بعد 20 عاما من العمل. أما الولايات
المتحدة، فسارعت إلى إنهاء ترتيبات الإجلاء بتدمير الوثائق والمواد الحساسة وحرقها.
وقال المسؤول إنه بحلول الوقت الذي انتهوا فيه، أصبحت أكبر بعثة دبلوماسية في العالم
"مكانًا غريب المظهر بدت مكاتبه خاوية بشكل غريب".