هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب "الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية"، (ط1، قطر، 2018)، للباحث المصري د.أحمد العَدوي. يقع الكتاب في 184 صفحة من القطع الوسط، موثقا ومفهرسا، ويتألف الكتاب من ثلاثة فصول وخاتمة.
تهدف هذه الدراسة إلى "إلقاء الضوء على آثار الطاعون في العصر الأموي، من خلال دراسة أثره في الأوضاع الديموغرافية في ذلك العصر، ومن ثم انعكاساته على النظم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلدان الدولة وأقاليمها، ولا سيما في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، وهي البقاع التي تُعَدّ خاصرة الخلافة التي شهدت، من دون غيرها، موجات كارثية عظمى من الطاعون، أبرزها طاعون ابن الزبير الجارف، وطاعون مُسلم بن قتيبة الذي قُدِّر له أن يتصدر المشهد الختامي لدولة الأمويين"(ص 15).
يحمل الفصل الأول عنوان "الطاعون وعالم العصور الوسطى"، وهو بمنزلة مدخل أو فصل تمهيدي، يُعرف العدوي "الطاعون" بـ"مرض قاتل غامض، كان ينتشر في الناس انتشار النار في الهشيم، مخلفا عددا ضخما من الموتى في أيام قلائل" (ص 29). ويشير إلى أسباب فتكه بالناس على ذلك النحو المأساوي الذي تحدثت عنه المصادر القديمة.
ويحدثنا عن الطاعون والعالم الإسلامي، فقد "احتل الطاعون مكانة مرموقة في التراث العربي بصفة عامة؛ إذ استدعى بوصفه كارثة إنسانية كبرى، الكثير من التساؤلات الدينية والفلسفية العميقة التي تعدت النطاق الضيق للطب والمرض والوقاية، من قبيل: هل كان الوباء الذي يصيب الناس بلا تمييز، عقابا جماعيا من الله للبشر على خطاياهم؟ وهل ثمة عدوى؟ فإذا كان هناك عدوى، فهل يُعدي المرض بذاته، أم لعلة خلقها الله فيه؟ ومن ثم، لا غرابة في أن يشكل الطاعون مبحثا علميّا تقاطعت فيه حقول الحديث والفقه والفلسفة، فضلا عن مجال الاختصاص الأصيل وهو الطب" (ص 36).
أما الفصل الثاني، الذي حمل عنوان "فورات الطواعين في العصر الأموي"، يهدف إلى "إحصاء الطواعين الواقعة في العصر الأموي، وضبط تعاقُبها كرونولوجيّا، وهذا أمر يُعدّ مهمة محفوفة بالصعوبات الناجمة عن تضارب روايات الإخباريين بشأن أسماء تلك الطواعين والتأريخ لها على نحو دقيق، حيث بلغت فورات الطاعون في العصر الأموي، من الكثرة حدّا، إلى درجة أنه لم يخلُ عقد واحد من طواعين عدة" (ص 57). فقد "سجلت المصادر العربية، على اختلاف مشاربها، نحو 20 فورة من الطاعون في العصر الأموي" (ص 91)، الذي "امتد بين عامي 41 هـ/ 661م و132هـ/ 749م، أي نحو 91 عاما" (ص 93)، أي "بمعدل طاعون واحد لكل 4 أعوام ونصف تقريبا" (ص 94).
"احتل الطاعون مكانة مرموقة في التراث العربي بصفة عامة؛ إذ استدعى بوصفه كارثة إنسانية كبرى، الكثير من التساؤلات الدينية والفلسفية العميقة التي تعدت النطاق الضيق للطب والمرض والوقاية، من قبيل: هل كان الوباء الذي يصيب الناس بلا تمييز، عقابا جماعيا من الله للبشر على خطاياهم؟ وهل ثمة عدوى؟
يبدأ الفصل الثالث، "الآثار الديموغرافية للطواعين وانعكاساتها على المجتمع والدولة في العصر الأموي"، بمناقشة الكوارث الديموغرافية العنيفة التي تسبب بها الطاعون، "أولا؛ ذلك أن الأثر الرئيس لوباء الطاعون، تمثل في ما ألحقه بعدد السكان وتوزيعهم الجغرافي من أضرار جسيمة، وفي تنوع النشاط السكاني، فانعكست تلك الاختلالات الديموغرافية على النظم والهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم على الصعيد السياسي في نهاية المطاف، حيث كان الطاعون يحصد أرواح الناس حصدا، مخلِّفا آثارا ديموغرافية كارثية، تتعدى النطاق الضيق للأسرة والعشيرة والقبيلة، لتعم بلواها المجتمع ككل" (ص 97).
على الرغم من الافتقار كليا إلى الوثائق المتعلقة بهذا العصر، إلا أن المؤلف يحلل بعض الأخبار الموثوقة التي وردت في بعض المصادر الأدبية، فيفترض "أن نسبة الناجين إلى الضحايا بلغت في حدها الأقصى، وفي فورات الطواعين الجارفة في العصر الأموي 1: 17 (كما في رسالة ميمون الجزري)، وفي حدها الأدنى 1: 11 (كما في رواية علي بن القاسم)، وهنا سنخرج بمتوسط حسابي عام للنسبتين يبلغ 1: 14" (ص 100). وهي نسبة كبيرة جدا، فقد "أسفرت فورات الطاعون المتتالية عن تراجع أعداد العرب، وهم عماد جيوش بني أمية، في العراق والشام، تراجعا حادّا، ونجم عن هذا في نهاية المطاف عجز الدولة الأموية عن مقاومة الثورة العباسية الوليدة، التي انطلقت من أماكن بعيدة نسبيّا عن تلك الأماكن التي اعتاد الطاعون ضربها" (ص 103).
يناقش العدوي أثر الوباء في الحياة الاجتماعية: "لم تتخذ الدولة الأموية أي إجراءات في الطواعين سوى النداء في الناس ليُخلوا المناطق الموبوءة على الفور" (ص 107). و"سرعان ما تحولت هذه الهجرات العشوائية المؤقتة إلى هجرات دائمة لقطاع عريض منهم، الأمر الذي ساهم في خلق مشكلات كثيرة، ذات بُعدين اجتماعي واقتصادي لمواطن تلك الهجرات" (ص 111).
أما الآثار الاقتصادية، فأدى الطاعون إلى "ارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للدينار الأموي؛ فمع ذلك التضخم الناشئ عن تداول العملة في أيدي أعداد أقل من السكان، جنبا إلى جنب مع ذلك الانخفاض الحاد في أعداد الأيدي العاملة جراء النزيف الديموغرافي، إضافة إلى تغيير نسبة معتبرة من الفارين من الطاعون نشاطها من العمل في الزراعة إلى الرعي، هذه العوامل كلها أثرت سلبا في الإنتاج الزراعي بوجه عام، ومن ثم أدى ذلك أخيرا إلى قلة المعروض في الأسواق، فإلى ارتفاع سعره" (ص 124).
وحول الآثار السياسية، فـ"أهم ما تمخض على توالي فورات الطاعون في العصر الأموي، كان عزوف خلفاء بني أميَّة عن الإقامة في دمشق، فكان الخلفاء قبل هشام بن عبد الملك ينتبذون إلى البرية والصحراء، أو يقيمون في الأماكن المنعزلة كالأديار اتقاء للوباء" (ص 124- 125). كما "ساهم الطاعون في تغيرات ديموغرافية مهمة، كان لها استحقاقاتها السياسية لاحقا؛ إذ قامت الدولة بتهجير عدد كبير من الزنج إلى السَّواد؛ بغرض ملء الفراغ الديموغرافي الذي كان الطاعون يتسبب به في تلك البقاع" (ص 127).
يختم العدوي دراسته بأبرز النتائج التي توصل إليها، والتي تشير إلى التأثير الكبير الذي أداه الطاعون في تاريخ الدولة الأموية السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والديموغرافي.
*كاتب وباحث فلسطيني