كتب

قراءة في مقومات الهوية وخصوصياتها في دول المغرب الكبير

خصوصية المغرب العربي، مقارنة مع المشرق العربي، ليست موضع خلاف، فهي مسألة موضوعية من حيث وجودها
خصوصية المغرب العربي، مقارنة مع المشرق العربي، ليست موضع خلاف، فهي مسألة موضوعية من حيث وجودها

الكتاب: "مقاربة في إشكالية الهوية المغرب العربي المعاصر"
الكاتب: د. محمد صالح الهرماسي 
الناشر: دار الفكر المعاصر لبنان، دار الفكر ـ دمشق، 2014

(175 صفحة من القطع الكبير).

لا يزال سؤال الهوية مطروحا بقوة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر عامة، وفي تاريخ المغرب العربي خاصة، لأنَّ عصرنا هذا تحكمه جدلية التقدم والتأخر التاريخي. فحديث الهوية هو دومًا حديث أزمة، وحتى توكيد الهوية بحد ذاته علامة أزمة. وأزمة الهوية هي دوما ناتجة عن واحد من اثنين: إما عن إحساس بانفصام، عن شعور بأنَّ "نحن" ليست هي "نحن"، أو عن تعيُّنٍ بالآخر من الخارج قسرًا.

في جدلية التطور والتخلف يحتل العرب الطرف السالب في هذه العلاقة، أمَا الآخر ـ وهنا الغرب ـ فهو يحتل الطرف الموجب.

في العالم العربي تطرح أزمة الهوية بصيغتين متناقضتين، الصيغة الأولى هي التأكيد على الهوية العربية الإسلامية، لا سيما في مضامينها القومية والدينية الأكثر تعصبا ورفضا للغرب وحداثته جملة وتفصيلا، أي صيغة اللوذ بالماضي والدفاع الوهمي عن الذات. وهذه الهوية لا يردمها اختراعًا لأنفسنا هوية ثابتة، سرمدية، لا تزول ولا تحول. فعالمنا هو عالم التغير والتغيير. إنَّ زمانية سلحفاتية، تكرارية، دهرية، كالزمانية التي حكمت وتحكم صيرورة تأخرنا، لن ترد إلينا هوية مستلبة في عالمٍ متغير ومتقدمٍ بإيقاعاتٍ متسارعةٍ..

والصيغة الثانية هي الخطاب العلماني الذي وضع الهوية موضع الاتهام خاصة من قبل النخب غربية التكوين والثقافة في دول الاستقلالات الحديثة. ولا مراء أنَّ الغرب المتطور والمستعمر، قد حدّد لنا بقدرٍ أو بآخرٍهويتنا السلبية ـ ما نحن عليه من تأخر وتجزئة ـ لكنَّ لا مراء بقدر أكبر بما لا يقاس من اليقين في أنَّ هويتنا الإيجابية يجب أن تكون من صنع أيدينا نحن.

فنحن المطالبون أن نتقدم، وإذا عجزنا عن التقدم، فليس لغيرنا أن يحمل عنا مسؤولية عجزنا. ونحن مطالبون أن نتوحد. فإذا بقينا مجزئين، فليس أن نعزو إلى غيرنا مسؤولية استمرار انقسامنا. والهوة الفصامية التي تفصلنا عن ماضينا لا يمكن لأحد سوانا أن يردمها. وهذه الهوة لا يردمها اختراعنا لأنفسنا هوية ثابتة، سرمدية، لا تزول، ولا تحول.

العالم العربي يعيش في زمان التأخر التاريخي، الزمان القطري، الذي يجزىء حتى التجزئة، ويفكك إلى عشائر وطوائف ومذاهب، وإثنيات، وأقليات، الزمان الذي يباعدنا عن العصر بدلاً من أن يقربنا منه ويعمق الهوة بيننا وبين تقدم ىالآخر(الغرب) بدلاً من أن يردمها، ويحاول التعويض عن عجزه عن بناء المستقبل بعبارة الماضي وبالسباحة في الرمال المتحركة لجميع ضرور السلفيات، تمس الحاجة أكثرمن أي وقت سبق إلى التوكيد على البعد التقدمي والديمقراطي، أي العقلاني والعصري، للهوية التي نريد استعادتها وإعادة بنائها.

في هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: مقاربة في إشكالية الهوية المغرب العربي المعاصر، لمؤلفه الدكتور محمد صالح الهرماسي، الذي رحل عن هذه الدنيا يوم 10 تموز (يوليو) الجاري، ودفن في دمشق، ويُعَدُّ أحد أعمدة الفكر القومي في تونس، يقدم لنا الدكتور الهرماسي تحليلاً موضوعيًا للأزمة التي تعيشها دول المغرب العربي بنسب متفاوتة بوصفها أخطر الأزمات إطلاقاً، حيث يبدو أن العنف الاستعماري في مختلف تجلياته قد نال من مقومات (الذات المغاربية) نفسها وسلبها وعيها التاريخي مقدماً العلمية والمنهجية والتجريد بعد ان انتزع محور اتصالها بالتاريخ والجماعة. 

وهكذا أصبح عدونا فينا وجزءاً من أنفسنا. إنه نفوذ الآخر الذي تسرّب ويتسرّب إلينا وإلى صميم الحياة اليومية عموماً وعلى أرضيتها التربوية والفكرية والثقافية خصوصاً. وقبل الاستقلال وبعده لم يتوقف عن تشويه وعينا التاريخي (بالأنا الذاتية) و(بالنحن الجماعية) وعندما تفقد الذات وتضمحل الأنا تتردى الجماعة ويتلاشى الإجماع فيفقد الانتماء الوطني معناه ووظيفته وتتحول الخيبات المتتالية إلى بواعث محفزة على العنف ضد الجميع أو على الاستقالة من حياة الجميع.

الهوية الشاملة والخصوصية المغاربية

لم تتعامل النخب التي تولت مقاليد السلطة في دولة الاستقلال في المغرب العربي بجدية وموضوعية مع الأركان البنيوية للهوية ولا سيما العروبة والإسلام. وقادها فهمهما المحدود إلى أن عدم وجود دولة الوحدة يعني خرافية ووهمية الذات العربية الواحدة بمضامينها الحضارية الإسلامية، وزاد في (كوزموبوليتية) تلك النخب ما واجهه مشروع الوحدة السياسية العربية من صعوبات، أو ما تعرّض له من تصدّع وانتكاس.

وفي محاولاتها لإقامة الترابط بين شعوبها وبين الأهداف التي حددتها، وترويج شعارات التحديث في نمطه الغربي سعت النخب الحاكمة إلى محاولة فرض هويّة جديدة قوامها إعادة تنشيط الذاكرة الجماعية بتاريخ ما قبل الفتح الإسلامي، وتضخيم الإنجازات والانتصارات خلال القرون الأولى بعد الميلاد، والانفتاح على الغرب، لغة وفكراً وسلوكاً يومياً، كوسيلة جوهرية للتقدم وثقافة فولكلورية قد تكون ممتعة، لكنها في الواقع ليست الثقافة الحقيقة.

ومثلما تعثرت مشاريع التنمية لارتباطها بمرجعية غربية غريبة عن هوية المجتمعات المغاربية إذا أخفقت ـ هي الأخرى ـ محاولات توطين الهوية الجديدة، برغم جميع وسائل الإكراه المستخدمة.

وهكذا تبوّأت قضايا الهوية المكانة الأهم في الفضاءات السياسية والثقافية مؤكدة ـ مرة أخرى ـ استمراريتها دون جمود، وقابليتها للتكيّف دون اضمحلال.

إن المغرب العربي ـ كما نراه ـ جزء لا يتجزأ من الوطن العربي تاريخياً وثقافياً ومصيرياً، ولكنه ذو خصوصية واضحة تتجسد أكثر ما تتجسد في علاقة التكامل بين العروبة والإسلام. وهي علاقة ذات أهمية مفتاحية في قراءة الوضع المغاربي، وما يبرز فيه من قضايا الهوية والحداثة والأطروحة الاساسية التي نقترحها حول هويّة المغرب العربي تتلخص في أن الإسلام ركن حيوي فيها، وأنه لا سبيل إلى حداثة حقيقية تلبي تطلعات الشعوب المغاربية إلا انطلاقاً من مرجعية ثابتة هي الهوية العربية الإسلامية وسياسة تقوم على المشاركة الشعبية.

 

 

إن المغرب العربي ـ كما نراه ـ جزء لا يتجزأ من الوطن العربي تاريخياً وثقافياً ومصيرياً، ولكنه ذو خصوصية واضحة تتجسد أكثر ما تتجسد في علاقة التكامل بين العروبة والإسلام. وهي علاقة ذات أهمية مفتاحية في قراءة الوضع المغاربي،

 



في سياق المحاولات لقراءة الأوضاع في الأقطار المغاربية، يقول الدكتور الهرماسي: بات موضوع الهوية واحداً من الموضوعات الأساسية التي تتصدر النقاشات السياسية والفكرية العربية في العقود الأخيرة. ويبدو أن إثارة هذا الموضوع تأكيداً أو نفياً أخذ في التزايد مع تزايد التحديات التي تفرضها العولمة على الشعوب، وذلك أن الهوية في رأي بعض الباحثين والمفكرين آلية دفاعية متينة تحمي أصحابها من غزو العولمة المتوحشة، ومن هيمنة الثقافة الواحدة. وفي رأي بعضهم الآخر عقبة لا بد من إزالتها، لأنها تحول دون اللحاق بركب الحضارة ودخول العالمية.

وبين اللائذ بأسوار الهوية من شرور العولمة، والمرتمي في أحضان العولمة تخلصاً من أصفاد الهوية، ثم من يرى الحل في هوية منفتحة على العالم وقابلة للاغتناء والتجدد. والمهم في كل هذا أن سؤال الهوية هو اليوم سؤال حقيقي ومصيري إلا أنه ليس سؤالاً حديثاً كما نرى. فمنذ أن عرف العرب الغرب المستعمر الذي فرض عليهم نمطه في الحداثة أصيبوا بصدمة عميقة زلزلت كيانهم ومزّقته، وفرضت بقوّة سؤال الهوية  في مواجهة الآخر الغربي (العدو). ولم يكن السؤال في هذه الحالة يحتمل سوى إجابة واحدة هي: التأكيد على الهوية العربية الإسلامية ولا سيما في مضامينها القومية والدينية الأكثر تعصباً ورفضاً للغرب وحداثته جملة وتفصيلاً. 

ولأنها كانت خط الدفاع الأول عن الذات القومية في وجه الغزو الاستعماري، فقد كانت الهوية مقبولة من الجميع، حتى في صورتها الأكثر إمعاناً في المغالاة والأكثر إندغاماً بالدين. بل إن شخصية سياسية مثل الرئيس الراحل بورقيبة والمعروفة بعلمانيتها الشديدة وعمق معرفتها وانتمائها للثقافة الغربية، وإعجابها بحداثة الغرب، لم تكن تستطيع في حقبة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي (في تونس) إلا أن ترى وتعلن أن الحجاب هو مقوم من مقومات الهوية والشخصية الوطنية. 

وفي الجزائر رفض فرحات عباس (التنازل عن الأحوال الشخصية الإسلامية مقابل تمتع الجزائري بحقوق المواطنة الفرنسية بالرغم من أنه من (المتطورين) الذين أنكروا وجود الوطن الجزائري، واعتبروا مستقبل الجزائر في فرنسا)، ولكن بعد رحيل الاستعمار المباشر وانتهاء خطره، لم يعد سؤال الهوية تأكيداً مطلقاً لها في مواجهة العدو الخارجي، بل غدا سؤالاً تشكيكياً وضع الهوية نفسها في موضع الاتهام من قبل النخب غربية التكوين والثقافة في دول الاستقلالات.

وبعد أن كان التأكيد على الهوية العربية الإسلامية، حتى التضخيم أرضية مشتركة بين معظم القوى السياسية والاجتماعية ميّز مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، فإن مرحلة الاستقلال شهدت خلافاً عميقاً حول الهوية بين متمسك بها كما هي وراغب في تجديدها أو متنكر لها"(ص ص17 ـ 18).

هذا الوضع الأيديولوجي في المغرب العربي، من هذه الزاوية، هو وليد الضغط الاستعماري والامبريالي والصهيوني أكثر مما هو وليد العلاقات الطبقية. وفي هذه البؤرة تحديدا تتولد إشكالية الهوية وعقدة الهوية في آن، والفارق بينهما هو بالأحرى فارق في مستوى الوعي وفي الموقف من الطبيعة والعالم والمجتمع والانسان.

وفي ضوء ذلك نستطيع أن نميز بين رؤيتين للهوية: الأولى، ويمكن حصرها في مجال الفكر والثقافة بل في التراث و"الثقافة الشعبية" فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت السرمدي، والثانية، ويمكن حصرها في مجال التاريخ والصيرورة الاجتماعية، فيرتبط لديها مفهوم الهوية بالفاعلية الإنسانية الحية وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. 

الرؤية الأولى تعكس الصيغة التقليدية لإشكالية الهوية التي ترفض مقولة التعدد والاختلاف. وهذه الرؤية تتبناها عدة أحزاب وقوى قومية تقليدية وجماعات إسلامية أصولية، ترفض الإقرار أن العرب والمسلمين مختلفون في الزمان والمكان أفرادا وجماعات وطبقات وأحزابا وتيارات وشعوبا وأن أحوالهم وعلاقاتهم وأفكارهم وأساليب حياتهم عرضة للتغير. وهذه الرؤية السرمدية والثابتة للهوية تقيم الوثنية على الصعيد المعرفي والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في طبيعة الدولة القديمة والحديثة والمعاصرة في العالم العربي والإسلامي ما يؤكد ذلك.

أما الرؤية الثانية، فهي التي تؤسس الهوية الواقعية على مقولة الحرية بما هي وعي الضرورة، والديمقراطية، والانتماء القومي العربي الحديث بوصفه الانتماء الأحدث في مسار التطور التاريخي على الصعيدين العربي والعالمي، والذي يشكل ضربا من قطيعة مع الانتماءات ما قبل دولة الحق والقانون والمجتمع المدني الحديث لا مع التراث، والعلمانية غير المتعارضة مع الإسلام.

بل إن تفجر الأزمات السياسية والاقتصادية ما لبث أن كشف ضعف وتهافت الهويات المصطنعة، وأعاد الهوية الأصلية المهمة بقوة إلى الفضاءات السياسية والثقافية.

 

 

 

بعد أن كان التأكيد على الهوية العربية الإسلامية، حتى التضخيم أرضية مشتركة بين معظم القوى السياسية والاجتماعية ميّز مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، فإن مرحلة الاستقلال شهدت خلافاً عميقاً حول الهوية بين متمسك بها كما هي وراغب في تجديدها أو متنكر لها

 



ولعل الخطير هنا هو أن العولمة بوصفها محاولة لتدجين الشعوب، وتدمير مناعتها الثقافية والهيمنة عليها، تلتقي موضوعيا مع الأنظمة القطرية التابعة في تهديد الهوية العربية الإسلامية، ومحاولة تغييبها، وفي السعي لفرض الهويات القطرية والمتوسطية والشرق أوسطية، وحتى الطائفية، والعشائرية المستجيبة لحاجات الاستبداد الداخلي والهيمنة الأمريكية على المنطقة.

وإذا كانت مخاطر العولمة الثقافية قد أدت في السنوات الأخيرة إلى إثارة مسألة الهوية على نطاق واسع في العالم العربي، فإن المغرب العربي قد عرف هذه القضية، قبل ذلك بعقود من الزمن وتحديدا منذ الاستقلال، حيث أدت الآثار الاجتماعية والثقافية العنيفة التي خلفها الاستعمار، لا سيما على الصعيد اللغوي، إلى بروز مشكلة الهوية في شكل صراع بين تيار عروبي رأى في الثقافة العربية الإسلامية، وفي اللغة العربية بشكل خاص، المرجع الأوحد للهوية، وتيار (فرنكوفوني) انصرف همه إلى البحث عن هوية جديدة خارج المرجعية العربية الإسلامية. فكانت قضية التعريب المستمرة إلى اليوم، في بعض دول المغرب العربي، أحد أوجه هذا الصراع.

إن خصوصية المغرب العربي، مقارنة مع المشرق العربي، ليست موضع خلاف، فهي مسألة موضوعية من حيث وجودها، لكن الخلاف هو بين تأويلاتها. فإحدى هذه الخصوصيات، هي التطابق بين العروبة والإسلام، لأن المغرب العربي يكاد يخلو من التعدد الديني والإسلام السني "المذهب المالكي" دين الجميع. ولكن المغرب العربي يشترك مع المشرق العربي في المكونات البنيوية للهوية، ونقصد بذلك، اللغة العربية، والإسلام، والثقافة العربية الإسلامية، والهوية القومية العربية الشاملة.

يقول الدكتور الهرماسي: "ولتوضيح العلاقة بين الهوية والخصوصية في المغرب العربي يجدر بنا التمييز بين العام والمشترك في هذه الهوية. ونقصد بذلك اللغة العربية والإسلام والثقافة العربية الإسلامية، حيث تشترك الأقطار المغاربية معاً في هذه المكونات البنيوية كما تشترك فيها مع أقطار المشرق العربي. 

وبين الخاص في هذه الهوية (العادات، والتقاليد، والذوق العام ...) حيث إن للمغرب خصوصية إقليمية تميزه من المشرق وخصوصية قطرية خاصة بكل قطر من اقطاره. فالخصوصية المغاربية (الإقليمية) جزء لا يتجزأ من الهوية العربية الإسلامية، والخصوصية الجزائرية أو التونسية (القطرية) هي أيضاً جزء لا يتجزأ من هذه الهوية، ولكنه الجزء المتغير الذي يشكل نوعاً وإثراء داخل الهوية الواحدة.

إن الخصوصيات ـ إقليمية كانت أو قطرية ـ هي ـ كما ذكرنا ـ جزء من الهوية يتكامل ويتفاعل مع جزئها البنيوي الثابت، ويغني الهوية القومية الشاملة أيما إغناء. وإذا كان المجال لا يتسع هنا لرصد الخصوصيات القطرية في المغرب العربي، فإن الممكن الإشارة إلى أبرز ملامح الخصوصية الإقليمية المغاربية"(ص35).

 


التعليقات (0)