النفاق الوبائي في مجتمعاتنا

تحميل الولايات المتحدة وزر كل الرزايا والبلايا التي حاقت بنا، بات سنة إعلامية مؤكدة، والتهمة جاهزة: "الكيل بمكيالين" والتطفيف عند الكيل، ونكاية في أمريكا هللنا لهوغو شافيز رئيس فنزويلا الراحل، لأن غوغائيته فيما يتعلق بتحرير أمريكا الجنوبية من سطوة الأمريكان راقت لنا، فغفرنا له أنه ماركسي، في نفس الوقت الذي كنا فيه نتهم الماركسيين المحليين بالعمالة والكفر واستيراد بضاعة انتهت صلاحيتها، وكان ذلك امتدادا لعشقنا لأرنستو غيفارا، فتغاضينا عن "شيوعيته" ورفعناه في مرتبة أعلى من أبطالنا التاريخيين: صلاح الدين الأيوبي وصحبه من السالفين واللاحقين.

العيش طويلا في ظل أنظمة قمعية علمنا التقية التي قد تستوجب الكذب والنفاق في كل المجالات، بل صرنا نتعامل مع تعاليم الدين بانتقائية، والتي هي ازدواجية مُرَكَّبة، فلا تفريط في فروض الصلاة والصوم، أما الزكاة فقد نخضعها لحكم صلاة الجنازة (إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين)، بدرجة أن كثيرين باتوا يحسبون أن الزكاة أمر يخص أهل اليسار المعلومين بملايينهم، وحتى من يستطيع سبيلا ماديا للحج يتعلل بانعدام السبيل في مجال الوقت.

ولهذا ترى في هذا البلد المسلم أو ذاك الصفوف متراصة في كل مسجد فتحسب أن طالبان تحكمها، ثم ترى احتشاد الناس في الملاهي والمقاهي والأسواق وألسنتهم تنطق بحوشي الألفاظ فتحسبهم قوم عاد، وإن هي إلا برهة ويرسل الله عليهم "رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ".

وجاء في دراسة أعدها البروفسر رشاد عبد اللطيف، أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان في مصر أن الشخصية المصرية مليئة بالتناقضات، ويصعب من ثم التعرف على حقيقة الإنسان المصري، ويضرب مثلا بأن الرجل المصري قد يفخر بزميلته في العمل لكونها شاطرة وواثقة من نفسها وطموحة، ومثال للمرأة العاملة الناضجة، ولكنه يريد لزوجته ان تلزم البيت. ويشجع أحد أندية كرة القدم لدرجة الهوس، ويضع صور بعض لاعبي ذلك النادي في غرفة الجلوس، ويستخدم علم ذلك النادي وشاحا، ولكن ما أن يجد إبنه يلعب الكرة حتى يزجره: بلاش تضيّع وقتك في الكلام الفارغ مع عيال شوارعية. 

وقال الاستاذ رشاد: إن الآلاف الذين وقفوا نهارا في الطوابير طويلا للتصويت للأحزاب الإسلامية خلال الانتخابات البرلمانية المصرية التي انتهت بفوز تنظيم الإخوان المسلمين بالكثير من المقاعد البرلمانية، وقفوا في طوابير أطول في الأمسيات لمشاهدة فيلم للراقصة دينا اسمه "شارع الهرم" حتى حطمت إيرادات الفيلم الأرقام القياسية. 

وسائق السيارة في المدينة المصرية، يكسر كل قوانين المرور ويشتم السائقين الآخرين بأقذع الألفاظ المتصلة بالعورات، ثم يغلق راديو أو مسجل السيارة فور سماع الآذان، ويرفع يديه عن عجلة القيادة ويمسح بها وجهه وهو يردد الشهادتين، والممثل المصري يؤدي العمرة والحج ثم يعود إلى "الشغل"، ولا يرى بأسا في بوس واحتضان زميلاته الممثلات لأن السيناريو "عايز كده"!!

العيش طويلا في ظل أنظمة قمعية علمنا التقية التي قد تستوجب الكذب والنفاق في كل المجالات، بل صرنا نتعامل مع تعاليم الدين بانتقائية، والتي هي ازدواجية مُرَكَّبة، فلا تفريط في فروض الصلاة والصوم، أما الزكاة فقد نخضعها لحكم صلاة الجنازة

وحقيقة الأمر أننا جميعا "ذلك الرجل"، أو تلك الشخصية، وكل ما قاله الأستاذ رشاد عن الشخصية المصرية ينطبق على عموم العرب والمسلمين، فكلنا نقول ما لا نفعل، ولا نقرن القول بالفعل، ونعاكس البنات في مجمعات التسوق وفور رفع الآذان نتجه إلى المصلى: أستغفر الله.. وسمع الله لمن حمده، وبعد الصلاة: نظرة يا جميل وأنا أركع تحت رجليك وأبوس التراب اللي تمشين عليه"، وننهى صغارنا عن الكذب ويرن الهاتف ونلقي نظرة على الرقم الذي تم منه الاتصال ونقول لأحد صغارنا: رد على المكالمة وقول إن بابا سافر ونسي يأخذ التلفون وياه.

أما النفاق الديني والاجتماعي فتجده عند الشخصية العربية عندما تكون زائرة لبعض العواصم الأوروبية: مع ملامسة الطائرات أرض المطارات الغربية، تختفي كثير من العباءات ويتناثر الشعر الغجري، الأسود كالليل والناعم كالحنان والطويل كنظرات المتطفلين (أدرك أنني دخلت في "دور" غزل، ولكنني أحفظ هذه العبارة منذ طالعتها في رواية ما وأنا تلميذ بالمدرسة المتوسطة). ويختفي الجلباب العربي ومعه الغترة والعمامة فتجد رجلا مكعكعا يرتدي الشورت وساقاه أرفع من ساقي النعامة. والشيء الوحيد الذي يعرف السائح العربي أن حرمته مؤكدة في أي دولة أجنبية هو لحم الخنزير، أما "اللحوم" الأخرى، والمشروبات المحفزة لتناولها فهي غاية الأماني والمراد،.. والله غفور رحيم.

فالدين عندنا بات مرتبطا بالمظاهر والقشور، فالاحتشام عند المرأة لم يعد عند الكثيرات يرتبط بالسلوك، بل فقط بإحكام غطاء الرأس، بينما تكاد مواطن العفة تصرخ لتخرج مما هي فيه من "ضِيق"، وصار بعض الرجال عندنا يحسبون أنهم محتشمون فقط بحكم ذكوريتهم، ولا بأس عليهم إذا ارتدوا الشورت وكشفوا الأفخاذ والصدور.
 
وفي الأيام الأولى من شهر رمضان ترى الورع وحسن الخلق بالعين المجردة، فحتى من لا يصلون يصومون، وتشهد الشوارع انسيابا عذبا في حركة المرور، فلا أبواق ولا شتائم بين سائقي السيارات، ثم ينقضي الأسبوع الأول من الشهر فترتد ريمة إلى عاداتها القديمة، ويصبح الصوم مبررا لسوء السلوك والتلفُظ: أوووه صايم لا تخليني أخرج عن طوري؛ وهكذا حتى حسن التدين الموسمي يكون قصير الأجل، ولو أردت شاهدا على ذلك انظر كيف يهبط عدد من يرتادون المساجد إلى النصف تقريبا بعد انقضاء رمضان.

جمعتني الظروف في مدينة واشنطن بالأمريكية المسلمة سكينة، وكان اسمها في الأصل مارغريت، وحكت لي كيف كانت سعيدة بالحصول على فرصة عمل في بلد مسلم، ثم كيف اكتشفت أن الإسلام الذي تمثل في سلوك وكلام غالبية أهل ذلك البلد كان مختلفا عن الإسلام الذي درسته وأحبته واعتنقته عن اقتناع شخصي، لكونه يتمظهر فقط في العبادات وليس المعاملات، فكان أن قررت الهرب بدينها إلى وطنها الأصلي الولايات المتحدة.
 
وأختم مقالي هذا بمقولة للكاتب المغربي سعيد ناشيد يتناول فيها أبشع تجليات النفاق: ألا تكترث لفساد الرشوة والتهرب الضريبي وتبييض الأموال، وفساد جهاز القضاء، والغش فى السلع والمنتجات، وفساد مافيات المخدرات، ثم ترى الفساد كل الفساد فى مجرد تنورة أو سروال قصير؟