أفكَار

حرية التعبير في فرنسا.. هل هي حق دستوري أم رياء سياسي؟

لماذا تمنع فرنسا التظاهر لصالح فلسطين وتضيق على المسلمين لديها؟ (الأناضول)
لماذا تمنع فرنسا التظاهر لصالح فلسطين وتضيق على المسلمين لديها؟ (الأناضول)

شهدت حرية التعبير في الأسابيع الأخيرة انتكاستين معتبرتين وكانتا على صلة بالشأن الفرنسي ولكن الدولة تعاملت معهما بطريقتين مختلفتين. فقد حظرت محافظة شرطة باريس يوم الخميس 13 أيار (مايو) الماضي المظاهرة المؤيدة للشعب الفلسطيني والمدينة للعدوان الإسرائيلي على غزة، بتوصية من وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان وبتعلة "مخاطر الإخلال بالأمن العام". وقد برر الوزير توصيته بحظر المظاهرة التي كانت مقررة ظهر يوم السبت 15 مايو بعمله على تجنب أعمال شغب مشابهة لما حصل عام 2014. ثم أيّد القضاء هذا القرار لاحقا. 

وسحبت وزارة الاتصال الجزائرية اعتمادا من القناة الفرنسية "فرانس24"، و"الدافع وراء سحب الاعتماد" حسب عمار بلحيمر وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة "هو العداء الواضح والمتكرر للدولة الجزائرية ومؤسساتها وعدم احترام قواعد آداب المهنة والتضليل والتلاعب، فضلا عن العدوانية المؤكدة تجاه الجزائر". وعبرت وزارة الخارجية الفرنسية عن أسفها لهذا السحب وذكرت في بيانها يوم 14 حزيران (يونيو) الماضي أن "فرنسا تدافع عن حرية التعبير والصحافة في العالم والحرية حق عالمي وأساسي يجب ان يكون محميا، وفرنسا متسمكة به جدا". 

ولا يتجاوز الفاصل الزمني بين موقف فرنسا المحاصر لحرية التعبير وموقفها "المتمسك جدّا به" الشهر تقريبا. فمثّل لنا هذا التضارب في المواقف حافزا لعرض الحق في حرية التعبير في فرنسا بين المبادئ الدستورية والممارسة السياسية والتذكير بأحداث متباعدة في الزمن متقاربة في الجوهر.
 
1 ـ الدستور الفرنسي واحة لحرية التعبير

مما ورد في المادة الرابعة من ديباجة الدستور الفرنسي الصادر عام 1958 والمتضمن لمختلف التعديلات حتى العام 2008 "تكفل القوانين حق التعبير عن الآراء المختلفة والمشاركة العادلة للأحزاب والجماعات السياسية في الحياة الديمقراطية للأمة". 

ويذيّل هذا الدستور بديباجة الصيغة الصادر في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 1946 "حفاظا منها على مهمتها التقليدية تهدف فرنسا إلى أن تقود الشعوب التي حملت مسؤوليتها نحو الحرية في أن تدير نفسها ذاتيا وفي أن تسير شؤونها الخاصة بطريقة ديمقراطية. وباستبعاد كل نظام استعماري قائم على التعسف فإن فرنسا تكفل للجميع المساواة في الوصول إلى المناصب العامة والممارسة الفردية أو الجماعية للحقوق والحريات التي تم إعلانها أو تأكيدها أعلاه". 

وضمن الباب "إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 آب (أغسطس) 1789 جاء في المادة العاشرة: "لا يجوز إزعاج أحد بسبب آرائه حتى وإن كانت دينية شريطة ألا يخل الإعلان عنها بالنظام العام المحدد وفي القانون". وأشارت المادة الحادية عشرة للحق في حرية التعبير وحرية الإعلام بما يلي: "إن حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي واحدة من أثمن حقوق الإنسان. بالتالي يجوز لأي مواطن أن يتكلم، يكتب وينشر بحرية، باستثناء ما هو بمثابة إساءة استخدام لهذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون". 

ومن شأن هذه الترسانة من المواد أن تجعل من فرنسا واحة لحرية التعبير. واعتمادا على هذه القيم كان الساسة الفرنسيون يجدون أنه من الطبيعي أن يتفانوا في الدفاع عن هذا الحق مهما كانت الإكراهات أو التضحيات. وكانوا يبرّرون دائما مناصرتهم للرسوم المسيئة للرسول في صحيفة شارلي إيبدو رغم الأزمات السياسية التي تخلقها لبلادهم. 

 

تأمل السياسية الفرنسية ذات الصلة بحرية التعبير على مدى الأربعين سنة الأخيرة يكشف قدرا كبيرا من الرياء لتبرير ممارسات عنصرية بغيضة بحق العرب والمسلمين، فيجعل منع هذه التظاهرة دعما للفلسطينيين حلقة جديدة من حلقاتها.

 



فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على سبيل المثال، لم يبد أي مرونة بعد اغتيال المدرس الفرنسي صامويل باتي في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2020 على خلفية عرضه لهذه الرسوم لطلبته، مصرّحا "لدينا مسؤولون سياسيون ودينيون من جزء من العالم الإسلامي قالوا بشكل منظم، عليكم تغيير هذا الحق في حرية التعبير، وهذا الأمر يصدمني، فأنا مع احترام الثقافات والحضارات؛ لكني لن أغير حقي لأنه يثير صدمة في الخارج". 

لقد ظلت هذه الرسوم تنشر باستمرار رغم ما فيها من ازدراء للأديان ورغم أنّ إعادة نشرها يجرّدها من وظيفة التعبير عن الرأي ويجعلها استفزازا لمشاعر المسلمين وتحرّشا بهم، ومع ذلك ورغم أنّ المادة الحادية عشرة تستدرك بالقول "باستثناء ما هو بمثابة إساءة استخدام لهذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون"، فتجعل هذه الحرية مسؤولة وغير مطلقة، يمكن للمرء أن يجد في هذه السياسة التزاما ما بالدستور الفرنسي. ولكن تأمل السياسية الفرنسية ذات الصلة بحرية التعبير على مدى الأربعين سنة الأخيرة يكشف قدرا كبيرا من الرياء لتبرير ممارسات عنصرية بغيضة بحق العرب والمسلمين، فيجعل منع هذه التظاهرة دعما للفلسطينيين حلقة جديدة من حلقاتها.

2 ـ من حرية التعبير إلى شرخ الضمير

لا يمثل ما سنورد من الوقائع ومن المحاكمات غير عينات مختارة تكشف مدى تناقض الممارسات السياسية الفرنسية مع مبادئ هذا الدستور ونقتصر على قانوني "منع الرموز الدينية" ومناصرة فرنسا للدكتاتوريات على حساب الشعوب المتطلعة للحرية.

أ ـ منع الرموز الدينية

تدرجت فرنسا في التضييق على مسلميها وفي سلبهم الحريات التي يمنحها لهم الدستور الفرنسي. ففي مرحلة أولى، وفي شباط (فبراير) 2004 تحديدا، تم حظر "الرموز والملابس التي تُظهر بجلاء الانتماء الديني للطلاب" تحت عنوان "احترام مبادئ الجمهورية" و"عملا على تطبيق مبادئ العلمانية في المدارس الإعدادية والثانوية". 

وكان هذا القانون يستهدف أساسا حظر الحجاب الإسلامي في المدارس الحكومية. ووصف القانون وقتها من قبل كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومان رايتس ووتش، بكونه "تعديا لا مبرّر له على الحق بممارسة المعتقدات الدينية". فقد اعتبر أنّ ارتداء الحجاب عند طيف هام من المسلمين، أكثر من تعبير ديني. فهو، من وجهات نظر معينة، واجب ديني وأنّ لا وجود لسبب قاهر يتعلق بالسلامة العامة يدعم هذا الإجراء. 

ويتم استكمال المرحلة الثانية من هذه السياسة الآن (ربيع 2021). فقد تم التصويت على قانون يحظر ارتداء الرموز الدينية في الأنشطة خارج المدرسة بعد أن مرر المجلس تعديلا للقانون المسمى: "احترام مبادئ الجمهورية". ويستهدف هذا الملحق توسيع الحظر ليشمل منع ارتداء الرموز الدينية بشكل واضح لمن يرافقون التلاميذ في الأنشطة خارج المدرسة، بما فيهم أمهات التلاميذ. 

ب ـ مناصرة فرنسا للدكتاتوريات.. الوجه والقفا 

خلال الثورة التونسية عبرت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال آليو ماري عن استعداد بلادها لمساعدة الرئيس زين العابدين بن علي في قمع الاحتجاجات الشعبية الواسعة. وواجهت وقتها انتقادات جمة. وانتهى الأمر باستقالتها من منصبها وباعتبار ما حدث خطأ دبلوماسيا فرديا للوزيرة أو تصرفا انتهازيا خاصّة أن تقارير إعلامية فرنسية أكدت أنها أمضت عطلة نهاية السنة 2010 في جزيرة جربة، والثورة التونسية في أوج توهجها والقمع البوليسي على أشده، على حساب رجل أعمال من دائرة المقربين من بن علي ونظامه.. 

ولكن لهذا الوجه قفا مختلفا. فتأمل السياسة الخارجية الفرنسية مع دول الربيع العربي يكشف أن الأمر أعمق من تصرف فردي شاذ وأن فرنسا اختارت دائما التحالف مع الدكتاتوريات على حساب الباحثين عن الحرية وأن ميشال آليو ماري كانت تعبّر عن الموقف الرسمي الفرنسي تجاه هذه الثورات. فقد كانت تدعم القوى المضادة للثورة دعما سافرا تأمينا لاستمرار حلفائها في الحكم ولاستمرار عقد صفقات بيع السلاح ووضع اليد على مدخرات البلدان العربية.

3 ـ الوجه العنصري لفرنسا التي تفتن الكثيرين منّا

هل نتسلح بأقصى قدر من حسن النية، فنعتبر أن الأصل في السياسة الفرنسية هو مناصرة حرية التعبير وأنّ التضييق عليها انحراف وشذوذ؟ تبين الورقة التي بين أيدينا أنّ هذه الانحرافات كانت تتم وفق القانون نفسه. فقد كانت تتدرّج دائما من الشدة إلى تشدّد أكبر وفي الآن نفسه كانت توجه غالبا ضد بلدان العالم الثالث، خاصة بلدان إفريقيا والبلدان العربية والإسلامية أو المواطنين الفرنسيين الذين ينحدرون من هذه الأصول، وتخدم اللوبيات الصهيونية ولوبيات المال. 

وكثيرا ما كان الجسدان يتقاطعان في جسد واحد. والنتيجة واحدة أيضا. وهي التضييق من حرية التعبير وحرية الضمير لدى هؤلاء، وتوظيف القيم النبيلة توظيفا منافقا يكشف عن عمق عنصري لهذه السياسات. إذ تعرف العنصرية في القانون بكونها مجموعة من السلوكيّات والمعتقدات تعلي من شأن فئة وتعطيها الحق في التحكّم بفئةٍ أخرى، وتسلب حقوقها كافّة كون الفئة الثانية تنتمي لعرق أو دين ما، فتعطي الفئة الأولى نفسها الحق في التحكّم بمصائرهم وبممتلكاتهم وبكينونتهم. 

ولكن هذا التضييق أضحى يتوسّع ليشمل عامة المواطنين الفرنسيين. فقد أقر البرلمان الفرنسي في منتصف نيسان (إبريل) الماضي من هذه السنة نسخة معدّلة من مشروع قانون "الأمن الشامل" الذي اقترحه حزب الرئيس ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" والذي يحظر نشر صور أفراد الشرطة "خلال أداء مهامهم في حفظ النظام الشامل"، ويفرض عقوبات صارمة على مخالفيه، رغم معارضة وسائل الإعلام الفرنسية وأحزاب اليسار ومنظمات المجتمع المدني. 

ومما يدعم اعتقادنا تقرير منظمة العفو الدولية لشؤون أوروبا في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. فقد جاء فيه أن "الحكومة الفرنسية ليست نصيرة حرية التعبير كما تزعم. ففي عام 2019، أدانت محكمة فرنسية رجلين بتهمة "الازدراء" بعد أن أحرقا دمية تمثل الرئيس ماكرون خلال مظاهرة سلمية. ويناقش البرلمان حالياً قانوناً جديداً يجرّم تداول صور المسؤولين عن إنفاذ القانون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. 

ومن الصعب التوفيق بين هذا التوجه وبين دفاع السلطات الفرنسية الشرس عن حق تصوير النبي محمد في رسوم كاريكاتورية". 

وأضاف في فقرته الأخيرة: "إن سجل فرنسا في حرية التعبير في مجالات أخرى قاتم بنفس القدر. ففي كل عام يُدان آلاف الأشخاص بتُهمة "ازدراء الموظفين العموميين"، وهي جريمة جنائية مُعرَّفة بشكل غامض وطبقتها سلطات إنفاذ القانون والسلطات القضائية بأعداد هائلة لإسكات المعارضة السلمية. ففي حزيران (يونيو) من هذا العام، وجدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن إدانة 11 ناشطاً في فرنسا بسبب قيامهم بحملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية تنتهك حقهم في حرية التعبير".

لا شكّ أنّ قارئ هذه الورقة لا يجهل هذه المعطيات، وربما عرض نماذج أخرى أكثر دلالة على ما تدّعي. ولكننا نذكّر وحسبنا أن الذكرى تنفع المفتتنين بالسياسات الفرنسية المبررين لكل فظاعاتها، وتنزل منع التظاهر دعما للفلسطينيين ضمنها.


التعليقات (0)