ما حدث في الأيام الأخيرة يؤكد أن
فلسطين قضية لن تموت أو تدفن ويلقى بها في سلة التاريخ. قد تضعف، قد ينقسم أهلها، قد يُقتل قادتها، قد تخسر مساحات من الأرض، قد تلتف حولها الذئاب لتنهش جسمها الطاهر، لكن في النهاية وبشكل غير مرتقب تعود بقوة إلى الحياة وإلى الذاكرة، وتستفز الضمير العالمي، فيعود لكي يلوم نفسه، ويرفض أن يبقى أصحابه في حالة استحمار متواصل.
من كان يتوقع أن تنتفض فلسطين، كل فلسطين، بهذه الطريقة الموحدة والفعالة؟ انهارت كل تلك الحواجز التي اشتغلت عليها المخابرات الإسرائيلية منذ عشرات السنين، وغذتها صراعات الداخل وأنانيات القادة وحسابات الفصائل، ومصالح الأنظمة، وأوهام الأيديولوجيات. تمزق الجسم الفلسطيني، وأصبح كل جزء يفكر في ذاته ومشغول بهمومه ومشاكله الصغيرة. ضاعت الوحدة الوطنية، وكاد أن يتبخر الحلم المشترك.
من كان يتوقع أن تنتفض فلسطين، كل فلسطين، بهذه الطريقة الموحدة والفعالة؟ انهارت كل تلك الحواجز التي اشتغلت عليها المخابرات الإسرائيلية منذ عشرات السنين
انتهت قصة أوسلو منذ زمن، ولم يبق منها شيء ذو فائدة مهما كان بسيطا. بل حصل العكس، تحولت أوسلو التي راهن عليها عرفات، وظن أنه بالإمكان عن طريقها بناء "سلام الشجعان"، فإذا بالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تشرع بعد التوقيع على الاتفاق في تنفيذ سلسلة غير متناهية من المناورات والأكاذيب والخدع، حتى ضاعت القيادة الفلسطينية، ولم تعد قادرة على الاستمرار في إقناع مواطنيها بأن المشروع الوطني لا يزال قائما.
إسرائيل لا تريد سلاما، ولن تسمح بقيام دولة فلسطينية، ولن تترك القدس أو حتى جزءا صغيرا من القدس للفلسطينيين، وهي مستمرة في تهويد المدينة المقدسة، وفي بناء غابات من المستوطنات. فمتى تصدق السلطة الوطنية أن المسرحية انتهت، وأن موازين القوى قد اختل تماما، وأن عليها أن تغادر المربع الإسرائيلي؟ فشعبها قد مل وجاع واختنق، ولن يخسر المزيد إذا انتفض كرجل واحد، وقرر تعديل الكفة، والدخول في صراع شامل مع أعدائه.
ما حصل مؤخرا هو وضع القضية في سياق مختلف، فإقدام الآلة العسكرية الإسرائيلية على ارتكاب هذا الحجم الضخم من الجرائم والتدمير العشوائي للبنايات وقتل المدنيين بالجملة بما في ذلك النساء والأطفال؛ دليل على الارتباك. القادة الإسرائيليون لا يزالون يعتقدون بأن القتل وتدمير البنى التحتية وكل مظاهر العمران من شأنه أن يثير الرعب، ويطمس الحقائق، ويدفع نحو الاستسلام. هذا ما كانت تقوم به جيوش المغول سابقا، لكن هذه السياسة بالذات هي التي خلقت لدى الشعوب المستهدفة ومنهم المسلمون إرادة
المقاومة، وجعلتهم يتصدون للغزاة، ويحررون من جديد كل الأراضي التي تمت السيطرة عليها، وانتهوا في آخر المطاف إلى نشر الإسلام في صفوف أعدائهم السابقين، وحولوهم إلى قوة داعمة بعد أن كانوا قوة طاغية.
ما حصل مؤخرا هو وضع القضية في سياق مختلف، فإقدام الآلة العسكرية الإسرائيلية على ارتكاب هذا الحجم الضخم من الجرائم والتدمير العشوائي للبنايات وقتل المدنيين بالجملة بما في ذلك النساء والأطفال؛ دليل على الارتباك
لا بد من حسن قيادة المعركة في هذا المنعرج الحاسم.. ليست معركة حماس بقدر ما هي معركة الشعب الفلسطيني بكل فئاته. حذار من اللعب على وتر الصراع الأيديولوجي في هذه اللحظات الدقيقة، إذ كل محاولة لتأليب الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي لمواجهة قصة "الإسلام السياسي"، هي مغالطة وانحياز إلى العدو الإسرائيلي الذي يبحث عن تزوير الصراع وتحويله إلى صراع ديني.
هناك شغل كبير يجب أن يتم هذه الأيام لكسب الرأي العام الأمريكي والدولي، رغم قوة وحرفية الإعلام الذي يدور في الفلك الصهيوني. لا بد من تثمين الاختراقات الشجاعة والهامة التي يقوم بها صحفيون ونشطاء وسياسيون ومثقفون من دول غربية ومنظمات دولية وإقليمية ذات مصداقية، فهؤلاء قدموا شهادات ولا يزالون لها رمزية مهمة قد تضع زعماء وحكومات في التسلل والشعور بالحرج.
في هذا السياق، يجدر التوقف عند المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تعتبر من السياسيين العقلاء. هي سيدة متدينة، وشجاعة، اكتسبت احترام الألمان وتقدير العالم، مع ذلك ارتكبت خطأ قاتلا هذه الأيام. إذ اعتبر الناطق باسم حكومتها أن إطلاق حركة حماس صواريخ باتجاه إسرائيل يشكل "هجمات إرهابية". وأضاف: "إنها هجمات إرهابية لها هدف وحيد قتل الناس عشوائيا وزرع الخوف"، وأن حكومة ميركل تدعم "حق إسرائيل في الدفاع المشروع عن النفس في وجه هذه الهجمات"!
لا بد من تثمين الاختراقات الشجاعة والهامة التي يقوم بها صحفيون ونشطاء وسياسيون ومثقفون من دول غربية ومنظمات دولية وإقليمية ذات مصداقية، فهؤلاء قدموا شهادات ولا يزالون لها رمزية مهمة
يقال هذا الكلام بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه تهمة ارتكاب جرائم حرب إلى إسرائيل، وبعد انتقاد جميع منظمات
حقوق الإنسان للممارسات الإسرائيلية البشعة، وبعد العدوان الفظيع على حق العبادة داخل المسجد الأقصى، وبعد القصف المتواصل لمدينة
غزة وقتل النساء والأطفال، وبعد إطلاق الرصاص الحي ضد المدنيين لمجرد ممارسة حقهم في التظاهر والاحتجاج بالضفة الغربية. أبَعد هذا كله يصبح أبناء غزة هم المعتدون، وتصبح إسرائيل هي الضحية؟
يا سيدتي لقد أخطأت المرمى، العنوان الحقيقي لحقوق الإنسان في هذه المرحلة بالذات هو فلسطين، وأي محاولة للقفز والهروب من مواجهة المأساة هي ردة إلى الخلف. مع ذلك، على الفلسطينيين والعرب تجنب كل ما من شأنه أن يجعلهم يخسرون قضيتهم، ويتورطون في تعزيز صفوف الجبهة المضادة لحقوقهم المشروعة. عليهم أن يكسبوا الرأي العام الدولي من جديد، ويعمقوا العزلة الدولية للدولة العبرية، وما يحصل حاليا فرصة ذهبية لا يجوز تضييعها والعبث بها من قبل هذه الجهة أو تلك.