قالت الكاتبة زها حسن؛ إنه لا مفر من استمرار الصراع في الشرق الأوسط، ما لم تضع واشنطن حدا لحصانة إسرائيل من المساءلة والحساب، وتضم الفلسطينيين إلى أجندتها الديمقراطية العالمية.
وأضافت حسن في مقال بمجلة "فورين بوليسي" ترجمته "عربي21"، أن الانفجار الحاصل في الأراضي الفلسطينية، كان نتيجة حتمية لإنكار إسرائيل الدائم للحقوق والحريات الفلسطينية الأساسية، ونتيجة لمصفوفة التمييز والتحكم الذي تفرضه إسرائيل على كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية، ونتيجة للحصار المستمر على غزة، الذي حول الحياة هناك إلى جحيم لا يطاق.
اقرأ أيضا: صحف غربية: حلفاء إسرائيل الجدد من العرب في حرج شديد
وتابعت حسن بالقول: "لطالما أجادت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إدارة التهافت والنفاق، إلا أن البقاء في عزلة والابتعاد كثيرا عن هذه الالتزامات والقيم حين يتعلق الأمر بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين، من شأنه أن يكشف نقاط الضعف لدى حكومة الولايات المتحدة.
وفيما يلي نص مقال زها حسن:
لا تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن الموجة الجديدة من العنف والموت والدمار التي تجتاح الآن إسرائيل والمناطق الفلسطينية التي تحتلها وتسيطر عليها. ولكن كان ينبغي على واشنطن توقع حدوث ذلك.
كان هذا الانفجار نتيجة حتمية لإنكار إسرائيل الدائم للحقوق والحريات الفلسطينية الأساسية، ونتيجة لمصفوفة التمييز والتحكم الذي تفرضه إسرائيل على كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية، ونتيجة للحصار المستمر على غزة، الذي حول الحياة هناك إلى جحيم لا يطاق. تبنت حكومة الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن موقفا مألوفا يبعث على الاكتئاب، تمثل في مطالبات لا معنى لها بضبط النفس من قبل الجانبين، كما تمثل في قطع الطريق على أي فعل يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن الدولي، والاختفاء وراء فكرة غير معقولة، مفادها أن واشنطن لا تملك أوراق ضغط على أقرب حلفائها وأكثرهم استفادة من مساعداتها.
شهدت الأسابيع الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في الإجراءات الإسرائيلية العدوانية تجاه الفلسطينيين في القدس
شهدت الأسابيع الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في الإجراءات الإسرائيلية العدوانية تجاه الفلسطينيين في القدس الشرقية (وبشكل خاص داخل وحول المسجد الأقصى والبلدة القديمة خلال شهر رمضان)، وأساليب شرطية مستفزة، وإعطاء الضوء الأخضر للمسيرات التي ينظمها المتطرفون اليهود في إسرائيل، والمضي قدما في خطة لإخلاء العائلات بالقوة من منازلهم في حي الشيخ جراح، إحدى مناطق القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل. تصادف كل ذلك مع سخط داخلي فلسطيني بسبب قرار محمود عباس إرجاء الانتخابات الفلسطينية، التي كان من المقرر أن تُجرى بعد انقطاع استمر خمسة عشر عاما، إلى أجل غير مسمى.
والآن، تواجه هذه الإدارة التي بدا كما لو أنها أسقطت من أولوياتها منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، احتمالات الدخول في اشتباك لا مفر منه مع ضرام طويل المدى. ويعلم ذلك بشكل جيد طاقم الدبلوماسيين المخضرمين الذين شكل منهم بايدن فريقه للأمن القومي؛ فقد أثبتت تجاربهم في العمل الحكومي أن اجتماعات ويوميات المسؤولين ونوابهم يمكن بكل سهولة أن تستهلك من قبل صراعات الشرق الأوسط، وخاصة إذا ما كانت واشنطن متخلفة عن مواكبة التطورات.
لئن كان الإسرائيليون والفلسطينيون هم الفاعلون الأساسيون في التطورات الحالية، إلا أن الولايات المتحدة بالاستتباع، وبدون جدال، هي أبرز الفاعلين الخارجيين في هذه المنطقة. وإذا ما استمرت واشنطن في إساءة فهم هذا الملف أو إساءة التعامل معه، فإن عواقب إنكار إسرائيل للحقوق الفلسطينية من المؤكد أنها ستفرض نفسها على أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي تفضل أن تركز جل اهتمامها على منطقة أخرى من العالم.
يجدر بالإدارة الجديدة أن تهتم ليس فقط بما يمكن أن ينجم عن ذلك من إرباك محتمل، بل هنالك على الأقل خطران إضافيان. أما الأول فهو محلي، حيث إن جزءا من الحزب الديمقراطي والكتلة التابعة له داخل الكونغرس، يصران بأشكال غير مسبوقة على تطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان والقانون الدولي في التعامل مع الفلسطينيين. يجد هذا التوجه نفسه في وضع غير مريح مع الجناح الأكثر محافظة داخل الحزب، الذي عمل تاريخيا على منح إسرائيل استثناءات، إذ يُخضعها لمعيار أدنى ويقر السرديات التي ترد من إسرائيل ومن اليمين الأمريكي.
يعكف نشطاء حقوق الإنسان -بما في ذلك الفلسطينيون والإسرائيليون والمجموعات العالمية– على توثيق الممارسات الإسرائيلية التي يقولون إنها ترقى إلى ارتكاب جريمة الأبارتايد (التمييز العنصري)، في الوقت الذي يتنادى فيه الديمقراطيون للانضواء تحت راية العدالة العرقية، الأمر الذي من شأنه أن يصعب إلى حد بعيد الإبقاء على فكرة أن العدالة أمر مرغوب فيه إلا في حالة الفلسطينيين. كما أن أداء مثل هذه البهلوانية الخطابية سيكون أشد صعوبة في الساحة الدولية، وخاصة أن رسالة "ها قد عادت أمريكا" تتعلق بفكرة الالتزام بالقانون ونشر القيم واحترام الحقوق المفضي إلى استنهاض الديمقراطيات.
لطالما أجادت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إدارة التهافت والنفاق، إلا أن البقاء في عزلة والابتعاد كثيرا عن هذه الالتزامات والقيم حين يتعلق الأمر بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين من شأنه أن يكشف نقاط الضعف
لطالما أجادت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إدارة التهافت والنفاق، إلا أن البقاء في عزلة والابتعاد كثيرا عن هذه الالتزامات والقيم حين يتعلق الأمر بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين ،من شأنه أن يكشف نقاط الضعف لدى حكومة الولايات المتحدة، وسيكون من اليسير على الآخرين استغلاله لصالحهم. ليس صعبا تصور الاعتراض التالي من الصين: "أنتم تقولون إنهم الإيغور، ونحن نقول إنهم الفلسطينيون."
إن المقاربة القائمة على الحقوق في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، لهي أكثر انسجاما مع أجندة السياسة الخارجية الأعم لإدارة بايدن، ولسوف تحتاج إلى استثمار أقل من جانب الولايات المتحدة، وليس أكثر. ومن شأنها أن تعكس خطوط الاتجاه السلبي الحالي، وتشكل دعائم جديدة يمكن أن تُبنى عليها جهود السلام في المستقبل.
وفي سبيل تحقيق ذلك، فلن يكفي ببساطة التراجع عن التجاوزات السافرة لإدارة ترامب. يتمثل الرهان على الوضع القائم، الذي تبنته الإدارات الديمقراطية السابقة، في بنية تحفيزية مقلوبة رأسا على عقب تعمل ضد السلام، وبشكل خاص من خلال ضمان تحصين إسرائيل من المساءلة والمحاسبة، ومن ثم تشجيع أكثر التوجهات تطرفا في السياسة الإسرائيلية، وتحميل الولايات المتحدة استثمارات باهظة من حيث الجهود الدبلوماسية ومن حيث الأعباء المالية.
ليس هذا أوان أن تشرع واشنطن في تقديم خطة جديدة للتوصل إلى حل، ولا لإعادة التركيز على الجهود المطلوبة للإبقاء على عملية سلام، طالما عانت من قانون الغلة المتناقصة وأخفقت في تحقيق أي شيء ذي معنى، عملية تضع المفاوضات وسمكرة الأراضي فوق حقوق البشر الذين يعيشون على الأرض.
لقد أجادت السياسة الأمريكية حين تعلق الأمر بضمان حصول الإسرائيليين على الأمن وعلى الحياة الكريمة التي يستحقون، إلا أن السياسة الأمريكية كانت غاية في السوء حينما أحجمت عن تطبيق هذه المعايير نفسها في حالة الفلسطينيين، وأخفقت في الوقوف في وجه نظام يقوم على الفصل وانعدام المساواة. من المؤكد أن الأمور سوف تزداد سوءا فيما لو استمرت واشنطن في النهج نفسه – حتى لو استبدل نهج الإدارة السابقة المدمر دبلوماسيا بنهج يقوم على النوايا الحسنة. إن السبيل الأمثل للتراجع عن الوضع السابق، هو التركيز على حقوق الإنسان وعلى الكرامة الإنسانية وعلى حق العيش في حرية ومساواة.
يتجلى الأثر المشوه للسياسات الأمريكية بشكل خاص وبارز حين يتعلق الأمر بالسياسة والرأي العام في إسرائيل. لقد ساهم تساهل واشنطن مع الممارسات الإسرائيلية التي تخرق السياسة الأمريكية وتنتهك القانون الدولي في تهميش الأصوات المؤيدة للسلام، وفي تمكين أولئك الذين لسان حالهم "بإمكاننا أن نفعل ما نريد ولا من رأي ولا من سمع".
واشنطن تمكن التطرف الإسرائيلي
لن يؤدي الإخفاق في إدانة العنف ضد الفلسطينيين إلا إلى استمراره.
لم يعد بإمكان صناع السياسة الاعتماد على وجود خط وهمي يتصور أنه يفصل بين دولتين، بينما الذي يتشكل على الأرض هو واقع الدولة الواحدة. كان الرئيس الأمريكي يرجو ألا يعلق في شباك الصراع. ثم بدأ إطلاق النار.
ساعدت السياسات الأمريكية – خاصة تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ولكن ليس حصريا من قبلها – في تشجيع إسرائيل على المضي قدما في مساعيها لإضفاء مشروعية قانونية على ضم الأراضي الفلسطينية، بينما يتم بحكم الأمر الواقع تنفيذ عمليات الضم. والأسوأ من ذلك أن هذه السياسات عززت الإحساس لدى الإسرائيليين، بأن إنكار الحريات الفلسطينية ممكن بأقل الأثمان، وشجعت عدم المبالات والغطرسة التي تجلت عواقبها في الأيام الأخيرة.
يكمن الترياق لكل ذلك فيما يلي: أن تركز الولايات المتحدة في سياساتها الثنائية ومتعددة الأطراف إزاء إسرائيل على إنهاء الحصار المفروض على غزة، ومنع مصادرة الأراضي وهدم البيوت والطرد من المنازل، والتوقف عن السجن الجماعي (بما في ذلك سجن الأطفال)، ووضع حد لعنف المستوطنين، ورفع القيود المفروضة على الحياة اليومية للفلسطينيين.
في هذه الأثناء، يتوجب على الفلسطينيين بالطبع المبادرة إلى تجديد سياساتهم هم. إلا أن تفضيل الولايات المتحدة وإسرائيل لقيادة فلسطينية لا تخضع للمحاسبة، طالما أنها تلتزم بالوضع القائم لعملية السلام على قيادة ممثلة للشعب تستمد منه صلاحياتها، وبإمكانها أن تكون أكثر فعالية في تحدي الاحتلال، كان له أسوأ الأثر.
على الرغم من التزام إدارة بايدن المفترض باستنهاض الديمقراطية عالميا، إلا أنها أخفقت في الوقوف إلى جانب إجراء الانتخابات الفلسطينية التي طال انتظارها – سواء خطابيا أو عبر السياسات التي من شأنها أن تساعد في تنظيم تلك الانتخابات.
بدلا من ذلك، عمدت الحكومة الأمريكية إلى الاختفاء وراء تصريحات، تزعم أن الانتخابات شأن يخص الفلسطينيين وأنهم هم من يقررون بشأنها، بينما كانت إسرائيل هي التي أعاقت إجراء الانتخابات من خلال منع الفلسطينيين في القدس الشرقية من المشاركة في الاقتراع، وكانت الولايات المتحدة (ومعها كذلك شركاؤها في الرباعية: روسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) هي من تتساهل مع إصدار السلطة الفلسطينية مرسوما رئاسيا يؤجل الانتخابات، وهي التي اشترطت على حركة حماس مطالب فريدة من نوعها، ليس بهدف حماية حياة المدنيين الإسرائيليين، وإنما بهدف الحيلولة دون إنجاز المصالحة الفلسطينية.
سوف تخفق لا محالة السياسة الأمريكية إن بقيت في حالة "الطيار الآلي". وعلى الرغم من أن واشنطن لم تكن هي التي دشنت هذه الجولة الجديدة من العنف، إلا أنها تساهم بسياستها في إدامة الظلم والصراع. قد يكون الصدام الحالي لحظيا وقد ينتهي فجأة كما بدأ، ولكن في غياب أي تغير في المقاربة الأمريكية، من شأنه أن يبقي المجال مفتوحا أمام تجدد الصدام، ومع كل تكرار للصدام سوف تزداد شروط الاشتباك سوءا، وستجد الولايات المتحدة عاتقها مثقلا بعبء أكبر في الشرق الأوسط، بينما تسعى لتركيز جهدها في مكان آخر.