صحافة دولية

MEE: مناخ الأرض غير المستقر ساهم بتشكيل الربيع العربي

الربيع العربي  جيتي
الربيع العربي جيتي

تناول مقال في موقع "ميدل إيست آي" للكاتبة، أوليفيا لازارد، علاقة المناخ في الشرق الأوسط بتشكيل الربيع العربي الذي شهدته المنطقة.

 

وقالت في مقالها الذي اطلعت عليه "عربي21"، إن "قصة الشرق الأوسط هي قصة تغيير مستمر، وما الربيع العربي إلا فصل واحد منها. إذ لم تكن صحوة وإنما كانت موجة مدّ جذبت الطاقة المتراكمة على مدى عقود من الفقر المتزايد والحكم الفاسد والانتهاكات السياسية".

 

وأوضحت أنه "كانت خلفية هذه الموجة، التي كانت في طور التكوين لفترة طويلة، أبطأ وأكثر هدوءا، وهي: استنزاف بيئي في الشرق الأوسط وحول العالم".

 

وفي ما يأتي النص الكامل للمقال:

 

في عام 149 قبل الميلاد، كان ماركوس بورسيوس كاتو (سياسي وجندي ومواطن كرس حياته لدراسة الزراعة) شاهدا على تحقيق هدف رئيسي من خلال إعلان روما الحرب على قرطاج. وعندما دافع عن ذلك في مجلس الشيوخ، أحضر كاتو معه سلاحا غير محتمل: التين المزروع محليًا في أراضي العدو.

كان التين رمزا للذوق الرفيع وعلامة على الهيبة القرطاجية. كان كاتو يهدف إلى إثبات أن قرطاج، بصفتها قوة زراعية، تمثل تهديدًا وفرصةً في نفس الوقت بالنسبة لروما. بفضل جودة تربتها، أصبحت قرطاج مركزًا تجاريًا ومنافسًا عسكريًا لا يستهان به - لذلك كان لا بد من كسر شوكتها. إذا انتصرت روما، يمكنها استخدام الأراضي القرطاجية لتوفير الغذاء لإمبراطوريتها المتنامية. وهكذا بدأت الحرب البونيقية الثالثة، وانتهت في سنة 146 قبل الميلاد بهزيمة قرطاج.

لقد لعِب التين دورا في تقرير مصير الحضارة التي تقع أطلالها الآن في تونس الحديثة. هذا تذكير بأن ما يعرف اليوم بتونس كان ذات يوم أرضًا خصبة ومنتجة ومهد حضارة تطل على البحر الأبيض المتوسط، في وقت كانت فيه القوة الحضارية تُستمد من التربة. كانت القدرة على الزراعة بكثرة معادلة للأمن وإضفاء الطابع المؤسسي على السياسة وبدايات التجارة. لقد كانت متشابكة مع النمو السكاني والتوسع الإقليمي والمكانة الثقافية.

الموائل المفقودة

 

مثل العديد من الحضارات السابقة واللاحقة، وقعت روما في خطأ استنفاد تربتها الخاصة وتربة الأراضي التي احتلتها إلى آخر حدودها البيئية. مع التعرية وإزالة الغابات والزراعة المكثفة، فقدت التربة قدرتها على إيواء الحياة والاحتفاظ بالمياه وتوفير الخدمات البيئية، مثل تخزين الكربون أو الإنتاجية أو تنظيم درجة الحرارة. فُقدت موائل بأكملها في هذه العملية، وسقطت روما في النهاية تاركةً في أعقابها المناظر الطبيعية التي كانت في طريقها إلى التصحر الشديد.

نتقدم بالوقت ألفي سنة إلى الأمام. تقترب سنة 2020 من نهايتها وسط عمليات الإغلاق في جميع أنحاء العالم. لقد جلبت هذه السنة فيروسا جديدا، ما جعلنا أكثر إدراكًا للمخاطر التي تنتظرنا بسبب التعدي المنهجي على النظم البيئية التي تحافظ عادة على صحة الكواكب والحيوان والإنسان على حد سواء.

قصة الشرق الأوسط هي قصة تغيير مستمر، وما الربيع العربي إلا فصل واحد منها


مع نهاية هذه السنة، نحتفل أيضًا بذكرى الربيع العربي: سلسلة من الثورات التي أدت تداعياتها إلى اندلاع حروب في اليمن وليبيا وسوريا، وتشديد قبضة الاستبداد الخانق في مصر، بينما يخوض الشعب في تونس كفاحا شاقا من أجل ديمقراطية موثوقة. نزل المواطنون الذين جُردوا من كرامتهم إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير وإلغاء تركيز السلطة السياسية والاقتصادية في أيدي القلة الذين مارسوا التمييز ضد الكثيرين.

يتساءل العديد من المحللين عما إذا كان الربيع العربي قد تحول في الواقع إلى شتاء، وما إذا كان قد نجح على الإطلاق، وفي أي وضع ترك المنطقة. من ناحية أخرى، أشعر بالإغراء لأن أسأل أين ذهبت ثمار التين في قرطاج، وما القصة التي تخبرنا بها التربة التونسية عن الربيع العربي، وعن مستقبل الشرق الأوسط في عالم يتسم باضطراب مناخي.

إن قصة الشرق الأوسط هي قصة تغيير مستمر، وما الربيع العربي إلا فصل واحد منها. لم تكن صحوة - وهي فكرة أقرب إلى إهانة في منطقة مشحونة بالوعي السياسي الحاد - وإنما كانت موجة مدّ جذبت الطاقة المتراكمة على مدى عقود من الفقر المتزايد والحكم الفاسد والانتهاكات السياسية. كانت خلفية هذه الموجة، التي كانت في طور التكوين لفترة طويلة، أبطأ وأكثر هدوءًا: استنزاف بيئي في الشرق الأوسط وحول العالم.

الكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة


كان محمد البوعزيزي بائعًا متجولًا في سيدي بوزيد، وهي ولاية تقع في الوسط التونسي، حيث لا يزال التمييز والتنمر ضد أولئك الذين يعملون في الاقتصاد الموازي أمرا شائعا يوميا. لم يكن البوعزيزي استثنائيا في كفاحه اليومي من أجل البقاء الاقتصادي والكرامة. لقد كان هو القاعدة، ولهذا أصبح رمزا يتردد صدى قصته في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

عاش البوعزيزي في بيئة خانقة اقتصاديا وبيئيا، مع أرض مغبرة وصخرية وصفراء تمتد على مد البصر. في السابق، كان المناخ المعتدل يشجع الزراعات الوفيرة، بينما الآن لا يوجد سوى صحراء تمارس فيها الزراعة التقليدية التي تستنفد الأرض. لقد كانت هناك منطقة خصبة بما يكفي لإطعام الإمبراطورية الرومانية، والآن بات هذا البلد يستورد الغذاء والمحاصيل.

إن الزراعة قطاع اقتصادي قليل الإنتاج، لا سيما بالنسبة للشباب التونسي الذي يمثل نسبة هامة من إجمالي السكان. ولكن حتى القطاعات الأخرى لا تقدم الكثير، باستثناء السياحة - التي توفر فرصا اقتصادية محدودة وموسمية فقط - أو استخراج النفط في الجزء الجنوبي من البلاد. كلا القطاعين يتطلبان قدرة العمال على الانتقال من ولاية إلى أخرى، وهي فرصة غالبا ما تحرمهم منها الدولة لأسباب أمنية.

هذا يجعل الاقتصاد الموازي الخيار الأكثر منطقية، على الرغم من كونه خطرا وغير مستقر ولا يوفر أي حماية اجتماعية. في مجتمع يأتي فيه الاعتراف والقبول الاجتماعي مع التوزيع الجنساني للأدوار الاجتماعية، ترتبط عدم القدرة على كسب لقمة العيش لإعالة الأسرة بالفشل والإذلال.

يأتي هذا الإذلال على يد دولة تتحدث بلغة الأبوية لكنها تفشل في تحقيق فوائدها. إنه سياق يولد اليأس والغضب والتمرد، ويقع التعبير عن ذلك بصريا من خلال اللوحات الجدارية للشهداء وكتابات الشوارع في المراكز الحضرية وشبه الحضرية حيث يعيش معظم الشباب. إن الأجواء السائدة في سيدي بوزيد اليوم هي أجواء مرهقة أو متجاهلة للحياة. مما لا يثير الدهشة، أن العديد من الشباب هناك يحلمون بالتنقل والهجرة كوسيلة للكرامة.

الأسواق الدولية


عندما أضرم البوعزيزي النار في نفسه، كان يثور على النظام الاقتصادي الذي فرض عليه الشعور بالإهمال. يولّد هذا النظام ثروة لنخبة مندمجة تماما في الاقتصاد العالمي، نتيجة لرأس المال المتراكم الذي يستثمرونه في الخارج. إنه نظام يفتقر إلى المرونة الأساسية، لأن القطاعات التونسية الأكثر ربحا مخصصة لخدمة الأسواق الدولية بينما لا يزال الأمن الغذائي والمائي الوطني غير موجود.

في ظل اقتصاد كهذا، لا يُقرّر مصير الأفراد بناءً على الأوضاع الداخلية فحسب، بل في الأسواق الدولية أيضًا. خلال الأسابيع التي سبقت إضرام البوعزيزي النار في نفسه، سببت الأمطار الغزيرة ضُعفا في محاصيل القمح في كندا، بينما تأثرت كل من روسيا وكازاخستان وأوكرانيا والصين بموجة من الجفاف. وتسببت ظاهرة "لا نينا" الجوية في الأرجنتين في تلف محاصيل الذرة وفول الصويا.

في نظامنا الاقتصادي العالمي المعاصر، الذي يعتبر البيئة مجرد عامل خارجي، يبدو أن الحدود الإيكولوجية تستنزف مقابل تنامي القدرة على ممارسة التجارة


نظرا لنقص الإمدادات، ارتفعت أسعار المحاصيل الأساسية في الأسواق الدولية. وفي ذلك الوقت، كانت معدلات استيراد المواد الغذائية للفرد في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر من أي منطقة أخرى في العالم، وكان لتقلب الأسعار أثر في تخريب طبيعة العقود الاجتماعية غير المستقرة بين الأنظمة الاستبدادية والفئات السكانية الضعيفة.

وسط عدم الاستقرار وسوء الحوكمة والفيضانات والجفاف والروابط الاقتصادية، انبثقت ظاهرة غير متوقعة. كان للاضطرابات التي أثرت على أحد أطراف العالم صدى تسبب في عواقب وخيمة في أطراف أخرى من العالم. كانت الصدمة مفاجئة بقدر ما كان الاستنزاف البيئي شديدًا. 

في نظامنا الاقتصادي العالمي المعاصر، الذي يعتبر البيئة مجرد عامل خارجي، يبدو أن الحدود الإيكولوجية تستنزف مقابل تنامي القدرة على ممارسة التجارة. تستطيع البلدان استيراد ما لا تستطيع أراضيها إنتاجه، بشرط أن يكون اقتصاد البلد متنوعًا بدرجة كافية لتحمل التكاليف. ولكن في عالم يتسم بالاضطرابات المناخية واستنفاد القدرة البيئية، قد تصبح الصدمات الاقتصادية واضطرابات سلاسل التوريد حالة سائدة. بعبارة أخرى، يبدو أن الربيع العربي لم يكن سوى بداية لتسلسل المخاطر والصدمات المنهجية التي ما زالت حوكمتنا العالمية وأنظمتنا الاقتصادية غير مؤهلة للاستجابة لها.

ندرة المياه


لا عجب أن الشرق الأوسط قد أصبح بؤرة مبكرة لتجمع المخاطر المرتبطة بالمناخ. فهو ينتمي إلى المناطق العالمية التي بدأت فيها ظاهرة تغير المناخ نتيجة لتقهقر الوظائف البيئية. لم يعد للتين القرطاجي وجود لأن التربة التي كانت تنتجه ذات مرة قد استُنفدت بصورة منهجية.

يؤدي إنهاك التربة إلى شح في المياه وارتفاع في درجات الحرارة. ومع التغييرات في عناصر المشهد الطبيعي، يأتي التغير المناخي. وينضاف إلى ذلك تسارع انبعاثات الطاقة الأحفورية عن طريق الاحتراق منذ بداية العصر الصناعي، واستنزاف النظم البيئية في جميع أنحاء العالم؛ والنتيجة تغير مناخي مطرد يصعب التخفيف من حدته.

يعد الانتقال الطاقي لتحقيق مزيد من الاستقلال الاقتصادي خطوة ضرورية لضمان انتقال مناخي فعال، لكنها خطوة غير كافية. ويكمن التغيير الأساسي والجوهري الذي لا بد منه للتكيف مع تغير المناخ والوصول إلى استقرار النظام المناخي، في تجديد الوظائف البيئية للطبيعة المحيطة.

لكن إحداث هذا التغيير ليس سهلا: فهو يستلزم استثمارات مكثفة في الأنشطة التي تدفع السكان للاهتمام بالأراضي وقدرتها على الاحتفاظ بالمياه. لكنه لن يحل المشكلة من جذورها، بل يجب أن يصبح شبكة الأمان التي تقوم عليها أي حضارة بشرية.

ومع ذلك، تشير النماذج الاقتصادية الحالية إلى أننا نعمل وفقًا لمنطق مختلف. لا بد من مكننة الزراعة وتوسيع نطاقها واعتماد الزراعة الأحادية حتى تكون مربحة. وفي معظم البلدان، يعتمد النطاق الزراعي على العمالة الرخيصة وغير المستقرة لتوليد الثروة، والتي تتركز في أيدي الأقليات. لكن النماذج الزراعية الناجحة تحتضن الأسواق الدولية قبل تبني الإنتاج المحلي المرن.

بعيدا عن الزراعة، نحن نبني بيئات بشرية ونستخرج الطاقة بينما نغيّر شكل التربة ونستنفدها، ونجفّف موائد المياه الجوفية، وندمر التنوع البيولوجي (أو ما تبقى منه). وما لا ندركه أن ندرة الموارد الطبيعية التي نعتمد عليها يضعف فرصنا في النجاة من الصدمات والتكيف معها. تشترك سنتا 2010 و2020 في ذلك، فقد حذرتا البشر من العواقب المحدقة لعدم اكتراثنا بالحياة المحيطة بنا وتعقيداتها.

المرونة المنهجية 


ما هي المرونة المنهجية في عالم على وشك أن تتسارع فيه وتيرة الاضطرابات والصدمات والمخاطر المتتابعة المرتبطة بالمناخ - وحيث من المحتمل أن تعاني مناطق على غرار الشرق الأوسط من عواقب وخيمة؟

يبدأ الأمر بالسلامة البيئية، التي تتطلب استثمارات ضخمة في الأراضي من خلال مساعدة التربة على استعادة قدرتها على تخزين المياه والكربون. بهذه الخطوة، ستتمكن البلدان من مكافحة مشكلة ندرة المياه من جذورها، بدلاً من إدارة الندرة التي تسبب بها الإنسان. لتحقيق ذلك، لا بد من تمكين الناس من تجديد مواردهم المحلية والعناية بها، والاستثمار في القوة العاملة وفي أنظمة الحوكمة اللامركزية. كما يتطلب الأمر تقييم الزراعة المتجددة ونماذج الأعمال التجديدية التي تعد بمثابة أدوات لتحقيق المرونة والقدرة على التكيف في إطار اقتصاد جديد.

في وقت تقتصر فيه استجابتنا لظاهرة تغير المناخ على تحويل أنظمة الطاقة ورقمنة الاقتصاد تمهيدا لثورة صناعية رابعة، فإننا نفشل في إدراك أن استجاباتنا تنتهج نفس المنطق الذي أدى إلى أزمة المناخ في المقام الأول. إذا اتبعنا هذا المسار فقط، فستستلزم المرونة مزيدًا من مكننة النشاط البشري؛ وفصلا وهميا للاقتصاد عن العالم الطبيعي؛ وحلولًا تكنولوجية لدعم سير الأمور على النحو المعتاد، كما لو لم يكن للظروف البيئية والمناخية أي وجود؛ وتنظيما منهجيا للاستجابات بغض النظر عن الثقافات البشرية والإيكولوجية؛ واقتصادا عالميا يعتمد على التعامل الجماعي مع المخاطر بمعزل عن القدرات الوطنية والمحلية وعلى حساب المصلحة العامة.

سيستمر انتهاج هذا المنطق لفترة أطول، حتى يولد صدمات تفوق ما يمكن للنظام تحمله في آنٍ واحد. وستصبح القدرة على إدارة الكوارث أقل من أي وقت مضى.

ينبئ تاريخ الشرق الأوسط وأحدث الدروس المستقاة من الربيع العربي بمستقبلنا العالمي: فلتتجاهلوا السلامة البيئية على مسؤوليتكم. هذه المرة، يجب أن يعني التقدم أننا نهدف إلى التوقف عن استغلال أراض جديدة، والبدء في تجديد الأرض التي تحت أقدامنا. باختصار، يكمن مستقبل البشرية في العودة إلى أصولها: الدبال.

التعليقات (0)