كتب

هل يصلح علم النفس الحديث لدراسة حياة الأنبياء العاطفية؟

كتاب يدرس توازن الجانب المعرفي والعاطفي في حياة الأنبياء والمرسلين (عربي21)
كتاب يدرس توازن الجانب المعرفي والعاطفي في حياة الأنبياء والمرسلين (عربي21)

الكتاب: الجوانب العاطفية في حياة الأنبياء كشف وتأملات نفسية
الكاتب مالك بدري
الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة 2021
عدد الصفحات: 170

ما من شك أن بصمات عالم النفس، الدكتور مالك بدري، في مدرسة أسلمة المعرفة ونقد التحيز الغربي في العلوم الاجتماعية كانت جد مؤثرة، فقد شكل كتابه "من التفكر من المشاهدة إلى الشهود دراسة نفسية إسلامية" نموذجا في نقد النظريات الغربية في علم النفس، وقد اعتبرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي وقتها، محاولة جادة لإرساء منهجية جديدة في التعامل مع التراث الإنساني الغربي ومع أصوله التأسيسية. 

ظن البعض أن الرجل الذي مضى إلى لقاء ربه، لم يترك في هذا المنحى التأصيلي والنقدي سوى هذا الكتاب، حتى خرج من إرثه كتاب آخر، بنفس المنهجية، لكن هذه المرة، بموضوع يندرج ضمن قضايا النسق من الداخل، أي حياة الأنبياء العاطفية، فقامت العائلة الكريمة للمرحوم بالتنسيق مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجامعة إسطنبول، بإخراج كنز دفين من تراثه، يحيي المنهجية التأملية في التعاطي مع موضوع جديد لم يطرق من قبل يتعلق بالحياة العاطفية للأنبياء.

وإذا كان الدكتور مالك بدري رحمه الله معروفا بصرامته في البحث، ونقد التحيزات الغربية، والحفر المعرفي عن أصولها وخلفياتها، فإنه لم يفارق هذا الدأب المعرفي، وأضاف إليه خاصيته الفريدة في البحث، أي التأمل، فجمع في هذا الكتاب بين البحث والتفكر في مجريات الأحداث التي عرفها وعاشها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، متوقفا على حواراتهم وطبائعهم كما وردت في القرآن، فحاول بذلك أن يدخل عالما آخر، قلما يتم الالتفات إليه، بسبب ما يفرضه منطق الوحي من النظر إلى القواعد الموضوعية لا الذاتية في حياة الأنبياء وسيرهم، فقام مالك بدري رحمه الله في هذا الكتاب بالموازنة بين الاعتبارات الموضوعية التي تخص الأمر الإلهي والعبرة من سيرة الأنبياء والرسل في تبليغ الرسالة، وبين الاعتبارات النفسية والوجدانية والعاطفية للأنبياء، فجعل من الداخل الجواني للأنبياء مادة للدرس البحثي والمعرفي.

لقد حرص الدكتور مالك بدري رحمه الله في هذا الكتاب أن يدرس توازن الجانب المعرفي والعاطفي في حياة الأنبياء والمرسلين للدلالة على كمال الإيمان والقرب إلى الله تعالى، فتوقف عالم النفس الإسلامي على مزيج البيئة والوراثة مع العوامل المادية والمعنوية والروحية، وأثر ذلك جميعا في تعزيز العاطفية الإيمانية عند الأنبياء الذين اجتمعت فيهم البشرية والعصمة الربانية والجذوة الإيمانية للقيام بمهامهم في التبليغ عن الحق سبحانه وتعالى على أكمل وجه.

في فكرة الكتاب

يكشف مالك بدري عن سياق تأليف هذا الكتاب، ويذكر بالمحاضرة الأولى التي صدم بها طلبته في منتصف الستينيات لما أصل للحاجة إلى علم نفس إسلامي، وكيف كانت المقاومة شديدة لهذا الاصطلاح، إلى أن تقوت الحاجة إلى ذلك بنقد أسس علم النفس الحديث، وخلفياته الفلسفية، وقيامه على الفكرة العلمانية المادية، ويذكر ضمن هذا السياق رغبته في تأليف كتاب عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم من منظور نفسي إسلامي، يركز فيه على العاطفة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتوقف عندها على العبر النفسية من وراء ذلك، فاختار للكتاب عنوان "الحنين والعاطفة في حياة سيد المرسلين"، وقام بجمع المادة العلمية لهذا الكتاب من خلال القرآن الكريم ومصادر السيرة والحديث النبوي وكتب الشمائل. 

وكتب الفصل الأول الذي قدم الأوليات المفاهيمية حول العاطفة والانفعالات، ووجد أنه لا بد من تعزيز أفكاره وتأملاته عن الحياة العاطفية للرسول صلى الله عليه وسلم بما ورد عن غيره من الأنبياء والمرسلين، لاسيما أولئك الذين وردت قصصهم بشيء من التفصيل في القرآن الكريم، مثل قصة موسى وقصة يوسف عليهما السلام، فقرر أن يقسم الكتاب إلى قسمين، يأتي الأول على سبيل الإجمال، يذكر فيه الحياة العاطفية للأنبياء والمرسلين، ويخصص القسم الثاني للحياة العاطفية عند الرسول الكريم، فقصد بذلك أن يصبح هذا الكتاب مرجعا لعلم النفس الإسلامي.

العواطف أو الانفعالات.. أي اصطلاح يناسب حياة الأنبياء؟

على الرغم من أن المترجمين العرب، اختاروا أن يجعلوا الانفعال بمثابة الترجمة الأمينة للاصطلاح النفسي (Emotion) الوراد باللغة الإنجليزية، إلا أن الدكتور مالك بدري اختار اصطلاح "عاطفة" للتعبير عن الدلالة النفسية لهذا الاصطلاح في حق الأنبياء عليهم السلام، وذلك لاعتبارات ثلاثة، أولها، أن كلمة انفعال صار لها دلالات سلبية لا تليق بمقام الأنبياء، وثانيها، أن كلمة انفعال في اللغة العربية تتمتع بدقة الاصطلاح، وأما الثالث، فلكون مصطلح العاطفة، لها معاني مختلفة تؤهلها لترجمة ما يطلق عليه علم النفس اليوم بالانفعال.

وقد حرص الدكتور بدري أن يبين شرطه في التأليف منذ الفصل الأول المعني بالأولويات المفاهيمية، فالكتاب هو تأملات في عواطف الأنبياء عليهم السلام، يبتعد تماما عن أحكام الدين وعن الأمور الفقهية، لأن موضوعه الأساسي هو عواطف الأنبياء وشمائلهم، وما يصطلح عليه في العلوم الإسلامية السلوكية بالشمائل وفضائل الأعمال والرقائق.

هل يصلح علم النفس لدراسة عواطف الأنبياء؟

حاول الدكتور مالك بدري في الفصل الأول من كتابه أن يطرح سؤال شرعية علم النفس في دراسة حياة الأنبياء وجوانبهم الوجدانية، وذكر أسس علم النفس الحديث وخلفيته العلمانية والمادية، وسرد أهم النظريات النفسية التي قدر أنها لا تصلح بالمطلق لهذا الموضوع، والنظريات التي يمكن الإفادة منها في ذلك، والنظريات التي تحتاج إلى تمحيص وتهذيب من أجل الإفادة من كسبها المعرفي لدراسة الحياة العاطفية للأنبياء، مقدما تعليلات وافية تبرر هذا الاختيار المعرفي.

وحاول في الفصل الثاني، أن يقدم فرشا تاريخيا ونقديا للدراسات النفسية والعصبية الحديثة التي تناولت دراسة الانفعال بالعاطفة، ليطرح في الفصل الثالث، سؤالا يرتبط بمفهوم الإيمان، وهل يكتمل إيمان الفرد بالاكتفاء بعبادة الله تعالى بالجانب المعرفي بالإسلام، أم أن التعبد بالعاطفة شرط في هذه اكتمال هذا الإيمان؟

وفي سياق جوابه عن هذا السؤال، يرى مالك بدري أن اكتمال الإيمان يتم من خلال أربع محاور أساسية، الأول، هو الجانب المعرفي المعني بتحصيل معتقدات تغير من نظرة الإنسان لنفسه وما حوله من وجود وتؤثر على وظيفته في الكون، والجانب السلوكي المرتبط بما يقوم به الإنسان من أفعال وممارسات انبثقت من تصوره الاعتقادي (المعرفي) ثم الجانب العاطفي الانفعالي، المرتبط بإحساسه عند تمثل هذه المعتقدات أو القيام بما تمليه عليه في الواقع، فرحا وحزنا، ثم المحور الروحي الذي تنكره النظرية الحديثة في علم النفس.

يؤصل مالك بدري لهذه المحاور من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، فيرى أن الآيات والأحاديث التي ترسخ أركان الإيمان، تقدم الأساس المعرفي الصلب للمسلم الذي يقوم عليه المحور العلمي المتمثل في العبادات والممارسات المطابقة لمراد الشرع، ثم يأتي الجانب العاطفي والانفعالي، الذي يمثل الإحساس العاطفي بأن الله بذاته العلية مطلع على العبد وهو مستغرق في عبادته له، فتسيطر عليه حالة تختلط فيها العاطفة بالاستغراق الروحي، ويخلص مالك بدري من ذلك كله إلى أن الله تعالى لم يتعبدنا فقط بالمعرفة، والإيمان العقلي وبالعبادات المفروضة فحسب، بل تعبدنا أيضا بالجانب الانفعالي العاطفي المستخلص من الإيمان، لذلك قرر في خلاصته أن التصور النفسي للمنظور الإسلامي يقوم على أربعة عناصر هي المعرفي والسلوكي والعاطفي والروحي خلافا لما يذهب إليه علم النفس الحديث.

الأصناف الأربعة لاستجابات الأنبياء العاطفية

قاد التأمل في المثيرات للانفعال والعاطفة الدكتور مالك بدري إلى تقسيمها إلى أربعة أقسام: المثيرات التي يستجيب إليها الإنسان بشكل سريع لا إرادي لأنها مركوزة في الجهاز العصبي، وهي التي يتصرف فيها الأنبياء مثلهم في ذلك مثل جميع البشر، ويذكر كأمثلة على ذلك فزع سيدنا داود عندما فاجأه خصمان تسورا محرابه الذي لا يجرؤ أحد على دخوله، وفزع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي، وخوف سيدنا موسى، عندما رأى عصاه تهتز وتتلوى كأنها ثعبان. ويرى مالك بدري أن هذه الطائفة الأولى من الانفعالات، وإن كان الأنبياء يستجيبون لها مثل سائر البشر، إلا أنهم بما ميزهم الله تعالى، يملكون القدرة الفائقة على مدافعتها والرجوع بسرعة إلى حالة الاطمئنان.

وأما الطائفة الثانية من من الاستجابات الانفعالية، فهي تلك التي تحركها مواقف يحتاج الشخص في الرد عليها إلى اتخاذ ما يراه قرارا مناسبا، فيقوم بها الإنسان بمحض إرادته فيتحمل مسؤولية اختياره وقراره ونتائج ذلك، فهذه الطائفة من الاستجابات الانفعالية، يكون فيها الشخص المستثار انفعاليا مدركا للموقف العاطفي الذي يجابهه، ويقوم باختيار الاستجابة التي تتناسب مع حدة المثير الانفعالي ومع حالته النفسية والروحية ومعتقداته وخصائص تكوين شخصيته. وهو المجال الذي لاحظ فيها مالك بدري الهوة الشاسعة بين استجابات الأنبياء واستجابة عامة الناس، ويقدم على ذلك توضيحا من خلال عاطفة الخوف.

 

حينما يكون الباعث للانفعال يحتاج إلى قرار إرادي لا يمكن ولا يجوز للأنبياء أن يخافوا أو يترددوا، بخلاف المؤمن العادي فقد سمح له أن ينقذ نفسه من القتل بالحيل المختلفة

 



ويسوق في هذا المجال مواقف الأنبياء من تهديد قومهم لهم، وكيف أنها لم تستثر خوفهم، وكيف استهانوا بالموت لأنهم يدركون علم اليقين أن هذا العالم من أصغر ذراته إلى أكبر مجراته هو في قبضة الله تعالى، وأنه هو الوحيد الذي له الخلق والأمر. ويسرد مالك بدري مواقف الأنبياء في هذه الطائفة من الاستجابة للانفعالات بدءا بقصة نوح عليه السلام وثباته على الحق وعدم اكتراثه بتهديد قومه، ويقينه بنصر الله له، ثم قصة هود عليه السلام، وموسى عليه السلام، وقصة سيد الخلق مع قومه، محمد صلى الله عليه وسلم.

فحينما يكون الباعث للانفعال يحتاج إلى قرار إرادي لا يمكن ولا يجوز للأنبياء أن يخافوا أو يترددوا، بخلاف المؤمن العادي فقد سمح له أن ينقذ نفسه من القتل بالحيل المختلفة، ويسرد المؤلف قصة عمار بن ياسر في هذا السياق الاستدلالي. ويقدم المؤلف في المقابل، مواقف استثنائية لعدد من الصحابة والصالحين والعباد والعلماء الذين سايروا منطق الأنبياء، ولم يتسرب إليهم الخوف، ويذكر في هذا السياق موقف الإمام أحمد ابن حنبل، موقف سعير بن جبير، وابن تيمية وكثير ممن تزخر بسيرهم كتب التاريخ.

وأما الطائفة الثالثة، من مثيرات العواطف، فتمثلها استجاباتنا الانفعالية لنفوسنا الأمارة بالسوء ووسوسة الشياطين وقرناء الجن والإنس، وهي الاستثارات الشريرة التي قد تؤدي بالإنسان إذا استحسنها إلى أسوأ العادات الانفعالية كالحسد والحقد والأنانية، وهي أحاسيس لا يخلو منها المسلم، لكن الأنبياء عصموا منها تماما.

وأما الصنف الرابع من هذا المثيرات للعواطف، فهو المرتبط بالعواطف التي تثيرها انفعالات تدعو إلى مكارم الأخلاق والأحاسيس الخيرة كالشفقة والرحمة والصبر على المكاره والشدائد وكبح الشهوات. ويدخل مالك بدري في مناقشة نقدية حادة لعلم النفس الحديث، ذي الخلفية العلمانية، وينقض حياده السلبي في هذا الموضوع، وكونه يتعامل مع الإنسان بذات المنهج السلوكي التجريبي، ويدخل في مقارنة بين قواعد علم النفس الإسلامي التي تفرق بين بين الخير والشر في سلوك الإنسان، وقواعد علم النفس الحديث، ويركز بشكل خاص على فكرة فطرية الأخلاق الخيرة في الإنسان في المنظور الإسلامي لعلم النفس، وفكرة وجود قوى شريرة داخلية وخارجية تعمد إلى حرف الإنسان عن فطرته ودفعه للسقوط فيما يعارض فطرته الخيرة، وكيف زود الله الإنسان بموهبة موروثة ميز بها بين الخير والشر وبين الانفعالات العاطفية الفاضلة والانفعالات السيئة.

وعند مناقشته لموقف الأنبياء من هذا القسم الرابع من العواطف، توقف مالك بدري على تفضيل الله تعالى لأنبيائه في موضوع منازعة الانفعالات الشريرة، وأنه إذا كان الله قد زود المؤمنين بموهبة موروثة يفرقون بها بين المثيرات البيئية التي تدعو إلى الخير كما تساعد في رفض النزوات الشريرة، فكيف بالأنبياء وهم صفوة الله في خلقه، وهم أنقى الناس قلوبا وأكلمهم عقلا وخلقا، وهو الذين اصطفاهم الله ليكون محل اقتداء الناس في كل ما يقولون ويفعلون وما يجيزون ويحرمون وهم الذين تحملوا مهام الوحي ومشاق الدعوة، وأنه لهذا السبب منحهم العصمة وهي الحفظ والمنع من ارتكاب المعاصي.

ويتعرض مالك بدري إلى نماذج من الأنبياء في تعاطيهم مع هذا النوع من المثيرات وكيف عصمهم الله من الوقوع في المعاصي، وينعطف لبحث دقيق يتعلق بصغائر الذنوب، وهل تدخل في مقتضيات العصمة، فيذكر الرأيين المتقابلين في الموضوع، ويختار جوابا آخر، يتعلق باختلاف مستويات عصمة الأنبياء في التعامل مع هذا النوع من الذنوب الصغيرة، ليخلص بذلك إلى أن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أعلى مستويات العصمة، حيث جنبته حتى الوقوع في المعاصي الصغيرة، التي وقعت لبعض الأنبياء وتابوا عنها فغفر الله لهم ذلك.

المسلك المعتدل في التعامل مع عواطف الأنبياء

وهكذا انتهى مالك بدري في الفصل الخامس إلى استخلاص الصفات العاطفية والنفسية والروحية التي أهلت رجالا اصطفاهم الله تعالى ليكونوا أنبياء ومرسلين، مبينا حكمة الله في اصطفائهم وتكوين شخصياتهم وفي اختيار البيئة والوراثة والتربية الروحية التي ساهمت في تفتح ما وبهم الله من ميزات.

ويختم مالك بدري كتابه بتبرير المنهج الذي تبناه في الدراسة، وشقه طريقا آخر، غير المنهجين المعروفين في التعاطي مع الجانب العاطفي والانفعالي في حياة الأنبياء، أي، منهج يتجنب الخوض في هذا الموضوع، خوفا من الوقوع في محظور الحساسية الشديدة للمقدس، ومنهج آخر، يستبيح الخوض في هذا الموضوع بالتسلح بأدوات علم النفس الحديث المشبع بالخلفية العلمانية، والذي ينتهي إلى الجرأة على المقدس.

يرى مالك بدري أن محاولته شق طريق معتدل تجنب تطرف المنهجين السابقين، وتجنب الخلفية العلمانية التي تؤطر علم النفس الحديث، وفي الوقت ذاته، أقر قواعد علم نفس إسلامي في التعامل مع هذا الموضوع الحساس، والتي تتبنى منهجا نقديا يفيد من كسب علم النفس المعاصر في الخوض في بحث هذا الموضوع، وذلك حتى يقدم البحث العلمي إضافة نوعية في إظهار حكمة الله تعالى في اختيار الأنبياء وتربيتهم.


التعليقات (0)