الحضارة المصرية القديمة كانت حضارة عريقة وعظيمة حقا، بقيت آثارها موجودة حتى الآن، ولكن لم يبق تأثيرها، فتأثير الحضارة المصرية حدث في زمانها ومكانها فقط، ولم يمتد هذا التأثير الحضاري إلى ما بعد الانتهاء المادي لهذه الحضارة.
حدث هذا لأن الحضارة المصرية القديمة قد ضعفت، بدءا من عهد الأُسر الأخيرة من المملكة المصرية الحديثة، وبدأ سقوطها منذ الاحتلال الفارسي الأول ثم الاحتلال الفارسي الثاني، ثم انتهت الدولة المصرية تماما بالاحتلال اليوناني والذي استمر 300 عام تقريبا، ليليه الاحتلال الروماني واستمر حوالي 670 سنة. أي أن مصر قد مرت بفترة احتلال أجنبي طويلة جدا بلغت في مجملها بفترة احتلال أجنبي طويلة جدا بلغت في مجملها أكثر من عشرة قرون، قبل أن يفتحها العرب المسلمون عام 640 ميلادية.
الدول التي احتلت مصر قبل الفتح العربي، فارس واليونان وروما، كانت لها حضارات عظيمة هي الأخرى، ولهذا تغلبت حضارات هذه الدول على الحضارة المصرية القديمة، وإن كانت قد أخذت بعض مظاهرها فقط أثناء حكمها لمصر لتتقرب من الشعب المصري، لكن التأثير الحضاري لمصر لم يمتد ليؤثر بقوة في تلك الدول بسبب كونها كانت تتمتع بحضارات قوية ومستقرة.
قامت الحضارة الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط بعد فتح العرب المسلمون لمعظم بلاد المنطقة، وهي الحضارة الوحيدة التي تنتسب إلى "دين" ولا تنتسب إلى "قومية". فنحن نقول الحضارة المصرية والحضارة الفارسية والحضارة الإغريقية (اليونانية) والحضارة الرومانية والحضارة الصينية والحضارة الهندية، ثم الحضارة الأوروبية والحضارة الأمريكية...الخ.. الخ، ولكننا لا نقول أبدا "الحضارة العربية"؛ لأن العرب لم يكن لهم حضارة تصارع تلك الحضارات، ولكننا نطلق عليها الحضارة الإسلامية.
فلماذا نطلق مسمى "إسلامية" على تلك الحضارة؟
لأن هذه الحضارة قد ظهرت مع انتشار الإسلام وتمدده ليشمل بلدانا ذات حضارات عريقة كانت مزدهرة بالفعل وقت ظهور الإسلام، مثل الحضارات الفارسية والهندية والصينية، أيضا الحضارتين الإغريقية والرومانية واللتين كانتا مزدهرتين في المناطق المجاورة والمحيطة بالشرق الأوسط.
استقت إذن الحضارة الإسلامية جذورها من تلك البلاد ذات الحضارات العريقة، ولهذا لم يكن معظم علماء ومفكري وفلاسفة الحضارة الإسلامية عربا، بل كانت أصولهم تعود إلى تلك الدول.
بقيت الحضارة الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط وفي الأندلس جنوب غرب أوروبا لمدة طويلة، وأثرت بشدة في أوروبا والتي استمدت أصول حضارتها الحديثة التي ظهرت مع عصر النهضة الأوروبية، والتي بدأت في القرن الرابع عشر، من الحضارة الإسلامية المجاورة لها، وذلك عن طريق التجارة مع البلاد الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والتواصل الحضاري مع مسلمي الأندلس، وعن طريق الحروب أيضا، والتي كانت أبرزها الحروب الصليبية والتي بدأت في أواخر القرن الحادي عشر واستمرت قرنين من الزمان تقريبا (1096- 1292)، ليعود الأوروبيون إلى بلادهم وقد تشبعوا بالحضارة الإسلامية الراقية، بينما كانت بلادهم تئن من الفقر والتخلف والقذارة، ولينقلوا منها أصول حضارتهم بعد ذلك.
انتقلت الحضارة الأوروبية طبعا إلى أمريكا مع اكتشاف العالم الجديد، فجذور وأساسات الحضارتين واحدة، وهي الحضارة السائدة حتى الآن، مع ظهور حضارة منافسة مثل الحضارة اليابانية والصينية والكورية، والتي استقت جذور حضاراتها بالجمع بين حضاراتها القديمة الأصيلة والحضارة الأوروبية الحديثة.
الفخر بالماضي والحضارة القديمة شيء جميل ولطيف ومبهج، لكنه لا يكفي لبناء حضارة جديدة، فالحضارة -أي حضارة- تقوم على أسس ثلاثة، هي العدل والعلم والعمل، أما الاحتفالات والمهرجانات والمؤتمرات والمسابقات، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تقيم حضارة، ولا تنشئ دولة، ولا تسعد شعبا، ولا تترك أثرا.