أن تجرى
انتخابات تنافسية حرة في
مصر الآن فذاك ضرب من المستحيلات، لأنه ينافي طبيعة الأمور في ظل نظام معاد بطبعه للانتخابات، ولكن أن تجرى انتخابات بالحد الأدنى من شروط المنافسة فذاك أمر يستحق الانتباه، وهو ما ينطبق فقط على القليل من انتخابات النقابات المهنية والنوادي الرياضية، ومنها انتخابات
الصحفيين التي جرت يوم الجمعة الماضي (2 نيسان/ أبريل 2021). الانتخابات العامة سواء رئاسية أو برلمانية هي انتخابات صورية تجري هندستها سلفا في أقبية الأجهزة الأمنية.
نقابة الصحفيين المصرية ليست نقابة تقليدية مثل بعض النقابات الأخرى، وإن اشتركت معها في المواصفات والقواعد القانونية الحاكمة ونظم العمل النقابي المتبعة، إنها نقابة الصوت العالي، والحركة الدائبة، والسباحة عكس التيار في الكثير من الأحيان، هي النقابة التي ولدت على سلالمها ثورة 25 يناير، والتي كانت لها أدوار كبيرة في مسيرة النضال الوطني، بشكل يسبق ويزيد عن دور الكثير من الأحزاب السياسية. فهي رغم كونها نقابة مهنية إلا أنها مهمومة دوما بالشأن العام وفي القلب منه الحريات العامة، وعلى وجه الخصوص حرية التعبير والإعلام. ولذا فقد استعصت مجددا على محاولة تجميدها كليا، وأصر أعضاؤها على إجراء انتخاباتهم في موعدها في مواجهة مساعي حثيثة حاولت منع عقد تلك الانتخابات كخطوة على طريق التجميد الفعلي، وربما فرض الحراسة على النقابة.
رغم كونها نقابة مهنية إلا أنها مهمومة دوما بالشأن العام وفي القلب منه الحريات العامة، وعلى وجه الخصوص حرية التعبير والإعلام. ولذا فقد استعصت مجددا على محاولة تجميدها كليا، وأصر أعضاؤها على إجراء انتخاباتهم في موعدها في مواجهة مساعي حثيثة حاولت منع عقد تلك الانتخابات
كان مقررا لعقد الانتخابات مطلع آذار/ مارس المنصرم، لكن ظهرت محاولات من داخل النقابة وخارجها لتعطيلها بحجة كورونا، وهي حجة لم تصمد كثيرا، إذ إن الوباء ذاته لم يمنع عقد انتخابات برلمانية في عموم البر المصري، ولم يمنع انتخابات نقابة المحامين الملاصقة. كانت الرغبة قوية في إخراس هذا الصوت بشكل كامل بعد النجاحات الجزئية لعملية الإخراس على مدى السنوات السبع الماضية، وبشكل خاص عقب المظاهرات المناهضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والتي تبعها اقتحام الأمن لمقر النقابة لأول مرة في تاريخها. كما جرى خلالها تحويل النقابة إلى مكان طارد للأعضاء بعد أن كان جاذبا لهم، حيث لم يعد الصحفيون يجدون مقعدا داخل النقابة، وحيث تم إغلاق "كافتيريا" النقابة واستراحاتها في وجه الصحفيين وإحلال أكشاك عشوائية محلها، وحيث جرى تأميم سلالم النقابة التي كانت درة تاجها، والتي شهدت مولد ثورة 25 يناير، واستضافت العديد من الاحتجاجات الشعبية خلال حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، والتي استمرت لبعض الوقت عقب انقلاب تموز/ يوليو 2013.
نوايا النظام المصري لتعطيل الانتخابات، والتمديد لمجلس النقابة القائم كانت واضحة، حيث رفضت الحكومة ممثلة في وزارتي الداخلية والشباب ومحافظة القاهرة إقامة سرادق بمواجهة النقابة يتسع لآلاف الصحفيين القادمين للتصويت؛ تجنبا للزحام في مبنى النقابة مع تزايد الإصابة بكورونا، لكن تحركات نشطاء نقابيين نجحت في صناعة رأي عام صحفي ضاغط أجبر السلطة ومن يمثلها داخل النقابة على إجراء الانتخابات في نهاية المطاف (جرت في ضيافة نادي المعلمين الأكثر اتساعا). وهذا مكسب في ظل الظروف المعادية لأي انتخابات حقيقية، والمعروف أن انتخابات الصحفيين كانت واحدة من أفضل الانتخابات في مصر بشكل عام عبر العقود الماضية.
لا يعني ذلك أن الانتخابات كانت مثالية، فالأوضاع القمعية العامة في مصر حرمت الكثيرين من الترشح إما لوجودهم في السجون أو لخوفهم من اللحاق بزملائهم المحبوسين، والسلطة التي حاولت تعطيل الانتخابات وافقت على مضض على إجرائها بعد أن تيقنت أن مخرجاتها لن تكون بعيدة عنها. ويبدو أن الكثيرين في الوسط الصحفي قبلوا بالمواءمة، وهي اختيار نقيب وغالبية في المجلس من الموالين للسلطة كبديل لتجميد النقابة أو فرض الحراسة عليها، لكن فوز
أغلبية محسوبة على السلطة يضع شكوكا حول قدرة المجلس الجديد على لعب دور مؤثر في مواجهة الانتهاكات المتواصلة لحرية الصحافة، أو القدرة على تحرير الصحفيين السجناء.
لا يعني ذلك أن الانتخابات كانت مثالية، فالأوضاع القمعية العامة في مصر حرمت الكثيرين من الترشح إما لوجودهم في السجون أو لخوفهم من اللحاق بزملائهم المحبوسين، والسلطة التي حاولت تعطيل الانتخابات وافقت على مضض على إجرائها بعد أن تيقنت أن مخرجاتها لن تكون بعيدة عنها
لم تعش نقابة الصحفيين أوضاعا أسوأ مما تمر به منذ تموز/ يوليو 2013، حيث جرى اقتحامها لأول مرة مطلع أيار/ مايو 2016 للقبض على صحفيين معتصمين داخلها. وقد كانت الشرطة في العهود الماضية تمتنع عن الاقتراب من أبواب النقابة لعدة أمتار، كما أن النقابة وبتوجيهات أمنية أوقفت عقد الندوات والمؤتمرات داخل قاعاتها، والتي كانت من قبل تعج بتلك الندوات والمؤتمرات سواء للصحفيين أو لغيرهم من الفئات. كما عمدت إدارة النقابة لوضع أسياخ حديد ( سقالات)على مدخلها بحجة الصيانة، لكنها في الحقيقة لمنع الوقفات الاحتجاجية التي كانت سلالم النقابة المنبسطة تعج بها من قبل، ولكل الفئات أيضا.
على مستوى حرية الصحافة فإن مصر الآن تقبع في المنطقة السوداء بترتيب 166 ضمن المؤشر العالمي، وذلك بسبب القمع المتزايد ضد الصحافة والصحفيين، حيث يوجد أكثر من 70
صحفيا وإعلاميا معتقلا، وحيث أصبحت المخابرات المصرية تسيطر على 90 في المئة من القنوات التلفزيونية والصحف والمواقع الخبرية الخاصة، وحيث تفرض السلطة قوانين تمنع نشر أي روايات تخالفها، وتحجب بموجبها مئات المواقع والصفحات، ولا تسمح بظهور أي صوت معارض أو حتى مستقل، وحيث تسود أجواء الخوف داخل المؤسسات الصحفية من كتبة التقارير الأمنية، ومن فقدان الوظيفة نتيجة عمليات الإغلاق وترشيد الإنفاق بعد أن كسد سوق الصحافة والإعلام نتيجة غياب الحريات والمنافسة الصحية.
لعل من الإيجابيات الأخرى للانتخابات حرص غالبية الصحفيين المصريين على تجديد رفضهم للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو موقف قديم لنقابة الصحفيين ولغيرها من النقابات المهنية والعمالية في مصر. وقد فشلت محاولة سابقة لكسر هذا الموقف في عهد مكرم محمد أحمد، ومن بعدها لم يجرؤ أي نقيب للصحفيين على الاقتراب من هذا الأمر، ويكتسب القرار برفض التطبيع قيمته الإضافية من البيئة المحيطة الداعمة لمسار التطبيع.
وعلى كل فإن إجراء انتخابات الصحفيين بالحد الأدنى من قواعد المنافسة النزيهة خير من تعطلها تماما، وخير من تحول النقابة إلى بيت أشباح، ولعل تغيرات محلية أو دولية تمنحها نفسا جديدا للحركة في قابل الأيام.
twitter.com/kotbelaraby