هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وجد عامة الناس أنفسهم أمام منابر مفتوحة تمكنهم من نشر منشوراتهم ومشاركاتهم في مختلف الموضوعات والتخصصات، من غير أن تخضع لمعايير النشر المعتادة في وسائل الإعلام التقليدية إلا ما يضعه المالكون لتلك المواقع من معايير تخص مجتمعاتهم الافتراضية.
وفي الشأن الديني بات غالب رواد تلك المواقع يكتبون وينشرون حول قضايا ومسائل دينية متعددة، منها ما هو متخصص يكتبه علماء ودعاة وطلبة علم، ومنها ما هو عام يكتبه ويشارك فيه مثقفون وناشطون أصحاب اتجاهات دينية وفكرية مختلفة.
ويشير مراقبون إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت ميدانا مفتوحا للمساجلات الدينية الساخنة، حيث يحتدم الجدل حول كثير من القضايا الدينية الإشكالية التي يدلف المتجادلون إلى ساحاتها متسلحين بمعارفهم الدينية المذهبية، فتدور غالب تلك المجادلات على تقرير أفكار ومقولات مستقاة من منظومات المذاهب الدينية المعروفة.
ووفقا للأكاديمي والداعية الأردني، الدكتور بشار شريف فإن "ما يُنشر من مواد دينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة متنوع جدا، ففيه التقليدي، وفيه الخيالي المنسوب إلى الدين وفيه الجدلي، وفيه التوعوي" لافتا إلى أن "ما يملأ المساحة الكبرى من المواد الدينية المنشورة هي المسائل الجدلية أو الاختلافات".
وأضاف: "وهذا بحد ذاته كفيل بقياس مستوى الوعي الديني عند العامة والخاصة، فطرح مثل هذه القضايا على فضاءات التواصل بحد ذاته مؤشر على وجود مشكلة في الوعي عند من يطرحها، كما أن المعارك الكلامية الناتجة عن هذا الطرح وما يتخللها من تجاوزات لفظية تتنافى والأدب الإسلامي يؤشر أيضا على تدني مستوى الوعي، لا سيما أننا نرى هذه المشاهدات بين الحين والآخر كلما أثيرت مسألة جدلية فلا نلحظ أي تطور على مستوى الوعي في التعامل مع هذه الأطروحات".
وواصل شريف حديثه لـ"عربي21" بالقول "أما الأطروحات التي تتخذ منحى توعويا منفتحا مقاصديا منطلقا من فهم الواقع والحرص على إثبات صلاحية الدين لكل زمان ومكان فهي ـ للأسف ـ قليلة والقائمون عليها هم في موضع الاتهام عند أبناء المجتمع.. فهم عند المتدينين إما مُميعون للدين وإما ممولون من جهات مشبوهة، وعند غير المتدينين هم ترقيعيون" على حد قوله.
أما عن إمكانية ترشيد ما ينشر من منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، فرأى شريف أن "ترشيد المنشورات الدينية وغير الدينية أمر صعب في هذا الفضاء، غير أن المسألة ترجع إلى وعي وضمير الناشر، فلو جلس كل ناشر مع نفسه جلسة صادقة يمحص فيها ما ينشر قبل نشره لساهم ذلك ربما في الترشيد والوعي".
من جهته أكدّ الباحث الشرعي المغربي، المتخصص في العقائد والأديان، الدكتور حمزة النهيري أن "منصات التواصل الاجتماعي لعبت دورا بارزا في نشر المعرفة بشكل عام، وقد كان للفكر الديني نصيب من هذا العالم حيث نشط المفكرون والدعاة في الكتابة، ونشر الآراء في المجال الديني بمكوناته العقدية والفقهية المختلفة، وهو ما ساهم في تشكيل الوعي الديني لدى فئة عريضة من المجتمع".
وإجابة عن سؤال "عربي21" حول مدى تأثير تلك المنشورات والمواد الدينية على مستوى الوعي الديني، لفت النهيري إلى أنه "من الصعب الإجابة عن ذلك، لعدم توافر دراسات ترصد الحالة وتحللها، خاصة أن هذا العالم الافتراضي متاح للجميع بما في ذلك أصحاب الفكر المتطرف الذي يستخدمونه لنشر أفكارهم".
وتابع "أما بخصوص الاقتراحات التي يمكن أن تساهم في ترشيد المواد الدينية المنشورة عبر تلك المواقع، فقد سبق أن اقترحنا تولية هذه المهام للهيئات العلمية التي ترعاها الدول الإسلامية، والتي يكون أعضاؤها من علماء الأمة ومفكريها المعروفين المشهورين" مشيرا إلى "وجود نضج تراكمي في هذا العالم الافتراضي، لأن قانون التدافع الفكري قائم ومستمر، وحجة الله ظاهرة وبالغة".
وفي ذات الإطار وصف الباحث في العلوم الشرعية، والناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، فارس العجلوني تأثير ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي بـ"التأثير الكبير، إذ أصبحت تلك الوسائل هي ساحة العرض والصراع بين التيارات والأفكار المختلفة، والوعي نتاج صراع الأفكار المتضاربة، لأن من أهم أدوات ذلك حُسن العرض المقترن بالأدلة والحجج والبراهين".
وأضاف: "وهذه سنة الله تعالى في التغيير، ومع أن وسائل الإفساد والتزييف أكثر بكثير من وسائل إيصال الحقائق للناس، وقد يظهر أن لها التأثير الأكبر، لكن في النهاية سيظهر الحق والصواب" مستدلا بقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
وأبدى في حديثه لـ"عربي21" تحفظه على ما يقال حول ترشيد ما يُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأن "الترشيد يعني السيطرة على ما يُنشر، فمن حيث التدخل الرسمي للدول أو من حيث الجهة المالكة لتلك الوسائل فإن أي عملية ترشيد ستكون لصالح التزييف والتضليل، وفي حالة التدخل المؤثر في حرية النشر سيقل جمهور رواد وسائل التواصل الاجتماعي".
وواصل "وأما بدون التدخل من قبل هاتين الجهتين فلا أرى إمكانية ترشيد ما يُنشر، وذلك للتنوع والاختلاف الشاسع بين جمهور المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن الترشيد سيحصل ذاتيا مع مرور الوقت كنتيجة لزيادة الوعي العام".
بدوره اعتبر الباحث الشرعي المصري، والنائب السلفي السابق، الدكتور علي ونيس "المواد الدينية المنشورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ذات وجهين، الوجه الأول نافع ومفيد، وفيه تعليم وإرشاد للمسلمين لأحكام دينهم وآدابه وأخلاقياته، وتزيين للشريعة وأحكامها في نفوس الناس".
وأضاف: "أما الوجه الثاني فيتمثل بما يقوم به بعض المغرضين من استغلال تلك المواقع لإيصال أفكارهم المنحرفة للناس، وفي تشويه الدين النقي، وإيراد الشبهات التي تشوش على عامة المسلمين عقيدتهم الصحيحة في ثوب ديني زائف، حتى اختلط عند العوام الحابل بالنابل".
ولفت في حواره مع "عربي21" إلى أن "ما تنشره بعض الطوائف والشخصيات المنحرفة عبر تلك المواقع يساهم في تزييف وعي المسلمين، وربما يضلل عقائدهم وأفكارهم، لقلة علمهم، وضف تحصيلهم الشرعي، من غير أن يكون لديهم القدرة على التمييز بين العقائد الصحيحة والمنحرفة، وبين الأفكار القويمة والخاطئة".
ولاحظ أن "من آفات ما يُنشر عبر تلك المواقع ما يحدث من تأثر كثير من المسلمين بما يقوله وينشره بعض المشاهير الذين ليس لديهم قدم راسخة في العلوم الشرعية، ولم يدرسوا الشريعة دراسة متأنية وواعية على العلماء والمشايخ الراسخين في العلم، مما يكون له الأثر السيء على المتلقين لأحاديثهم ومنشوراتهم".
وحذر في ختام حديثه من تداول عامة المسلمين لكثير من المنشورات الدينية التي تتضمن أفكارا منحرفة، ومعلومات غير صحيحة، وأحاديث ضعيفة وموضوعة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشوية صورة الدين، وعدم وصول الشريعة بعقائدها وأحكامها إلى المدعوين والمعنيين بصورة سليمة وصحيحة".