أفكَار

أبو يعرب المرزوقي: هذا هو طريق فهم لغة الوجود الكونية

أبو يعرب المرزوقي يشرح الفروق بين اللغة الطبيعية واللغة الكونية  (عربي21)
أبو يعرب المرزوقي يشرح الفروق بين اللغة الطبيعية واللغة الكونية (عربي21)

لقد أحدثت ثورات الربيع العربي وما تلاها من تغييرات سياسية لازالت تعصف بالمنقة العربية والإسلامية، تحولات جوهرية ليس فقط في طبيعة المجتمعات والدول، وإنما أيضا في إعادة تشكيل الوعي الفكري والسياسي والديني.. 

وإذا كانت ثمانينيات القرن الماضي قد عرفت منتوجا فكريا اتخذ من التراث وإعادة إنتاجه مادة رئيسية للبحث عن سبل نحت الكيان العربي والإسلامي في المستقبل، فإن التغيرات السياسية التي عرفتها المنطقة العربية والإسلامية، منذ أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، وتداعياتها على العالمين العربي والإسلامي، ثم مع التغييرات السياسية الكبرى التي عرفها العالم العربي مع مطلع العقد الثاني من القرن 21، قد جددت السؤال مرة أخرى ليس فقط عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، وإنما أيضا في تجديد سؤال العلاقة بين البيان والبرهان، أو بين العقل والدين.. 

ولقد كان لافتا للانتباه مع سرعة التحولات التي يعرفها عالم اليوم، وبالتأكيد فالعرب والمسلمون في قلبه، غياب المثقف العربي أو دوره الباهت في تقديم قراءات علمية تشخيصية للواقع واستشرافية للمستقبل.. وربما برر بعضهم ذلك بوجود قرار سياسي في دوائر صنع القرار الدولية بتغييب مبيت للمثقف في سياق إعادة ترتيب المشهد الدولي وفق ما يُعرف بـ "سنة التدافع"..

وقد تكون وسائل الإعلام، التي تعرف فتوحات غير مسبوقة، قد لعبت دورا كبيرا في إعادة تشكيل الوعي الإنساني وتوجيهه، لكنها في النهاية لا تستطيع تغيير طبيعة التكوين البشري والإنساني وانتمائه لعالمي العقل والروح أو بلغة الراحل محمد عابد الجابري العرفان والبرهان..

وبعد تناوله لدور النخبة في مناعة الأمة، يعود الفيلسوف التونسي الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي، للحفر مجددا في مكونات العقل العربي والإسلامي من خلال قراءته لتراث علمين من أعلام الفكر الفلسفي في التاريخ العربي والإسلامي، ويتعلق الأمر بكل من إرث ابن رشد الفلسفي وابن عربي الصوفي، وهي قراءة تنشرها "عربي21" على حلقات متواصلة كل يوم جمعة.. 

 

اعتراض وجيه

لا أنكر أنه يمكن الاعتراض على هذا التحليل نوعين من الاعتراض الوجيه الذي يهلل من نكوص دون لغلة العلم والاكتفاء بالمجازات التي تبدو دالة على الإبداع الذاتي في حين أنها لا تتجاوز الترجمة العامية للمعرفة العلمية:

1 ـ الأول هو محاولة إضفاء نفس المعنى على اللغة الطبيعية لأن الوظائف والطبائع في النحو تؤدي مثل هذه الوظيفة التي أنسبها إلى التشاكل بين اللغة العلمية وموضوعاتها. 

فاللغة الطبيعية تضع علامات (الإعراب أو المنازل في نظام الجملة) على المفردات تجعلها مفيدة بوظائفها ما يشاكل أفعال ما تشير إليه الكلمات من الأشياء والأشخاص: فاعل مفعول به متفاعل إلخ... وهي مفيدة بطبائع ما تسمي به مفردات اللغة أي التمييز بين الاسم والفعل والحرف.

2 ـ الثاني هو محاولة اعتبار هذا الوجه الثاني لكونه كونيا في كل اللغات البشرية بمعنى أنه متحرر من الثقافات والعادات ويعود إلى اللغوي الطبيعي من حيث هو طبيعي وهو موضع علم اللسانيات المختلف تماما عن موضوع النحو الذي يتغير من لغة إلى لغة ولكن للقيام بنفس هذه الخصائص الكونية في اللساني من حيث هو لساني.

وأهم علامة على ذلك هو أنه لا توجد لغة طبيعية لا تشارك اللغة العلمية في كونها مؤلفها من التقطيعين الأول والثاني بمعنى أنها تتألف من عناصر بسيطة محدودة هي موضوع صرفها ومعجمها ومن قوانين توليفها هي موضوع نحوها ومنطقها.

ولأني لا أنكر وجاهة هذين الاعتراضين بل ولأني أعتبرهما شديدي الوجاهة فإني أقبلهما ولكن لإثبات أنهما يزيدان موقفي صلابة. ذلك أن الاعتراض الثاني لا يتكلم على لغة طبيعية معينة بل على اللساني من حيث هو لساني باعتباره الكوني في اللغات الطبيعية المعينة. 

وهذا الكوني فيها ليس لغة طبيعية بمعنى أنه لغة علمية لظاهرة طبيعية يفيد بتشاكل العبارة مع الموضوع. والموضوع هنا هو قوانين عمل الألسن المشاكلة لعملها تماما كما في الكيمياء أو في الفلك أو في الفيزياء.

وبهذه المناسبة فإن محاولات الصوغ الرياضي للسان معين يشبه محاولة الصوغ الرياضي لنوع خاص من الظاهرات الحية وليس للظاهرات الحية عامة وهما أمر مستحيل من دون الرد إلى اللساني في الحالة الأولى وإلى الحي في الحالة الثانية.

بمعنى أن ما هو خصوصي لا يكون قابلا للعلم إلا ضمن الكلي ولا يمكن العكس لأن ما يتميز به الخصوصي عن الكلي ليس مقوما للظاهرة الكونية. فلا يوجد علم بيولوجيا خاص يتغير بتغير ألوان البشر مثلا أو علم مناخ خاص بمكان دون مكان إلا بالتعيين الخاضع لنفس القوانين.

وعندما نستعمل اللغة الطبيعية للعبارة على معان كلية متجاوزة لما يمكن منه نحوها (وظائف عناصرها في نظام علاقاتها) وصرفها (طبائع عناصرها في نظام علاقاتها) فإنها تحتاج إلى نقلة نوعية تكون فيها من جنس المادة التشكيلية في فني الرسم والموسيقى وهو أصل كل ابداع شعري. فإذا أضفنا التشخيص للمعاني بجعلها أفعالا انتقلنا إلى القص الذي هو أصل كل إبداع روائي. وعدم فهم هذا التراكب بين الإفادتين هو العلة الأساسية التي جعلت القرآن الكريم يحير العرب: فهو ليس لغة طبيعية فحسب.

 

من التجريب إلى التجريد

إنه يستعمل لغة طبيعية صارت لغة فنية تجمع بين المقدرات الذهنية النظرية والمقدرات الذهنية العملية وكلتاهما لم تكن معلومة في ثقافة العرب: 

ففيه أساليب التجريد العلمي الرياضي المطبق على الطبيعي ومنه يستمد جل أدلته في الحوارات التي يعتمد عليها للإقناع بالرسالة دون حاجة إلى معجزات. 

وفيه أساليب التجريب العملي الشعري المطبق على الروائي ومنه يستمد التعيين الممثل في الحوارات التي تجسد المعاني دون أن يكون تاريخا لأحداث فعلية. لكن عندئذ نكون قد انتقلنا من اللغة الطبيعة إلى اللغة الفنية التي هي من جنس اللغة العلمية، بمعنى أنها لا تحيل إلى ما يفاد بالعادة دون تشاكل بين اللغة والمرجع بل هي تحيل إلى ما يفاد بالتشاكل بين ما في النص الشعري أو في النص الروائي وما يريد قوله حول معنى لا يدرك بعادة التسمية بل باصطلاح الفن.

وبذلك فإن ما يميز اللغة العلمية واللغة الفنية عن اللغة الطبيعية هو التشاكل بين نظام المعاني الكلية التي هي إما من جنس المقدرات الذهنية النظرية (الحقائق العلمية) أو من جنس المقدرات الذهنية العملية (القيم العملية).

وكلتاهما تفيد بالتشاكل بين القول والمقول في نظام الترميز المفهومي في النظرية الرياضية والعلمية والترميز الدرامي في الشعر والرواية الأدبية. 

 

لا يمكن تجاوز العلم الطبيعي والعمل الروائي إلا بالرياضيات والشعريات. وكلاهما لا يتكلم في الموجود ولا في الوجود بل في متغيرات لا يتحدد معناها إلا عندما نستمد من مجال التطبيق قيما توضع في متغيراتها.

 



والفرق بين النظرية الرياضية والنظرية العلمية كالفرق بين العملية الشعرية والعملية الروائية: الدرامي في الفن مثل الطبيعي في العلم كلاهما تطبيق لما هو أعم أي الرياضيات في العلم الطبيعي والشعريات في الدراما الروائية.

وبهذا المعنى فلا يمكن تجاوز العلم الطبيعي والعمل الروائي إلا بالرياضيات والشعريات. وكلاهما لا يتكلم في الموجود ولا في الوجود بل في متغيرات لا يتحدد معناها إلا عندما نستمد من مجال التطبيق قيما توضع في متغيراتها.

فتصبح بذلك دالة على الموجود أو المنشود. لكن ما يحصل في عمل هيدغر هو النكوص إلى اللغة الطبيعية التي لم تمر إلى المستوى الثاني الذي نجده في الرياضيات والشعر المتعلقين بالتجربة الثانية،  بل هو ينكص إلى النحو والصرف اليونانيين أو الألمانيين وهما لا يفيدان إلا بالعادة الخاصة بثقافة أصحابها وليس بما بين العبارة والمعبر عنه بها كما في العلوم التي تستعمل الرياضيات للعبارة عن التجربة الطبيعية والأعمال التي تستعمل الشعريات للعبارة عن التجربة الروحية.

وحتى أثبت هذه الدعاوى سأحلل في الفصل الموالي دلالة اقتصار هيدغر في هذا النص على المعين الفيلولوجي وآليات الإفادة اللغوية الطبيعة والمنطق البسيط للقضية الحملية وهو ما أعتبره الفرق الجوهري بينه وبين شيخه هوسرل، الذي تجاوز اللغوي إلى المنطقي والرياضي. فهيدغر على الأقل في هذا النص لم يرتق إلى ما يمكن اعتباره النحو الثاني من العودة إلى الميثولوجي عند هلدرلن ونيتشة.

فحتى وإن جعلهما من أهم موضوعات فكره فإنه تكلم عليهما لم يفعل ما فعلاه. بحيث يمكن القول إن اللجوء إلى المقدرات الذهنية العملية بتوسط الشعريات والرؤايات نظيرا في الكلام على التجربة الروحية لاستعمال الرياضيات والنظريات الطبيعية في الكلام على التجربة الطبيعية.

 

إقرأ أيضا: في الحاجة للتصوف والفلسفة.. قراءة لإرث ابن رشد وابن عربي

 

إقرأ أيضا: هل يمكن المفاضلة بين اللغات في الدراسات العلمية؟

 

إقرأ أيضا: أبو يعرب المرزوقي: عندي أن العلم هو الوحيد الذي يفكر




التعليقات (0)