هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن إشكالات مفهوم المواطنة لا تتعلق فحسب بواقع عالم المسلمين ولا الدول القومية في عالمنا، ولكنها كذلك تتعلق بتحديات كبيرة وأزمات خطيرة في الواقع الغربي، خاصة تلك الدول التي اشتهرت بنموذجها الديمقراطي. نحن هنا نتحدث عن كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وكذلك بريطانيا.
وكنا قد تحدثنا عن المواطنة "الماكرونية" لنعبر من خلالها عن طبعة العلمانية الفجة، حينما تكون مسكونة بحالة عنصرية وتحاول أن تتغطى وتتدثر بمفاهيم مثل حرية التعبير، وهي تقف من ذلك مواقف خطيرة حيال ثقافات مختلفة أو مخالفة. وظل هذا ديدن الإدارة الفرنسية في مسألة الرسوم المسيئة، وقد حزمت أمرها بأن تمارس استهانة بعقائد الآخرين ورموزهم الدينية المقدسة وتجعل من تلك الاستهانة تأشيرا عن حرية التعبير.
وضمن هذ السياق عبرت الحالة البريطانية، التي ربما نتحدث عنها في مقال لاحق، عن أزمة الديمقراطية في مسألة "البريكست" (الخروج من الاتحاد الأوروبي) بعد استفتاء أدى إلى تهديد الوحدة البريطانية ذاتها.
وفي هذا المقام نجد نموذجا آخر لا بد أن نشير إليه في أزمة المواطنة داخل التفكير الغربي والممارسات التي تتعلق بها، إنها "الظاهرة الترامبية" وتصوراتها لفكرة المواطنة التي تتشكل أيضا ضمن حالة نموذجية مسكونة بالعنصرية، ولكن هذه المرة ليس ضمن نظرة فلسفية تتعلق بالعلمانية، ولكنها نظرة تتعلق بالرأسمالية المتوحشة واقتصاديات السوق التي لا تلقي بالا للإنسان وحقوقه.
الترامبية؛ تيار جديد متصاعد برز في أبهى صوره، إذ مثل ترامب الرئيس والمرشح في واقع الأمر "لحظة نماذجية"، هذا المفهوم الذي سكه أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، حيث قصد بالنماذجية تلك اللحظة التي تعبر عن جوهر الحضارة ومكنوناتها الدفينة وهي أشبه بفلتات اللسان للذات الفردية. كذلك الحضارات لها من الفلتات - على لسان أحد مسئوليها - إذ تعبر عن مكنون ما تعتقده وتؤمن به، وإن لم تصرح به على العموم فتجعله مخفيا أو مكنونا أو مستورا، وتحاول بشكل أو بآخر تزيينه بمفاهيم أخرى حتى يتخفى ذلك المفهوم الذي يشكل ازدواجا في القيم تنظيرا وممارسة.
إن اللحظة النماذجية في الحالة الترامبية إنما تتشكل في واقع الأمر من ثلاثة أمور تعد شواهد على تلك اللحظة الترامبية؛ العنصرية الفجة، والإباحية الأخلاقية، والرأسمالية المتوحشة، حيث تشكل الصفقات عملا أساسيا تصطبغ به السياسة وتتحول إلى حالة استغلال شنيع وابتزاز مريع، ضمن عقلية الضغط والمساومة حتى على حلفائه؛ وهو ما نشهده في سياسات خطيرة مارسها ترامب في كثير من الأمور، مثل محاولته تصفية القضية الفلسطينية عن طريق ما ابتدعه من صفقة القرن التي استبقها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، وقام بكل ما من شأنه مساندة الكيان الصهيوني وبكل عمل يتعلق بالاستيطان أو بالاستيلاء على الأرض أو إضفاء مشروعية على اغتصاب أو توطين. هكذا تعبر هذه اللحظة النماذجية عن كل ذلك وهي خطيرة من خلال هذه الأفعال المتشابكة والمؤشرات والمواقف التي تدل عليها فتمثل سياسات فجة ليس لها من سند إلا ممارسة حالة من العنصرية الممزوجة بالبلطجة السياسية.
في حقيقة الأمر، تلك العنصرية لم تكن شيئا مقتصرا على السياسات الخارجية، بل صارت أمرا يتعلق بالسياسات الداخلية المسكونة بحالة عنصرية؛ من مثل موقفه من قتل المواطن الأمريكي (أسود البشرة) جورج فلويد، وتبرير البعض من اليمين الذين يتبنون موقفا عنصريا مستفزا في هذا المقام. كما مارس ترامب حالة عنصرية ضد المهاجرين من أصول لا تنتمي إلى الجنس الأبيض، وباتت تلك سياسات معلنة يقوم بممارستها بكل أريحية ويعبر فيها عن متوالية العنصرية، فانتقلت من سياساته الخارجية، مثل تبنيه إقامة سور لمنع الهجرة غير الشرعية من المكسيك، إلى حالة عنصرية يمارسها في الداخل الأمريكي انتصارا للجنس واللون الأبيض. وكأن أسلافه من الجمهوريين الذين تبنوا رؤية "برنارد لويس" التي تقوم على قاعدة "الغرب والباقي" (the west and the rest)، وكذلك رؤية "صموئيل هنتنجتون" في "صدام الحضارات وصراع الثقافات"، وكذلك رؤيته الأخرى التي اتخذها لكتابه "who are we?". وقد أذكت هذه الرؤى حال العنصرية التي شاعت في جنبات الوطن الأمريكي الذي كان يفتخر بأنه بوتقة للصهر، فإذا به يصبح مكانا لصراع الأجناس والثقافات، متواليات خطيرة أفرزت الظاهرة الترامبية بكل مواقفها وسياساتها في الداخل والخارج.
بل إن هذه الظاهرة الترامبية قد اتخذت تجليات تخطت الحدود الأمريكية إلى غيرها من الدول الغربية، فشهدت بعض العواصم الأوروبية مساندة ودعما من خلال مظاهرات تدعم تلك الرؤية العنصرية الترامبية حيال أحداث معينة حدثت داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وبرز ذلك واضحا في ذلك الصعود المريب والخطير لليمين العنصري والديني، في محاولة لابتداع وتأسيس سلوك الكراهية بين الثقافات والأديان ضمن هذه الحالة التي اتخذت شواهد خطيرة وكثيرة، وأحدثت قدرا من الجدل الدائر والمتصاعد بين تلك النظرة العنصرية التي تضاد الحقيقة المتعلقة بحقوق الإنسان وكذلك المواطنة، فضلا عن أمور تتعلق بالأديان والثقافات والإثنيات. وبات هذا أمرا سريع الانتشار في كثير من الدول الغربية، وقد تمكن من تكوينات حزبية سياسية صارت محل مزايدة في تصاعد النظرة العنصرية ضد الأجانب أو من غير الأصول الأوروبية.
إلا أن هذا التفصيل الذي أشرنا إليه لا يزال محفوفا بسؤال بعد الانتخابات الأمريكية وتفوق جو بايدن على ترامب، فهل يعني ذلك التفوق انتهاء الترامبية وهذه الظواهر العنصرية المرتبطة بها؟ تساؤل كبير تكمن خطورته في ما أورثته تلك الظاهرة، وبما عبرت عنه نتيجة الانتخابات الأمريكية التي شهدت تصويتا كثيفا واستنفارا كبيرا في عمليات التصويت المباشر وعن طريق البريد، لتؤكد أن هذه اللحظة النماذجية لا تزال تفعل فعلها وتترك آثارها الخطيرة على المسألة الديمقراطية، وعلى تصور المواطنة وتهديد جوهرها وأصولها وفق هذه الرؤى العنصرية التي تسكنها.
يبدو لنا استمرار الظاهرة الترامبية رغم خسارة الانتخابات، إلا أن الأصوات التي حصل عليها ترامب (74 مليونا مقابل 80 مليونا لبايدن) تنبئ عن حالة انقسام أغرت ترامب بتصرفات لا تمت بصلة للحالة الديمقراطية ولا احترام النتائج الانتخابية، معرضا مفهوم المواطنة والحقوق التأسيسية والأساسية المرتبطة به إلى خطر عظيم.
وظل ترامب يخاطب أنصاره خطابا تحريضيا على البقية لإحداث حالة من الانقسام حول نتائج الانتخابات، وباتهامات لا يمكن إطلاقا أن نراها إلا في دول معروف استبدادها ومعروفة ألاعيبها الانتخابية، بل إنه حرّض أنصاره بشكل أو بآخر على ممارسة عنف احتجاجي، إلى جانب التصريحات التي صدرت عن مسؤولين في إدارته بأن الانتقال السلس للسلطة لن يكون إلا لترامب وأن أي انتقال آخر غير مقبول، وهو أمر أدى إلى تساؤلات شتى تتعلق بمستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وصار البعض يتحدث عن شعوره بإغراء استغلال الحشود التابعة له وإدراتها والتي تفوق 74 مليونا، وفقا لمؤشرات التصويت في إطار نموذج لتشتيت سياسات "بايدن" والتي كشف عنها في حملته الانتخابية، ضمن إشكالات كبرى في انتقال السلطة وكذلك في تسيير الأمر بعد تنصيب "بايدن"، فيؤدي ذلك إلى حركة تشتيت كبرى بحيث لا تسمح للإدارة الجديدة بهامش للحركة لتحقيق هذه السياسات على الأرض، خصوصا لتنفيذ خطته لمواجهة فيروس كورونا، وفي سعي حثيث للحفاظ على "الترامبية" سياسة وحكما في المستقبل، حتى لو كان ذلك على حساب المواطنة والديمقراطية؛ حينما تعمل العنصرية كمتوالية تتصاعد ولا تقف عند حد، حتى لو مزقت المجتمع وأحدثت صدعا كبيرا فيه.
twitter.com/Saif_abdelfatah