كتاب عربي 21

تطبيع وتطبيع

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600

منذ بدأت حمّى التطبيع الأخيرة (هذا العام 2020) بإعلان بعض الدول العربية (والبقية ستأتي قريبا) والكل يتحدث عن السلام، وعن وحدة الجنس البشري، والمشتركات الإنسانية، وضرورة نبذ العنف.. وغير ذلك من الكلمات البراقة التي نعرف جميعا أن المقصود بها الاستسلام التام لدولة الكيان الصهيوني، ومساعدتها في خططها العدوانية التوسعية.

في الوقت نفسه الذي يسير فيه موكب التطبيع، تُشَنُّ حملات فكرية وإعلامية وأمنية ضد كل من ينادي أو يذكّر بوجود احتلال، وبضرورة مقاومته، حتى لو كان ذلك بشكل سلمي، كمقاطعة البضائع الإسرائيلية على سبيل المثال (راجع التضييق الذي يحدث على حركة BDS مثلا).. حرب شعواء على كل من يحاول استعادة اسم "فلسطين"، بأي شكل من الأشكال..

التطبيع الجديد الذي تدعو له هذه الدويلات هو غشاء شفاف جدا يفضح ما تحته من العداء للأمة العربية والإسلامية، والرغبة العارمة في إنهاء القضية الفلسطينية بحل نهائي دائم يفرض التفوق الكامل للكيان الصهيوني، دون أي مكاسب من أي نوع للشعب الفلسطيني..

هذه هي رؤيتهم للسلام، وهذا هو معنى التطبيع الحقيقي الذي يدعون إليه، وهذه هي "المعاني الإنسانية" التي يزعمونها.

* * *

لو سأل سائل عن سبب ذلك السعي المحموم للوصول إلى فرض حل من هذا النوع، فالإجابة واضحة، هذه الأنظمة لا يمكن أن تستمر في الحكم دون الدعم الإسرائيلي، وهي معزولة عن مجتمعاتها عزلا كاملا، وليس لها أي شرعية لتمثيل الغالبية الساحقة من المواطنين، وبالتالي أصبحت إسرائيل وسيلة بقائهم في الحكم، فهي شفيعهم لدى القوى العظمى، وبحسن سيرهم وسلوكهم في نظرها يحصلون على السلاح، وعلى الشرعية الدولية، ويتم ترشيحهم لجوائز السلام العالمية الكبرى!

من يظن أن أهل الإمارات أو البحرين - على سبيل المثال - موافقون على تطبيع العلاقات مع إسرائيل (رسميا أو شعبيا) فهو مخطئ. ولو أجري استفتاء حر نزيه، يأمن الناس فيه من عواقب تصويتهم بنعم أو بلا.. لوجدنا الغالبية الساحقة من العرب ضد كل أشكال التطبيع (ينطبق ذلك على جميع الدول العربية بلا استثناء يكاد يذكر).

وما حدث مع الممثل المصري المدعو محمد رمضان يمكن أن يحدث مع أي شخصية عامة تروج للتطبيع في جميع الدول العربية، وغاية ما في الأمر أن الشعب المصري - حتى الآن - ما زال يفرض منع التطبيع على حكامه، ويفرض مقاطعة الصهاينة على نفسه باختياره الحر، وفرض هذا الأمر من أي سلطة يبدو صعبا، كما أنه يبدو على غير مزاج السلطة، فكما ترغب السلطة في مصر في احتكار القوة، واحتكار العلاقات الخارجية، واحتكار المال، واحتكار الرؤية، فإنها ترغب أيضا في "احتكار التطبيع".

لذلك ليس من المستحسن أن نبالغ في ذم شعوب بعينها بسبب قرار فوقي بالتطبيع فرض عليها بقوة السلاح، فهذه الشعوب لا تملك فرصة إبداء الرأي في تلك القرارات، كما أن إبداء الرفض بشكل فردي يعتبر مرادفا للانتحار.. بل ربما يكون أسوأ من ذلك، لأن قرارات الأجهزة الأمنية للتعامل مع من يبدي رأيا فرديا تكون بمعاقبة عدد كبير من أسرة الشخص، أو الأسرة كلها، وتبدأ العواقب بالسجن والاعتقال، مرورا بمصادرة الأموال، وصولا إلى إسقاط الجنسية.

* * *

التهافت المخجل في التطبيع مع الكيان الصهيوني يقابله تصلب وصلف في تطبيع آخر مع أقرب المقربين!

الدول التي تحاصر دولة قطر منذ أكثر من ثلاث سنوات تعامل قطر معاملة لم تُعامل بها إسرائيل في أي لحظة من لحظات الصراع الذي بدأ قبل استقلال غالبية هذه الدول.

تعاند هذه الدول في إعادة علاقات عاقلة مع تركيا، وتصوّرها كخطر عسكري واستراتيجي، في الوقت الذي يرتمي القادة الأفذاذ في أحضان إسرائيل وكأنها أمهم بالرضاعة.

تطبع هذه الدول علاقاتها مع كل الدول والكيانات الإرهابية المسلحة التي يمكن أن تكون مخلبا يؤذي الأمة، لا فرق بين فرنسا وأرمينيا وصربيا واليونان، لا فرق بين البي كي كي والمليشيات الشيعية في العراق أو سوريا أو أي حركة مسلحة تحارب تركيا في أي مكان في العالم..

* * *

ثم دارت الدائرة على من مكر المكر السيئ، وها هو "ابن سلمان" يحاول إغلاق ملفاته المثقلة بالدماء بعد أن خسر "ترامب" الانتخابات، فهو يحاول الآن "تطبيع العلاقات" مع قطر!

والحقيقة أنه في وضع شديد الحساسية، وكان ينبغي عليه أن يحسم ملفات عدة في عهد أجيره وسيده "ترامب"، من أهمها ملف توليه المُلك، وملف حصار قطر، وملف حرب اليمن، ولكنه أخطأ في حساباته، وسوف يواجه أياما شديدة الصعوبة إذا لم يتمكن من "تطبيع" مهم، وهو "تطبيع" علاقاته مع السيد "جوزيف بايدن".

ومن الواضح أن القادم الجديد للبيت الأبيض لن ينجرف في مغامرات غير محسوبة، وسيعيد للسياسة وزنها، ذلك أن ما حدث في عهد المخبول "ترامب" لا يمكن وصفه بمصطلحات سياسية، لقد كان عبثا محضا.. مجموعة من المستبدين العرب المجرمين الفاسدين، تمكنوا لأول مرة في التاريخ من شراء رئيس أمريكي (أو تأجيره)، مقابل ما يقرب من نصف تريليون دولار.

هذا الوضع من الصعب أن يستمر في الفترة القادمة، وليس معنى ذلك أننا سنرى السيد "بايدن" يخوض حروبنا نيابة عنا، بل غاية ما في الأمر أن سمت الرئاسة سيعود كما كان، وستعود للمؤسسات كلمتها، بعد سنوات من الحكم عبر "تويتر".

 

twitter.com/arahmanyusuf

 

موقع الكتروني: www.arahman.net

التعليقات (2)
رائد عبيدو
الأحد، 29-11-2020 07:12 م
الشعوب ليست بحاجة إلى استفتاء حر نزيه يأمن الناس فيه من عواقب تصويتهم لإثبات رفضهم للتطبيع. رفض التطبيع يقتضي عدم مدح أي مطبع، فضلا عن الدفاع عنه وتبرير تطبيعه. فيكفي لإثبات رفض التطبيع نبذ كل من يرتبط بعلاقة مع العدو، سواء أكان فردا أو قناة أو شركة أو حكومة. وعندما ترفض الشعوب التطبيع سينخفض عدد مشاهدي القنوات التي تستضيف صهاينة، وعدد المسافرين جوا عبر شركات لا تمتنع طائراتها عن الهبوط في مطار اللد المحتل، وعدد المصفقين للمتمسكين بالمبادرة العربية التطبيعية، وعدد منتخبي من لا يتعهد بقطع علاقات بلاده مع العدو -فضلا عمن يعلن محافظته على أي اتفاقية سلام معه، وعدد مؤيدي حكام يسمحون برفع علم الصهاينة في بلادهم، وعدد مشتري منتجات الشركات العالمية التي تساهم في جرائم الصهاينة.
التكاتف
الأحد، 29-11-2020 12:43 م
لا أحد يذم الشعوب فالكل منها واليها ويدرك ويتفهم ما لا يتفهمه أي طاغية وحاشيته..لكن زمن الاستفراد بالشخص الواحد أو الجماعة الواحدة والتنكيل بهم أشد تنكيل لتخويف وارعاب الآخرين الذين يكتفون بالمشاهدة والمتابعة في صمت وحزن يجب أن ينتهي بوحدة الصف والتكاتف عند أي ظلم أو جرم مهما كان صغيرا... ليس النظام المذكور هو الوحيد الذي في ورطة بل كل ألانظمة أمام براكين وقد حفرت وعمقت حفر دفنها بنفسها..فالنظام يغير ثوبه حسب حاجته هو لا حسب حاجة الشعب ولانقاد أمواله وثرائه المسروق من الشعب وعند حصوله على الأمان سيعود لنفس أفعاله سواء الطاغية نفسه أو خلفه... فلا تسامح للشعوب معها مهما غيرت أو رقعت من الفساتين فرحيلها يجب أن يكون هو الغاية والهدف وهو الحرية والحياة...