ربما علينا بعد كل فترة أن نراجع مع تطور عالم الأحداث، كيف تتعاطى المنظومة الانقلابية في
مصر بفهمها للمواطنة والحقوق التي تترتب عليها، سواء أكانت تلك الحقوق من الحقوق الأساسية والتأسيسية أو الحقوق السياسية والمدنية. ذلك أن الانقلاب في أحد صوره يحدث انقلابا ليس في رأس السلطة أو مؤسساتها الكبرى فحسب، ولكنه يمارس أيضا انقلابات صغيرة وخطيرة في مساحات أوسع، يعبّر فيها عمن يقره فيمر من اختبار الحقوق سالما، ومن يرفضه فيجعله محل اتهام دائم ومن ثم الإصرار على التمييز ضده في سياق يسقط عنه كل الحقوق، ويمكن أن يتطور الأمر إلى أشكال قد تتعلق بالتلفيقات والعقوبات.
وقد أكدنا من قبل أن تلك الانقلابات يمكن أن تحدث أيضا في مجال المفاهيم، ذلك أن الانقلاب ببطشه وطغيانه يبني مفاهيمه الخاصة على الأرض وفي كافة المجالات، فيحدث أيضا انقلابا في عالم المفاهيم، فيتبنى الانقلاب مفاهيمه الخاصة لمفاهيم قد تكون معتبرة أو اصطلحح عليها عند أهل المجال/ الفن أو التخصص، ولكن لدى الانقلاب الأمر يكون محطا لانقلابات أخرى في عالم المفاهيم حتى تتواكب معه سلوكا وسياسات.
ويتواكب مع انقلاب المؤسسات والمفاهيم انقلاب ثالث في المعايير والقيم. إن مجتمعات الانقلاب ودولته إنما تحدث انقلابا في المعايير وفقدانا لمعناها ونقضا لمغزاها، ومن ثم تكتمل متوالية الانقلاب في مجالات شتى فيحكم دائرته، فلا تستغرب ما لا يمكن قبوله أو يتمتع بأدنى قدر من المعقولية. هو وفق هواه الانقلابي يستطيع أن يحدد قواعده التي لا تشكل إلا قواعد انتقائية ظالمة فاجرة، وهي خارج إطار التقدير وخارج دائرة التبرير.
أردنا من تلك المقدمة أن نوضح أمرا شديد الخطورة ليس فقط في المواطنة الاعتيادية، ولكن كيف يمكن أن يحدث حراكا مهنيا أو تبوؤ مناصب استقر الأمر على أن تكون وفق معايير انتخابية يُحتكم فيها إلى نتيجة الانتخابات، فتكون تلك النتائج هي الفيصل في تولية هذا أو ذاك.
هذه القواعد البديهية في أي مؤسسة من المؤسسات لا يجرؤ أحد أو صاحب عقل على تدميرها، إلا هؤلاء الانقلابيون الذين لا يقومون بأي عمل إلا ما يحفظ عليهم بطشهم وطغيانهم، ويشيعون من خلالها سياسات الترويع والتفزيع وكل السياسات التي تنتج جمهورية الخوف. فسلطة الانقلاب من المؤسف أنها ترى في نفسها أنها الوحيدة التي توزع الرحمات، وتمنح الهبات، وتعتقل وتطارد وتقصي وتقتل، بل وتحيي وتميت، وذلك بفعل القانون المعتمد فيها والذي يسكنها، ألا وهو قانون غطرسة القوة وبطش الطغيان.
هذه الحال غالبا ما تنتج أشكالا من الاعتماد لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن تكون أشكالا من انقلابات صغيرة تسمح للانقلاب الكبير أن يستمر ويستقر، لأنه ينصب نفسه المانح المانع، العاطي الوهاب، حاشا لله أن يعلو هؤلاء علوا كبيرا ويمارسون فسادا كثيرا.
كل تلك الأمور إنما تعبر عن حالة دهس كل المفاهيم التي تتعلق بالحقوق وبالعدل والإنصاف. إن مجتمع الانقلاب ببساطة هو مجتمع القتل والظلم والإجحاف، لا يقيم وزنا لأي قيمة ولا ينضبط بأي معيار، ولكنه يوزع الاتهامات على من أبى أو لم يساند، ويوزع الهبات على من رضي أو تابع أو خضع، ومع ذلك فإنه قد يمارس حتى مع من تابع متواليةَ إذلال ليس لها من نهاية.
نقول ذلك بالاعتبار الذي سيكون فيه مثلا الأستاذ
الدكتور حسن الشافعي بصفته مواطنا، كيف يمكن أن يمارس حقوقه في مؤسسة تجدد فيها انتخابه، وحينما انتخب بأغلبية كبيرة تصل إلى الثلثين فإن المنقلبين كان لهم شأن آخر، ولسان حالهم وفعلهم يقول "إنه ليس منا، ومن ليس منا فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتولى منصبا حتى لو كان منتخبا"، ومن ثم فإن أي حديث عن الديمقراطية أو مراعاة حقوق الإنسان ليس إلا فائض كلام في تلك النظم الانقلابية التي تمارس فائض السلطة وطغيانها. وهذا الخطاب ليس إلا خطابا زائفا مزورا لا ينهض بأي حال من الأحوال إلا ليشكل مجتمعات الاستبداد والظلم، والظلم - على القانون الخلدوني - مؤذن بخراب العمران.
لم نستغرب مثل هذا التصرف، خصوصا وأن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو كان نموذجا أكبر لتصرفهم في هذه الحال، فقد لوح العسكر بقوتهم وقطعوا الطريق على مسار ديمقراطي منتخب، وفرضوا شخصا كان بمثابة ستار أو صورة حتى يحكموا من ورائه وهو عدلي منصور. إن ذلك الذي كَلّف لا يملك الحق، وأن ذلك الذي كُلف لا يستحق.. هذه هي المعادلة الانقلابية ببساطة، أعطى من لا يملك على الحقيقة السلطة - استنادا إلى شرعية حقيقية - لمن لا يستحق وعدا بسلطة لا تكون إلا غطاء لانقلاب كبير.
فالعسكر حينما يحكمون ويتحكمون يتسمون بكثير من الغطرسة والغباء، فيؤدي بهم ذلك إلى تمرير الأمور بشكل فج وعلى نحو فاجر، لا يقيمون للقواعد وزنا ولا للمعايير قيمة. وإن المشكلة الحقيقية في أن هؤلاء الذين يدعون الدفاع المستميت عن الحرية يتحولون بقدرة قادر على أن يكونوا ترسا في منظوم الظلم والجور وفي نظام الاستبداد والغيان ليقبلوا بهذا. هل أتاك حديث عدلي منصور الذي قبل بمنصب الرئيس المؤقت وقد كان رئيسا للمحكمة الدستورية تراقب الدستور، فإذا به يقبل تعطيل الدستور والقيام بأخطر دور وأحقر وظيفة؟ إنه محلل للانقلاب.
ومن ثم إن قبول
الدكتور صلاح فضل ليس إلا من نفس العينة الانقلابية والصنف الغاصب. هؤلاء ومن لف لفهم صدعوا رؤوسنا بالحرية وحمايتها، وبهؤلاء الرجعيين الذين يريدون لنا أن نعيش في قرون غابرة، فماذا فعلوا؟ فعلوا أسوأ مما كان يُفعل في القرون الغابرة، ومارسوا سحق الحقوق وهدمها ونقضها من أساسها، ولا يستنكف أحد منهم أن يعتلي كرسي الرئاسة في مؤسسة ما وهو لا يستحقه. ومن ثم يأتي صلاح فضل الذي يترأس مؤسسة تقوم على حراسة اللغة وصفائها واللغة ونقائها ليقوم بتلويث تلك اللغة، ضمن ممارسة له تتعلق بالألاعيب اللغوية وقدر من "النصب" اللغوي لا يمكن بأي حال من الأحوال قبوله وفق القواعد والقيم والمعايير.
ماذا قال صلاح فضل "المدهش" معلقا على ذلك الذي حدث؟ قال إن ما حدث من توليه لهذه المؤسسة لم يكن صحيحا فحسب، بل كان أكثر من ذلك، كان تصحيحا.. هكذا هي الألاعيب اللغوية والاحتيال الأخلاقي حينما يمارسه أمثال هؤلاء، فلا تجعلنا بأي حال من الأحوال أن نستبشر خيرا بمن جاء ليحرس اللغة. فمثل هذه التصريحات لا تجعل منه رئيسا لهذه المؤسسة فهو ليس إلا لصا محترفا، سرق اللغة وبدد معانيها الحقيقية، وسرق المنصب ومارس لغة احتيال لم يجعل فيها للكلمات قيمة أو معنى أو مغزى.
فأين قيمة كلمة المواطنة؟ وأين قيمة كلمة الانتخاب؟ وأين قيمة هؤلاء ممن أعطوا أصواتهم من أصحاب التخصص وأعضاء المجمع؟ من لهم حق الانتخاب؟ أين كل هذا من تلك المهزلة الخطيرة التي لم تكن إلا من تعيين لص أكبر منقلب للص أصغر من طينته؟ تحايلوا جميعا على اللغة ومجمعها، على رئيس ذلك المجمع الشرعي الشيخ الجليل الأستاذ الدكتور حسن الشافعي.
ولم يعد يصلح يا سادة أن نتلاعب بالكلمات فيتحدث "فضل" أيضا بأن مهمته التي سيقوم عليها هي تحرير المجمع من الهوى الإخواني. ليس هذا بتحرير، ولكنه في حقيقة الأمر مصارع الاستعباد حينما تتحكم، وطبائع الاستبداد حينما تحكم، فيعد بذلك الراسب ناجحا، والناجح المستحق راسبا ومتهما؛ والأمر في النهاية لهؤلاء الذين يبطشون بالقوة والطغيان، ويدلسون على القيم والمعايير لهوى يتعلق بغطرسة القوة وطغيان السلطة وفجر المواقف.. "وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا".
twitter.com/Saif_abdelfatah