هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة تخوفات كثيرة تُثار على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي أحاديث الناس العامة، يتوجس أصحابها خيفة من أن إجراءات إغلاق المساجد، وما يتبعها من توقيف الدروس والمحاضرات الدينية، كإجراءات صارمة قررتها كثير من الدول العربية والإسلامية لمواجهة تداعيات جائحة كورونا إنما تصب في صالح تجفيف منابع الهداية الدينية باعتبار المساجد هي المحضن التربوي والإيماني وفق المنتقدين لتلك الإجراءات.
ويجادل المنتقدون لإجراءات إغلاق المساجد بأن روادها من أكثر الناس التزاما بالشروط والتدابير الصحية المطلوبة في التجمعات العامة، متسائلين: لماذا تسارع الجهات المعنية إلى إغلاق المساجد دون غيرها مع أن أماكن التجمعات العامة الأخرى، كالأسواق ومحلات بيع الخضار، والوزارات والدوائر الحكومية، والبنوك.. والتي تشهد اكتظاظات شديدة لا يُصار إلى إغلاقها، بل يُكتفى بالتشديد على اتباع الإجراءات الصحية اللازمة، وهو ما يمكن إلزام المصلين به كغيرهم؟
بل صرح بعض المنتقدين لقرارات إغلاق المساجد بأنها تفضي في نهاية المطاف إلى تجفيف منابع الهداية الدينية، وتحرم المصلين من التواجد في بيئات الرحمة والهداية والسكينة، وتفوت عليهم الوجبات الإيمانية والتربوية التي كانوا يتلقونها بصفة منتظمة عبر الدروس الوعظية، وخطب الجمعة، والمحاضرات الدينية المتنوعة، وهو ما يؤدي بمجموعه إلى التقاعس عن أداء العبادات، وعدم تعظيم شعائر الدين، وضعف الإيمان الدافع إلى الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة.
وفي هذا الإطار رأى الداعية والباحث الشرعي المصري، الدكتور صفاء الضوي العدوي أن "الأنظمة العربية خاصة تعمل بدأب ممنهج منذ عقود على تجفيف المنابع الدينية بالتضييق على وسائل الدعوة، ومطاردة رموزها من العلماء والدعاة والمصلحين.. وجاءت جائحة كورونا فأهدتهم فرصة تتسق مع خطتهم".
وأضاف: "فانتهزوها في خسة ولؤم وكأنهم يحرصون على سلامة الناس بينما يتحدث العامة أن كل شيء مفتوح، الأسواق والمواصلات المكتظة والملاعب إلا المساجد فلها الإغلاق والغرامات على من يخالف حتى بات الناس يصلون على جنائزهم في الشوارع والطرقات".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وقد اتضح جليا أن إجراءات السلام المزعومة هي جزء من حربهم على التدين ومحاضنه ومراكزه.. وأما أن المساجد تخرج العنف والتطرف فهذا دجل وافتراء، فأبناء المساجد هم الناجحون في حياتهم ودراستهم ووظائفهم وهم خيرة شباب المجتمع".
وواصل: "وفي الحقيقة فإن الأنظمة العلمانية هي المتطرفة، وهي أهل العنف والقسوة، وهم صانعو الإرهاب.. فهم الذين ضيقوا على الأئمة والخطباء وألزموهم بخطاب أقرب إلى العلمانية، وأبعد عن مفاهيم الإسلام الصحيحة" على حد قوله.
من جهته رأى الأكاديمي التربوي الأردني، الدكتور عوني القضاة أن "التوجس من إغلاق المساجد ودور العبادة وقت الوباء لا داعي له؛ لأن مبنى الدين ومقصده الأول هو الحفاظ على الضرورات الخمس، ولو نظرنا إلى هذه الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض فهي كلها مهددة بهذا الوباء".
وتساءل: "ألا يهدد الوباء النفس، وقد أصيب أكثر من 38 مليونا حول العالم، وتوفيت أكثر من مليون نفس به"؟ ألم يغلق الاقتصاد المحلي والعالمي بلا استثناء؟ أليس هذا مهلكة للمال؟ ألم تخسر أمريكا وحدها 16 ترليون دولار بسبب هذه الجائحة.. وانكمش الاقتصاد العالمي كله بنسبة 6%"؟
وتابع لـ"عربي21": "التوجس لا بدفع البلاء؛ ما يدفع البلاء هو دفع الأقدار بالأقدار، بأخذ جميع الأسباب الموجبة لحفظ الضرورات" مضيفا: "وتبقى مسألة تجفيف منابع الهداية الدينية وهما لا أكثر، حيث أخذ البيت مكان المسجد والمدرسة، فكلنا نحضر الدورس العلمية عبر النت، ونتواصل مع أعلى المصادر العلمية بكبسة زر، ونناقش الأفكار بجلسة واحدة مع أقطاب العلم في كل ربوع الأرض من الأردن إلى أمريكا الشمالية، فأوروبا وآسيا وأفريقيا..".
واعتبر القضاة أن "التوجس والتخوف جزء من فلسفة التقوقع والتأطير والتعليب التي اعتادها البعض؛ وخروجهم عن المألوف قد يضر نوافذ وربما أبواب رزقهم، والأصل أن يفتح الإنسان بصيرته ويدرك أن الله أراد منه أن يهتم بروح النص أكثر من اهتمامه بحروف مصفدة هنا وهناك".
ولفت إلى "وجود توجهات لتجفيف منابع الهداية، ولذلك جاءت سورة (المنافقون) في قرآننا لتكشف عن ذلك، وستبقى هذه النصائح ما بقي خير وشر"، متسائلا: "ولكن هل هذه المراكز الدينية تفرخ أفكار التطرف على الحقيقة"؟ ليجيب: "في غالبيتها ليست كذلك، والمشكلة في الممارسات التي قد تخرج من البعض".
بدوره قال الخبير الإعلامي، مقدم برنامج (الشريعة والحياة) في قناة الجزيرة، الدكتور عثمان عثمان: "لا يخفى أن المساجد هي أهمّ محاضن التربية الإسلامية، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون بناء المسجد أول عمل يقوم به بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، حيث كان المسجد حينها محور الحياة الإسلامية، مؤسسة إسلامية شاملة، إيمانية تعليمية تربوية اجتماعية سياسية".
وأردف: "أما اليوم فإن المساجد كثيرة، لكنّ معظمها غير مفعل، ولا يقوم بدوره المنوط به، ولقد استعادت المساجد بعض أدوارها إبان ثورات الربيع العربي، حيث برزت منطلقا لمظاهرات في وجه الفساد والاستبداد، والدعوة إلى الإصلاح والتغيير، ولذلك سارعت قوى الثورات المضادة إلى مصادرة دور المساجد الإصلاحي، وتأطيرها من جديد لخدمة مصالحها".
وتابع: "اليوم ومع جائحة كورونا خرجت توصيات رسمية عالمية ومحلية صحية وحكومية تقول بمنع التجمعات البشرية، ومنها تعليق صلوات الجمع والجماعات، في خطوة ضرورية لمواجهة سرعة انتشار فيروس كوفيد 19، ولاقى ذلك ردود فعل متباينة تجاه تلك التوصيات".
وردا على سؤال "عربي21" حول الآثار المترتبة على إغلاق المساجد، أكدّ عثمان "أن إغلاق المساجد يخدم بشكل ما خصوم الإسلام، ويؤثر على النموّ الإيماني لروادها، إلا أن هذه الخطوة فتحت بدورها نافذة هامة للتعرف على تعاليم الإسلام في العالم الغربي خاصة، عندما بادرت مراكز إسلامية إلى تعليق التجمعات في المساجد، من منطلق الحرص على حياة الإنسان.. وهو ما لاقى ترحيبا واضحا من السلطات المحلية، وأثارت تساؤلات هامة عند غير المسلمين، جعلتهم يبحثون عن إجابات تصب تلقائيا في خدمة تبيان عظمة هذا الدين".
وعن مدى تأثير إغلاق المساجد على تجفيف منابع الهداية الدينية والمعرفية أشار عثمان إلى "إمكانية التعويض عنه بشكل أكبر من خلال التكنولوجيا المتوفرة لخدمة الإنسان، ولقد شاركت شخصيا في مؤتمرات عدة، وألقيت محاضرات مختلفة، وأجريت حوارات هامة، ما كان لي أن أقوم بها لولا هذه الظروف المستجدة".
ونبه عثمان إلى "أننا في الوقت ذاته لا يمكننا إلا أن نسلط الضوء على قيام أنظمة استبدادية عربية و(إسلامية) بدفع أموالها، وتوظيف إعلامها من أجل تشويه صورة المساجد والتشكيك بدورها، واتهام بعضها بأنها محاضن للتطرف في الغرب عامة، وفي أوروبا بشكل خاص".
واعتبر في ختام حديثه أن ما يجري "هو من سنة التدافع في الأرض بين الحق والباطل، وتلك فرصة سانحة من أجل المبادرة لاستعادة دور المساجد منارة إيمانية وحضارية وثقافية ومعرفية، تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد، وتجمع ولا تفرق وتخرج للمجتمعات أفرادا صالحين منضبطين يساهمون في مسيرة البناء الحضاري الإنساني".