لفت تطور
العلاقات التركية
القطرية
أنظار الباحثين والمحللين في الشؤون السياسية، كما أنها شدت اهتمامات الدارسين والباحثين
في مجال العلاقات الدولية، حيث مثَّلت هذه العلاقة المتميزة حالة من التزاوج المتزن
بين المصالح والمبادئ في إطار أخلاقي فريد.
ففي أطروحة الدكتوراه الموسومة:
"العلاقات التركية القطرية (2002-2019): قضايا الأمن الإقليمي"، تناول
د. صادق الشيخ عيد من جامعة سكاريا التركية، مسار التطور الذي شهدته العلاقات الثنائية
التركية القطرية وتناميها خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية (AK
party)
في
تركيا منذ عام 2002، والمراحل التي مرَّت بها ابتداء من مرحلة التقارب
(2002-2011)، مرورا بمرحلة التنسيق والتعاون (2012-2013)، وصولا لمرحلة التعاون
الاستراتيجي الشامل في المستويات المختلفة منذ عام 2014.
وقد أشار د. صادق الشيخ إلى أن
العوامل الأمنية لا سيما دفع التهديدات المشتركة في البيئة الإقليمية كان لها
الدور الأبرز في تطوير العلاقات التركية القطرية مع تصاعد حالة عدم الاستقرار في
الشرق الأوسط، وزيادة وتيرة النزاعات الإقليمية والتدخلات الخارجية فيه، كونه محط
أطماع ونفوذ الدول العظمى. كما أوضح أن الذي ساهم في تطوير العلاقات بين البلدين
كان تقاطع مصالح تركيا وقطر في الشرق الأوسط، تبعا لتوافق رؤاهما تجاه أكثر قضاياه
وبشكل خاص في فلسطين ومصر وليبيا وتونس وسوريا وغيرها، يضاف لذلك العوامل
الثنائية؛ كالتوافق السياسي والتكامل الاقتصادي والتعاون الأمني والعسكري
الاستراتيجي، والذي شكَّل حقيقة أبرز تجليات متانة هذه العلاقات بين البلدين هو
افتتاح القاعدة العسكرية التركية في قطر، وهي أول قاعدة عسكرية لتركيا خارج
حدودها، وكذلك الشراكة في الصناعات الدفاعية، والتكامل الاقتصادي، إلى جانب العمل
المشترك في قضايا الإقليم المختلفة.
وقد بيَّن د. صادق الشيخ بأن دوافع
هذه العلاقة هي أن استراتيجية دولة قطر تقوم على الدخول في تحالفات إقليمية لحماية
نفسها في بيئة تفتقر للأمن والسلم بشكل كبير، إلى جانب تحالفاتها الدولية، حيث
أنها تقع في بيئة جيوستراتيجية شديدة العداء، ولا بدَّ لها كضرورة حيوية من تنويع
علاقاتها الدولية لمواجهة الضغوط الخارجية التي تزايدت كثيرا بعد اندلاع ثورات
الربيع العربي.. لذا أقامت علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، واستضافت
قاعدتين عسكريتين كبيرتين على أراضيها، كما أقامت شراكة استراتيجية مع تركيا؛ الدولة
المركزية في المنطقة، والتي تشكل بهيبتها العسكرية ومكانتها التاريخية عنصر توازنٍ
مع قوى إقليمية تتوجس منها قطر كالسعودية والإمارات المتحدة.
أرجع د. صادق الشيخ نجاح العلاقة
بين قطر وتركيا إلى الكاريزما التي يتمتع بها زعيما البلدين، وإلى صداقتيهما
الشخصية، وقدرتيهما الكبيرة على التأثير في صناعة القرار. كما يجمع الرئيس التركي
رجب طيب أردوغان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني تقارب في الفكر والقيم المشتركة،
فالرئيس أردوغان ذو خلفية إسلامية وطنية حيث ينتمي لجماعة "الملي
قوروش"؛ أي فكر الأمة، وينتمي الشيخ تميم لأيديولوجيا قومية إسلامية. كما أن
التنسيق والتشاور بين الزعيمين في الكثير من القضايا الداخلية والخارجية يؤشر إلى
مستوى الثقة الكبير والمتبادل بينهما.
كما أن هناك التكامل الاقتصادي،
حيث تعتبر قطر من أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم، بينما تركيا من أكبر مستورديه
وهو ما شكل فرصة للتكامل، كما تمتلك تركيا الخبرات والموارد البشرية بينما تمتلك
قطر الموارد المالية، وقد شكلت تركيا بيئة استثمارية مهمة للاستثمارات القطرية
الرسمية والخاصة في القطاعات المختلفة العقارية والمالية وغيرهما، كما فتحت قطر
الباب للشركات التركية للاستثمار في قطر لا سيما في قطاع البنية التحتية للاستعداد
لاستضافة مونديال كرة القدم للعام 2022.
ومما لا شك فيه أن التهديدات
الأمنية المشتركة تشكل أحد أهم عوامل التقارب بين تركيا وقطر، حيث يشتركان في الكثير
من المهددات الإقليمية، لذا جاء التعاون بين البلدين استخباريا وأمنيا على أعلى المستويات،
كما تجمعهما العديد من الاتفاقيات الثنائية في هذا الصدد.
وحول مستقبل العلاقات التركية
القطرية، استشرف د. صادق الشيخ بأنها تتجه للمزيد من الشراكة الاستراتيجية في
المستويات الثنائية والإقليمية والدولية. ومن أهم الاعتبارات والمؤشرات على ذلك؛
استقرار الظروف الداخلية في قطر وتركيا، وقدرة القيادة في البلدين على الاستمرار في
الحكم. وكذلك تنامي التهديدات الإقليمية، وزيادة مساحة العمل المشترك لرعاية مصالح
البلدين في الشرق الأوسط.
في الحقيقة، لقد جاءت هذه الدراسة
بطابعها البحثي الأكاديمي لسبر أغوار هذا التطور في العلاقات التركية القطرية،
والتي قامت على أرضية أخلاقية مزجت باحترافية عالية بين المصالح التي هي أساس علم
السياسة والمبادئ التي تمثل جوهر المنظومة القيمية في العلاقة بين الدول التي
تجمعها روابط الدين والعقيدة. إنها دراسة لتجربة في العلاقات الدولية تستحق
القراءة والتأمل.