هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
لا يخيفني أن أخسر الواقع..
ما يخيفني بشدة أن أخسر الحلم
كانت هذه مشاعري وكلماتي وخطة حياتي قبل ثورة يناير، في تلك الأيام المدهشة (أيام الثورة) رأيت الناس تمسك بطرف الحلم وتشده نحو الواقع، حتى صارت المسافة بين الإثنين قريبة جداً.. وخطيرة جداً
كان من الخطأ أن نفرض الأحلام على الواقع في دفقة واحدة، فميدان الثورة مزدحم بأحلام متباينة وأهداف مختلطة ومشبع بمشارب تفضي بالضرورة إلى مآلات متباعدة...
كنا أكثر من شعب يواجه سلطة واحدة متسقة ترتبط بمنظومة فساد وتبعية وخضوع لحامل البندقية أيا كانت أخلاقه وسلوكياته، إذ يكفي أنه قادر على وضع المسدس أمام أذنك ليفرض عليك عرضه الذي لا يمكنك رفضه، لهذا تحول فعل الثورة إلى كابوس كافكاوي لا فكاك منه: سلطة غاشمة تسحق أي فرد يعارضها وتجبر الجموع على التحول الاضطراري إلى مسوخ في مستوطنة العقاب والفوبيا، لكن المشهد لم يخل من المواجهة غير المتكافئة بين سلطة البطش الجبارة وأفراد ضعاف لا يملكون إلا قدرتهم غير العقلانية على المواجهة، كان هناك أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح والشاب أحمد محيي الذي وقف وحيداً في ميدان الثورة يحمل ورقة بيضاء عليها شعار بخط يده: ارحل يا سيسي، وفي المواجهة أيضا حضر إلى جوار الشباب شيخ مخلص للثورة هو المهندس ممدوح حمزة الذي تحاكمه سلطات البطش بتهمة الإرهاب عقاباً على تدوينة يدعو فيها سكان جزيرة الوراق للدفاع عن أرضهم!
(2)
كثيراً ما أتذكر عبارة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح: إن زنزانة صغيرة في وطني خير من قصور لندن، عبارة جميلة على مستوى الحلم والأمنيات والبلاغة السياسية، لكنها على مستوى الواقع ليست إلا مأساة كئيبة وهزيمة سياسية وشخصية مريرة، وهو الأمر الذي عطلني لأكثر من عامين عن تنفيذ رغبتي في العودة إلى الوطن والمواجهة (غير المتكافئة) من الداخل، فالأصدقاء والأهل يتكلمون لغة الواقع ويحسبون حسابات الواقع وينصحونني بعدم الإقدام على حماقات انتحارية، بينما قلبي مشحون بالرغبة في الانتصار للحلم والمواجهة الأقرب للأمثولة التراجيدية منها للإنجاز الواقعي، وبسبب هذه التناقضات بين الواقع والحلم انتقلت من "الحالة الكافكاوية" حيث يموت الفرد لتبقى الأمثولة، إلى "الحالة الشيكسبيرية" حيث يكون الانتظار جحيماً والنسيان موتاً في متاهة من الوجع كما عرفنا من تردد هاملت وعذابات لير.
(3)
تابعت بعدم اكتراث أخبار التظاهرات الهزيلة في كهوف الليل الريفي بعيداً عن ضوء العاصمة والمدن الكبيرة، وامتنعت عن التعليق السياسي عليها، وبعد أن كتبت عنها مقالاً بالأمس أحجمت عن إرساله، وقضيت اليوم في أسئلة هاملت لهوراشيو وحفار القبور: هل نحن هنا؟.. هل لدينا ما يفيد؟.. ما هو الصحيح؟..
(4)
وسط الأسئلة الهاملتية المؤلمة للروح طالعت خبر مقتل سجناء وضباط شرطة أثناء محاولة هروب من السجن، وتعجبت بشدة من صياغة الخبر، وأسرفت وقتا في تقصي المعلومات ومحاولة فهم ظروف الحادثة، أو الجريمة أو المحاولة أيا كانت التسمية التي تسبق فهم ما حدث..
لم يكن هناك معلومات تفصيلية مقنعة، ولم يكن هناك سيناريو يفسر المواجهة النارية التي أدت إلى مقتل ضباط برصاص سجناء محكومين بالإعدام، لأن هذا يفتح أمامنا باب أسئلة كثيرة عن كيفية امتلاك السجناء للسلاح، وظروف القتل ومكانه؟!
(5)
تصورت في البداية أن السجناء من الجنائيين حيث يسهل تصور تنفيذ عمليات مثل هذه لدى مافيا المخدرات وتجار السلاح من الجنائيين، لكنني عندما عرفت أن السجناء من جماعة "أنصار الشريعة" التي حوكمت بتهمة الإرهاب وارتكاب جرائم قتل بحق ضباط شرطة وجيش ونال بعضهم أحكاما نهائية بالإعدام، زاد الأمر من شكوكي في تهاون إدارة السجون لدرجة حصول هذه المجموعة بالذات على أسلحة قتل داخل جدران السجن!
(6)
في السنوات الأخيرة صرت أتحسس من أخبار القتل السياسي بكل أشكاله، وأتحفظ على التفرقة في صياغة أخبار الموت ومنح درجة الشهيد للشرطي ودرجة المقتول أو الهالك للطرف المقابل، فهذا من الناحية القانونية يعبر عن احتقار لأسلوب المحاكمة، ومنح الألقاب والمكافآت قبل التبين، وتذكرت مشهد قتل مأمور السجن في فيلم "الخلاص من شاوشانك"، وسألت نفسي:
لماذا تعاطفت (مثل الملايين) مع هروب السجين ولم أتعاطف مع المأمور الفاسد القتيل؟
لماذا ابتهجت لنجاح "خطة ريتا هيوارث" في الفيلم، واعتبرتها انتصاراً للعدالة والحرية، بينما أفتش في الواقع عن الشكوك التي تبرر لي قتل ضابط لسجين هارب إلى الحرية؟
لماذا أتعاطف مع مظاهرات الغضب في أمريكا أكثر مما أتعاطف مع المظاهرات الليلية الهامشية في مصر؟
تعجبني حركات مناهضة السلطة في الغرب حتى لو استخدمت القتل والتخريب، وأفتش عن أفعال جمالية مثالية للاحتجاج العشوائي في بلادي؟
لماذا جعلنا من ارنستو جيفارا أيقونة للبطولة والنضال ومن أسامة بن لادن أيقونة للإرهاب والإجرام؟
لماذا نفخر بشباب احتلوا وول ستريت وأنتيفا والسترات الصفراء وأولاد جاي فوكس والبانكس والهيبز وغيرهم ونلوم شباب الاحتجاج الغاضب في مصر وبلاد الربيع العربي؟
(7)
في فترة من الفترات كان اليسار يحتكر موروث النضال الإنساني، لهذا كانت الأيقونات كلها على جانبي هذا الطريق وفقط، لقد نجح المعسكر الشيوعي في صناعة شهداء للحرية والاشتراكية والعدالة الإنسانية ومقاومة الاستغلال والفاشيات العسكرية، كما يظهر من سرديات مقتل فيكتور خارا ومنفى نيرودا واغتيال تروتسكي وموت شهدي عطية من أثر التعذيب..
أعرف أن الواقع بائس ومخجل، وأن الحلم أجمل وأعظم، لذلك لا أحب أن أكون واقعياً، أحب أن أشبه الأحلام الجميلة المبتغاة أكثر مما أنخرط وأتفاعل مع الواقع الرديء الذي أسعى لمفارقته وليس لمعايشته
ليست مشكلة أن يخلد اليسار أبطاله، لكن لماذا نحرم "غير اليسار" من ذلك المجد النضالي؟ لماذا نتركهم للتصفية الدموية في الواقع ثم نسقطهم من ذاكرة النضال الإنساني باعتبارهم مجرد مجرمين محكومين بالإعدام؟... كأن قتلهم صحيح، وكأن تعذيبهم صحيح، وكأن إقصاءهم ونفيهم خلاص للإنسانية وتحقيق للعدالة، بل أننا ادخرنا التعاطف لسجناء اليسار والليبرالية الغربية دون غيرهم من الإسلاميين أو ضحايا المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية وموجات التغريب التي لم تجد من يؤطرها بشكل سلمي آمن في المجتمع، كما أننا ننزه أنفسنا وأفكارنا وأحزابنا عن المشاركة في فعل سياسي مع الشارع بتويعاته الثقافية والطبقية، كأن المشاركة في التظاهرات تحتاج إلى استيفاء شروط للهيئة الأيديولوجية والطبقية كالدخول إلى حفلات الأوبرا.
(8)
أعرف أن الواقع بائس ومخجل، وأن الحلم أجمل وأعظم، لذلك لا أحب أن أكون واقعياً، أحب أن أشبه الأحلام الجميلة المبتغاة أكثر مما أنخرط وأتفاعل مع الواقع الرديء الذي أسعى لمفارقته وليس لمعايشته، لكن الحصول على الوردة قد يقتضي الانغماس في الوحل، وإذا كانت الثورة (حسب تعريف لينين) مهمة تستوجب الخوض الشجاع في الأوحال والمستنقعات، فلا يجب أن نتعامل بتطهر بوريتاني مع أوساخ المرحلة، علينا أن نفكر في طريقة للتعامل مع المرضى بهدف علاجهم، وليس بغرض تكريس أمراضهم والاتجار بها، علينا أن ننظر بعدل للفقراء من أهلنا، علينا أن نحترم أساليبهم حتى لو كانت عفوية ومتخلفة، وأفكارهم حتى لو كانت بسيطة وساذجة، وأهدافهم حتى لو كانت قصيرة النظر، هذا لا يمنع أن نطور من أساليبهم وأدواتهم وأهدافهم، ولا يمنع أن ننقذهم بقدر ما نستطيع من سماسرة التوظيف الانتهازي والاستخدام المؤقت غير المرتبط بعقود اجتماعية وسياسية وأخلاقية..
قد لا تعبر تظاهرات مصر عن أملنا في إنجاز مهمة التغيير السياسي للسلطة الراسخة، وقد لا تكون في المستوى المبهر الذي يسكن وجدان "أبناء يناير" بمختلف أجيالهم، لكن قدرة التظاهرات على التعبير تستحق الاحترام حتى لو لم تنجز التغيير، فالتعبير مرحلة مهمة من مراحل رفض الظلم والسعي للثورة، لذلك أنبه للتواضع عند تقييم الأفعال في ظروف صعبة، علينا أن ندرك صعوبة العمل واختلال القوة وغياب الأدوات، علينا أن نكتشف أبطالنا الجدد من قلب حياتنا ولا نقيسهم بمسطرة الانبهار الأيديولوجي الخارجي أو أمراض الدونية تجاه الغرب ومشاريعه التي لا تنبع من واقعنا ولا من تاريخنا، علينا أن نعيد الاعتبار لأنفسنا وننظر إلى موروثنا الاجتماعي والحضاري بشكل أكثر توقيرا واحتراماً، لعلنا بذلك نستطيع أن نمسك بأول الخيط في بلورة أسس مشروع إنساني وحضاري لن أتسرع بتسميته، لكنه بالتأكيد مشروع "ما بعد عربي" و"ما بعد إسلامي"، لأن المشروع القومي فشل وانتهى والمشروع الإسلامي بشكله القديم غير قابل للتحقق، وإن كان البعد العروبي والبعد الإسلامي من الأسس التي لا يمكن تجاهلها في بلورة أسس المشروع المستقبلي المنشود للمنطقة التائهة المستهدفة بقوة من المشروع الغربي وذراعه الصهيوني الذي تمكن من رقبة المنطقة تماماً..
والله يهدي المخلصين
[email protected]