هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لازالت ردود فعل النخب والشعوب العربية الرافضة لاتفاق التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي، تتصاعد، من خلال تجديد الانحياز لحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه والعودة إلى دياره، واعتبار أن أي خطوة عربية رسمية باتجاه التطبيع مع الاحتلال، إنما هي خذلان وخيانة للشعب الفلسطيني أولا، ولقضية إسلامية وإنسانية.
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، أعد تقريرا خاصا لـ "عربي21"، رصد فيه موقف النخب الجزائرية من فلسطين أولا ومن التطبيع ثانيا، وركز في جزئه الأول الذي ننشره اليوم على تقديم رصد تاريخي للعلاقة القائمة بين فلسطين والجزائر، بينما ركز في جزئه الثاني على مواقف النخب الجزائرية من محاولات التطبيع العربية الجارية مع الاحتلال حاليا.
نموذج لرفض الهزيمة
شكلت محاولات تغيير الوعي العربي، ناحية التعامل مع دولة الكيان الصهيوني، رهانا ضخما ضمن أدوات الغزو والتطويع الفكري لهذا الكيان، عبر أذرع استخبارية وسياسية وإعلامية وفنية وأكاديمية وغيرها. وبقدر النجاحات الضخمة التي حققتها تلك المحاولات داخل بعض الأنظمة العربية، وداخل بنيتها الفكرية والنفسية، إلا أنها مع ذلك، شهدت فشلا ذريعا مع غالبية الشعوب العربية وأنظمة عربية أخرى، امتلكت في مجملها حائط صد منيع، تشكل عبر تاريخها الطويل في المقاومة والثورة على الاستعمار والإقطاع والاستيطان.
وإذا كان النموذج "الإماراتي" اليوم، يظهر على السطح بعد اتفاقية السلام مع الاحتلال الموقعة مؤخرا، كعينة فجة عن التطبيع مع الصهاينة، تجاوزت الأنموذجين المصري والأردني بمراحل، كونها تؤسس ليس فقط للتطبيع السياسي وإنما للتطبيع الشامل، عسكريا واقتصاديا وثقافيا وفكريا ورياضيا، فإن النموذج الآخر لحسن الحظ، الذي تمثله بعض الدول العربية مثل الجزائر تحديدا، فهي تمثل الأنموذج المضاد لرفض حالة الاستلاب هذه ومقاومتها، بالنظر إلى التاريخ الكبير الذي يختزنه الشعب الجزائري في مقارعة الاستعمار الفرنسي بطابعه الاستيطاني الشبيه إلى حد بعيد بالاستيطان الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
ومهم هنا الإشارة إلى أن البحث عن الأنموذج العربي الشعبي وحتى الرسمي الرافض للتطبيع، والمصر على الحق الفلسطيني، ومحاولة فهم الخلفيات الفكرية والتاريخية لهذا الموقف المقاوم، يشكل بحد ذاته حالة مقاومة وأمل، في إمكانية استعادة الحقوق المغتصبة، في مواجهة تيار متنامٍ داخل الأمة، يؤمن بالمزيد من التنازل والمزيد من الإلحاق والانسحاق.
لماذا الجزائر؟
يدرك الجزائريون المفهوم والمعنى الحقيقي للتطبيع، من غير دائرة الفهم الخياني الذي يتحدث عن السلام وحده، فالتطبيع في جوهره إقرار بالاستسلام قبل السلام، إنه تسليم للأرض والعرض، مقابل اعتقاد كاذب بالحصول على الأمن، بما ينفي عن أصحابه كل إمكانية للعزة والكرامة والشرف والتمكين.
ويستلهم الجزائريون من تاريخهم الحافل بالمقاومة والثورات الشعبية العارمة، ضد الاستعمار الفرنسي الذي خص الجزائر دون غيرها، باستعمار استيطاني إلحاقي، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأرض الفرنسية، معاني الرفض والكراهية التي يستشعرونها تجاه الكيان الصهيوني، باعتباره يمثل شكلا من أشكال المحق الاإساني والهوياتي الذي عايشوه طوال 132 سنة من الاستدمار الفرنسي، الذي عمل في الماضي ما يعمله بالضبط اليوم هذا الكيان الغاصب مع الأرض والإنسان الفلسطيني، فقد حاول الفرنسيون "فرنسة" الأرض العربية الجزائرية بشكل كامل، والادعاء أنها أرض فرنسية؛ إذ لا توجد بزعمهم "دولة جزائرية" قبل مجيء الفرنسيس، وهو بالتحديد ما يمثل سياسة "التهويد" الصهيونية للأرض العربية الفلسطينية، عبر الادعاء أنها يهودية وفق نظرية (أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض).
كما تؤدي الثورات الشعبية العظيمة التي واكبت طوال الوجود الفرنسي بالجزائر، والتي اختتمت بأعظم ثورة في التاريخ الحديث وهي ثورة الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، وحجم التضحيات الجسام بملايين الشهداء التي قدمها الشعب الجزائري، دورا كبيرا في تشكيل نمطية فكرية جزائرية خالصة، ترفض الاستسلام بالمطلق، لأن الفعل الثوري، لا يرتبط بنتائج آنية ولا بفشل ثورة أو اثنتين، ولا بمقولات ميزان القوة المختل، بين القامع والمقموع، وإنما هي بإرادة التحرر التي تتوارث من جيل إلى جيل، من دون أن يخون جيل اليوم أجيال الغد، فيمضي على اتفاقيات الاستسلام التي تمنع الأجيال اللاحقة من حقها في المقاومة.
مع فلسطين ظالمة أو مظلومة
يردد الجزائريون شعارهم المعروف الذي ورثوه عن الرئيس الراحل هواري بومدين: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، باعتزاز وفخر كبيرين، ويدرك أهل فلسطين كلها، وأهل غزة على وجه الخصوص، صدق هذا الشعور النبيل، وعظمة هذا الموقف من خلال الكثير من المناسبات التي أبان فيها الجزائريون عن صدق أقوالهم؛ كان من بين أكثرها وقعا في النفس الفلسطينية، ما قامت به الجماهير الجزائرية في شباط (فبراير) 2016، بتشجيع منتخب فلسطين لكرة القدم في ملعب الخامس من جويلية، على حساب المنتخب الوطني الجزائري. في حين كان الرد الفلسطيني الدائم والمؤثر هو حمل الراية الجزائرية دائما إلى جانب راية فلسطين في جميع فعلياتهم المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي.
لقد شارك الجزائريون في كل الحروب العربية ضد دولة الكيان، حتى وهم تحت الاستعمار بداية من حرب 1948، ويذكر الإسرائيليون وقادة جيشهم شراسة الجزائريين حين واجهوهم في حروب الـ 1967 والـ 1973، وكيف أن الجزائر وقتها وضعت قدراتها العسكرية والمالية في خدمة القضية الفلسطينية، وكيف أن الجزائر ظلت وفية لمبادئها، باحتضانها لأشغال المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988، وإعلان ميلاد الدولة الفلسطينية من العاصمة الجزائرية.
ولا يعني ذلك أن الجزائر كانت بمنأى عن محاولات التطبيع، وعن المساومات وعمليات الابتزاز، بهدف كسر هذا الطوق من المقاطعة الشعبية والرسمية الجزائرية لدولة الاحتلال، وقد بدأت محاولات الاختراق الصهيوني للموقف الجزائري الصلب هذا، منذ وفاة الرئيس بومدين، حيث حاولت "إسرائيل" الاتصال بمختلف الطرق بنظام الشاذلي بن جديد منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كما أكد ذلك هو شخصيا في مذكراته، وقد فشلت في ذلك فشلا ذريعا، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان في أثناء تشييع جنازة الراحل الملك المغربي الحسن الثاني في (25 تموز / يوليو 1999)، إذ حدثت المصافحة بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان قد وصل لتوه للحكم في الجزائر، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، التي أحدثت ضجة كبرى حينها في الجزائر، وما تبعها من الزيارة المثيرة للجدل التي قام بها وفد إعلامي جزائري، جله من الصحف الفرنكفونية إلى إسرائيل عام 2000، التي سارعت بعد الغضب الشعبي العارم ضدها، السلطات الجزائرية إلى شجبها، واضطر الرئيس بوتفليقة في حينها إلى وصف أصحابها بالخونة، إضافة إلى بعض المحاولات المحتشمة هنا وهناك، التي باءت في مجملها بالفشل، لعل أبرزها المحاولة اليائسة التي قام بها المغني اليهودي أونريكو ماسياس لزيارة الجزائر، باعتبارها مسقط رأسه، وتصدى لها الجزائريون بمختلف فئاتهم، وبخاصة القوى الوطنية المقاومة للتطبيع.
ولعل الحقيقة الكبرى التي يكشف عنها هذا الملف، هو أن أصل هذا الموقف الجزائري المبدئي والصلب من موضوع التطبيع، نابع بالأساس من الموقف الشعبي الذي لا يقبل المساومة، والذي تجلى بكل وضوح في انتفاضة وحراك الشعب العظيم في 22 شباط (فبراير) 2019، ضد منظومة الحكم البائدة، أكثر ما يتجسد في الموقف الرسمي، الذي يدرك جيدا أن أي خطوة باتجاه التطبيع مع الصهاينة، يعني باختصار أنه يغامر بشرعيته بل وحتى ببقائه.
في أسباب هذا الموقف
وهنا يشير الأستاذ جمال بن عبد السلام، رئيس حزب جبهة الجزائر الجديدة، إلى حقيقة أن الجزائر تكاد تكون الدولة العربية الوحيدة التي لم تطبع لا في العلن ولا في السر، كما أنها لم تساهم يوما ما في اصطفاف الفلسطينيين معها وضد أية دولة عربية أخرى. وأن الموقف الجزائري كان في الماضي عالي السقف جدا في التعاطي مع القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، لولا عوامل إقليمية عربية جعلت الجزائر تخفض سقف موقفها دون أن تتخلى أو تخون القضية، وكذلك الظروف الداخلية التي مرت بها بداية تسعينيات القرن الماضي والعشرية الأولى من القرن الحالي.
ويشرح جمال بن عبد السلام لـ "عربي21"، أسباب هذا الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية شعبيا كان أم رسميا فيما يلي:
ـ التكييف الجزائري للقضية الفلسطينية كونها قضية عقائدية إسلامية وقومية عربية مقدسة، وهي من ثم ميزان صحة انتماء الإنسان للإسلام وللعروبة من عدمه.
ـ كون الجزائر قبلة الثوار وكعبة الأحرار في العالم بدون منازع، هذه المكانة الريادية تلقي على الجزائر مسؤوليات أخلاقية إنسانية تاريخية حضارية أدبية، وهي مناصرة القضايا العادلة في العالم بأسره ومناهضة الظلم والعدوان ودعم الشعوب المستدمرة في فعلها ونضالها وكفاحها التحرري، فكيف إذا كان هذا المكافح أخا شقيقا دمه من دمنا؟!
ـ العلاقات التاريخية والاجتماعية التي تربط فلسطين بالجزائر ما قبل الفتح الإسلامي، والتي توطدت بعده وخصوصا الارتباط الروحي والتعبدي بالمسجد الأقصى المبارك، وامتلاك الجزائر لأوقاف إسلامية بهذه البقاع المقدسة؛ فالعلاقة أصبحت وجدانية روحية لا يمكن التفريط فيها للحظة.
ـ طبيعة الشخصية الجزائرية المجبلة على كره الظلم والعدوان والخيانة والعمالة والمهانة والذلة، وعشق الجزائري لقيم الحرية والعدل والعزة والكرامة والصدق والوفاء.
إن كل هذه النمطية بحسب جمال بن عبد السلام، تجعل الإنسان الجزائري عصيا عن التطبيع، فدم الجزائري فوار وقلبه حي وعواطفه جياشة تسكنه النخوة والمحبة والولاء للأخ وتعاطفه مع المستضعفين والمظلومين والمقهورين تجري في عروقه مجرى الدم، وقد برهن على ذلك في كل المحطات التي مرت بها القضية الفلسطينية، حتى في مباراة كرة القدم رغم كونها لعبة والمباراة ودية، إلا أنه ناصر فريق فلسطين على فريقه الوطني الذي يعشقه إلى النخاع، ولكن لما حضرت فلسطين حضر الإيثار والتضحية وتقديم القضية المركزية على كل شيء.
ويعتقد جمال بن عبد السلام أنه لا خوف على الجزائر من التطبيع ومن الخضوع للضغوط إلا من مدخل شيطاني واحد، وهو تحكم أحفاد فرنسا في الداخل وحدهم في القرار السيادي الجزائري؛ عندئذ فهؤلاء لا يطبعون فقط بل يبيعون كل شيء للصهاينة. وهؤلاء برأيه، موجودون داخل دواليب السلطة عندنا وهم عناصر الهزيمة في أحشائنا، وعليه لا خيار أمام شرفاء هذا الوطن في السلطة إلا بتطهير مفاصل الدولة الجزائرية.
ويأمل جمال بن عبد السلام، أن تسترجع الجزائر مكانتها في قيادة الأمة بعد غياب طويل للدفاع عن وجودها ومقدساتها ولملمة شتاتها وجبر كسورها ومداواة جراحها المثخنة، فبعد سقوط دول عربية محورية في أيدي الاستبداد والدكتاتورية والمذهبية، لم يبق للعرب، برأيه، غير الجزائر لتعيد ترتيب الأوراق وبعث الموجة الثالثة والهبة الغاضبة للأمة العربية، ولكن لن يحدث ذلك إلا بعد أن تتخلص الجزائر من فخاخ ومصائد أزلام فرنسا في الداخل.
وأضاف: "إذا خان بعض العرب قضيتهم وباعوا قدسهم وطعنوا الشعب الفلسطيني في خاصرته، فعلى الجزائر أن تتحمل مسؤولياتها الإسلامية والعربية والإنسانية، وذلك قدر الجزائر المحتوم، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم"، وفق تعبيره.