يروي الأجداد أنَّ الفارس الكرار، والبطل المغوار، وفاتح الأقطار، لورانس العرب، قائد الثورة العربية ضد الخلافة العثمانية، ومدمّر سكة الحديد التي كانت تصل الأقطار الإسلامية ببعضها، وباني السدود بينها والجدران، أُهدي شياهاً وإبلاً، وأنه أمسك بالشاء، وزهد في الإبل فوزعها على معارفه. فالفرنجة يكرهون الإبل، وهم في أفلام المغامرات والاستشراق يسبّون الجمال والإبل سبّاً مقذعاً بسبب حدبتها، وفي أستراليا ينفقون أموالاً طائلة لقتلها.
ويقول الأجداد إن لورانس اتخذ كلاباً، وأطعمها وسقاها، ليس ليدخل الجنة بها، وليس لحراسة القطيع.. واتخذ راعياً للقطيع، يحلب الشياه، ويجزُّ صوفها، ويرسل له صوف الأغنام ليتدفأ به في برد لندن، ويبعث له قرون الكباش ليزين بها جدران بيته في بريطانيا. فكثير من الغربيين يحبُّون الجماجم، لا فرق بين جمجمة إنسان وقحف حيوان!
دارت الأيام وقضى لورانس في حادث، وبقيت كلابه لدى الراعي تنعم بالدلال الذي أوصاه بها صاحبها، ونما القطيع وزاد، وفتكت الذئاب ببعضها، لأن الكلاب لم تكن كلاب حراسة، وإنما كلاب تجسس على البشر. ولم ينغّص على الكلاب عيشها سوى نطحات الكباش، فكلما أغارت الذئاب على القطيع وعوت، نطحتها لتوقظها من نومها وتحّثها على القيام بواجبها في الحراسة والدفاع عنها، فتزمجر غضباً من الكباش. فلم تكن مدربة على حراسة القطيع من الذئاب، وكان صاحبها الأول قد علّمها أمراً غير الحراسة هو التجسس وشمِّ رائحة الصالحين ، فللصدق رائحة، وللإخلاص رائحة، وللكرامة رائحة.
قال كبير الكلاب لنفسه:
والله لأنتقمنَّ من هذه الكباش اللعينة، أنا وصحبي من الكلاب لم نرَ من الذئاب شرّاً، ولم ينلنا منها سوء. إنَّ الشر الذي يحيق بنا من الكباش أكبر وأشد. وتحسّس جسده فوجد آثار قرون الكباش، فحدّث نفسه بمصالحة الذئاب وعنده فتوى من الشيخ؛ الذي لو كان في زمن المطرب موفق بهجت لآثره على نفسه وغنّى له أغنية : "يا صبحة هاتي الصينية، وصبي الشاي لكي و"بيّه".
وقال: إنَّ مصالحة ذئب واحد أهون من مصالحة هذه الكباش ذات القرون الحادة الغادرة، فقام كلب لورانس الوفي من فوره، وتحدّث مع صحبه من الكلاب، فوافقت على فكرته، فدبّج رسالة وأرسلها بالواتساب الزاجل إلى الذئب الهمام، الجميل كالبدر التمام، وصار بين الذئب والكلب مكاتيب غرام، وأشواق وهيام.. هذا يعوي من وراء الهضبة هادرا، فينبح الكلب من فوق الجبل له شاكراً، "قرارا وجوابا" بلغة الموسيقا، فالتقيا كثيراً وراء التلال بعيداً عن عيون الغنم وتبادلا القبلات والأحضان، وبكيا على أيام الفراقِ، وشكرا الله على لمِّ الشمل والتلاقي.
وقال الذئب للكلب وهو يضمُّه إلى صدره:
ما هذه العداوة بيننا يا ابن العم، نحن من دم واحد ونسب واحد، حتى أنَّ ديننا واحد، فأنت من سلالة كلب أهل الكهف وأنا من سلالة الذئب الذي اتهم ظلماً وعدواناً بأكل يوسف عليه السلام. وما أسأت إليك، كل ما فعلته هو أني آكل من الغنم القاصية والضاوية، فأنا بمثابة الطبيب الرؤوف، وعامل النظافة والفيلسوف، وأنا بالشكر أولى من العداوة، فلنعقد سلاماً بيني وبينك. وأزيدك من الشعر بيتاً، فأقول لك إني رومانسي وأحب المسطحات الخضراء التي تأكلها هذه الأغنام الضالة، إنها خطر على البيئة.
أُعجبَ الكلب بكلام ابن عمه الذئب وطار به فرحاً، مع أن الذئب كذاب أشِر، فلم يكن الذئب يأكل من الغنم إلا الأكباش الصحيحة والقوية، وأن الأغنام تنفع البيئة بسماد بعرها.
وكان الكلب يطمع في الزواج من ذئبة يحسِّن بها نسله وينتسب بها إلى قطيع الذئاب، وقال: والله معك حق، فلنتخلص من الكباش ذات القرون، فعدونا واحد يا ابن العم.
قال الذئب: لا فرق بين الكلب والذئب سوى في التقوى واللغة، دمنا واحد ولغاتنا شتى.
قال الكلب: هي لهجات يا عزيزي الذئب، وهي من آيات الله، فأنا أنبح وأنت تعوي، ويمكن أن أتعلم العواء أو أن تتعلم النباح.
ولا أخفيك أنني اشتريت كتاب: "كيف تعوي في خمسة أيام من دون معلم ولا قلم ولا دفتر".
قال الذئب: وأنا اشتريت كتاب "كيف تنبح والقافلة تسير بسرعة الضوء".
وكان الكلب يدرك أن العواء لغة عظيمة تهابها الحيوانات، فالذئب حيوان عظيم ارتبط اسمه بالقمر والأساطير، بينما يُضرب المثل بالكلب في الذل والهوان. والعرب لا يحبّون الكلاب، وبه يشتمون.. لهم كتب في أسماء الإبل، وأسماء الشياه، وأسماء الخيل، لكن الكلب حيوان محتقر عندهم، ليس له ذكر في كتبهم، بل إنهم يتنجّسون منه في دينهم.
وهكذا عقد الذئب والكلب معاهدة تطبيع وسلام، ونام الكلب وهو يحلم بالزواج من ذئبة رشيقة فاتنة ويصير ذئباً من الذئاب، ويتصدر اسمه عنوان فيلم أمريكي مثل فيلم: "الرقص مع الذئاب"، أو فيلم "ذات الرداء الأحمر"، وإنّ الذئب أخبره بموعد غزوته القادمة، فضرب الكلب على صدره وقال: متِّعنا بنفسك يا ابن العم: سيصلك أفضل الضأن وأقوى الكباش، مشوياّ على الفحم ومتبلاً، مع السلطات والفواكه، إلى بيتك ديلفري.
ولم يكن الكلب يدرك أنَّ الذئاب أمة مراتب وطبقات، ولها زعامات، وإنها لا تقبل إلا أبناء جنسها.. وإن آثار نطحات الكباش أوسمة ينبغي أن يتباهى بها، ولم يكن يعلم أن حتفه سيكون بين أنياب الذئاب التي يضرب بها المثل في الغدر كما يضرب بالكلاب المثل في الوفاء!
twitter.com/OmarImaromar