قضايا وآراء

تونس تختار شخصية مستقلة لقيادة العمل الحكومي

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

اختار الرئيس التونسي قيس سعيد، بعد عشرة أيام على قبول استقالة رئيس وزرائه إلياس الفخفاخ، شخصية مستقلة لقيادة العمل الحكومي، إنه وزير الداخلية هشام المشيشي، غير المنتسب لأي حزب أو حركة سياسية، علما بأن قائمة من المرشحين قدمتها الأحزاب الممثلة في البرلمان لرئيس الجمهورية، ليختار من بينها من يُقدّره جديرا بهذا المنصب وفقا لأحكام الدستور.

 

قرار مفاجئ


لم تُعمّر طويلا حكومة الفخفاخ، المعينة في شهر شباط/ فبراير 2020، إذ سرعان ما اضطر  رئيسها للاستقالة بسبب ضغوطات من الكتل النيابية، وتحديدا مجموعة حركة "النهضة" ذات الأغلبية في مجلس نواب الشعب (54 مقعدا)، على خلفية وجود تضارب مصالح لدى إلياس الفخفاخ، مالك أسهم في شركة، تبين أن لها تعاقدات مع الدولة. والحال أن علاوة على هذا الاتهام الذي أضعف مركز رئيس الحكومة، هناك حالة من شدّ الحبل بين مؤسسة الرئاسة ورئاسة البرلمان في شخص زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي، بخصوص الاختصاصات المحددة في وثيقة الدستور (2014)، والموزعة بين رئيس الجمهورية ورئيس المؤسسة التشريعية.

 

 

إن تونس التي قطعت أشواطا في إرساء مؤسسات الانتقال إلى الديمقراطية، تحتاج إلى انتقال نوعي نحو تغيير أحوال التونسيين الاجتماعية والاقتصادية، وإعطاء نفس جديد لثقة التونسيين في قدرة بلادهم على تحقيق أهداف ثورتها، لاسيما في مجالات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

 

  

ربما كان قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد باختيار هشام المشيشي مفاجئا للكتل السياسية، فهو شخصية بدون انتماء حزبي، تم تعيينه في وزارة الداخلية في حكومة الفخفاخ، باعتباره كفاءة مستقلة، راكمت خبرات ومسؤوليات في مؤسسات الدولة، وله خلفية تعليمية عالية، كما أنه من الدوائر القريبة من رئيس الدولة حيث كان مستشاره القانوني قبل تخويله حقبة وزارة الداخلية. 

لا يوجد تفسير واضح ومفصل لقرار رئيس الدولة تعيين شخصية مستقلة من قائمة الترشيحات المقدمة إليه، بل هناك ما يمكن اعتباره تلميحاً مقتضبا في كلمته الموجهة للمرشح الجديد لرئاسة الحكومة، حين أشار إلى أنه "آن الأوان لمراجعة الشرعية الدستورية حتى تكون بدورها تعبيراً صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبية".. فهل يفهم من هذه الإشارة أن رئيس الجمهورية مقبل على إدخال إصلاحات على النظام السياسي التونسي، بشكل يجعل توزيع السلطة بين مؤسساته الرئيسة مغايرا لما جاء في وثيقة 2014، تعززت مكانة البرلمان، وتم تخفيف الطابع الترأسي Presidentialiste للنظام، وأتيحت مساحة أوسع للتعددية الحزبية.. فكأن رئيس الجمهورية وهو يعتمد مفهومي "الشرعية" و"الأغلبية"، يروم إعادة تقوية مؤسسة الرئاسة في علاقاتها بالسلطة التشريعية، وقد لاحظ المتابعون لتطور الحياة السياسية في تونس الجدل الكبير الذي دار في الأشهر الأخيرة بين الرئيس قيس سعيد، ورئيس مجلس نواب الشعب "البرلمان" راشد الغنوشي.

 

من صلاحيات الرئيس

جدير بالإشارة أن الوثيقة الدستورية الحالية (2014) تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة لاختيار من يتولى قيادة العمل الحكومي إلى جانبه. فمن جهة، ليس هناك ما يلزمه بتعيين وزيره الأول من الحزب الفائز بالأغلبية في انتخاب مجلس نواب الشعب، على غرار بعض النظم الدستورية، بل له حرية الاختيار ممن ترشحهم الكتل النيابية ومن المستقلين أيضا، أي الذين لا انتماء حزبيا لهم. ومن جهة أخرى، يحق لرئيس الجمهورية اختيار رئيس الحكومة من الخلفية التي يُقدر أنها صالحة لخدمة البلاد، فقد يكون رجل أعمال، كما قد يكون سياسيا، أو من خلفية اقتصادية أو قانونية. 

غير أن الرئيس، من جهة ثالثة، يكون ملزماً، بحكم روح الدستور ومنطق العمل السياسي التعددي، أن يختار الشخصية القادرة على بناء التأييد حولها وحول برنامجها الحكومي، وبخلاف ذلك سيجد رئيس الحكومة المفتقد لهذه المتطلبات نفسه بدون رداء برلماني، يعضد عمله، ويعطيه القدرة على الاستمرارية والنجاح في تحقيق الأهداف المنتظرة من برنامجه الحكومي العام.

تجد تونس نفسها اليوم أمام رئيس حكومة مكلف بتشكيل فريقه الوزاري خلال شهر، كما أنه ملزم بإجراء المشاورات اللازمة مع الفرقاء والفاعلين السياسيين الممثلين في البرلمان، والتحاور معهم من أجل الوصول إلى توافقات حول قائمة أعضاء الحكومة المرتقبة. وفي حال ما إذا عجز عن القيام بهذه المهمة خلال الآجال الدستورية المحددة، فسيلجأ رئيس الدولة إلى خيار حل مجلس نواب الشعب، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة خلال المدة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية.

لا شك أن المهمة صعبة في سياق سياسي واقتصادي واجتماعي موسوم بالتعقيد والتوتر وضخامة الانتظارات. فالمشهد السياسي التونسي يعيش اضطراباً منذ شهور بين قوتين رئيستين: قوة "الإسلاميين" ومن في حكمهم، وقوة من يطلقون على أنفسهم "الحداثيين والعلمانيين"، وهي ثنائية ولدت وترعرعت في تونس منذ سقوط النظام في كانون الثاني (يناير) 2011، وظلت فاعلة في كل مراحل التطور الدستوري والسياسي حتى الآن، ولا يبدو أنها ستزول في الزمن المنظور. 

ثم إن تونس التي قطعت أشواطا في إرساء مؤسسات الانتقال إلى الديمقراطية، تحتاج إلى انتقال نوعي نحو تغيير أحوال التونسيين الاجتماعية والاقتصادية، وإعطاء نفس جديد لثقة التونسيين في قدرة بلادهم على تحقيق أهداف ثورتها، لاسيما في مجالات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. 

هل يستطيع هشام المشيشي بناء التوافق بين كتل سياسية متباعدة الأهداف والتطلعات؟ وهل تمثل ثقة الرئيس فيه وفي كفاءته قوة دفع كافية للنجاح في مهمته؟

كل شيء في السياسة وارد وممكن.. فكما أن النجاح ممكن، فالفشل هو الآخر ممكن. تبقى الحكمة السياسية، والولاء لتونس، والوفاء لتطلعات شعبها في الخروج من ضائقته، المتطلبات اللازم استحضارها بقوة في الوضع الحالي للبلاد التونسية. 

التعليقات (0)