قضايا وآراء

تونس والمحاور الإقليمية

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
قد يكون من نافلة القول أن نتحدث عن صراع معلن للمحاور الإقليمية على الأراضي التونسية منذ هروب المخلوع زين العابدين بن علي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 إلى السعودية. فالثورة التونسية (ومن بعدها باقي الثورات العربية باختلاف سياقاتها ومآلاتها) قد أثبتت وجود ثلاث استراتيجيات إقليمية كبرى في التعامل مع الواقع السياسي الجديد.

فإذا كانت أغلب الكتابات تتحدث عن محورين إقليميّين، أحدهما داعم للانتقال الديمقراطي ولوجود الإسلاميين في الحقل السياسي القانوني، والآخر رافض لهذا الأمر ولما قد يمثله من مخاطر على مصادر شرعيته ونظامه السلطوي، فإنها تذهل عن وجود محور ثالث يغلب عليه الحياد أو رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

وسنهتم في هذا المقال بالمحورين الأول والثاني (محور دعم الثورات ومخرجات الإرادة الشعبية، ومحور الثورات المضادة أو ما يسمى بمحور الشر)، وذلك بمحاولة الإجابة عن الأسئلة التالية أو على الأقل تقديم بعض المعطيات التي قد تنفع في الإجابة عنها: في ظل افتقاد الدولة التونسية لمقومات السيادة واحتياجها إلى بناء شراكات إقليمية ودولية تخرجها من ربقة السياسات الموروثة من نظام المخلوع وتساعدها في إنجاح انتقالها الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، ما هي المعايير الموضوعية التي يمكن اعتمادها في بناء تلك الشراكات؟ وهل يمكن التسوية بين المحورين التركي- القطري والإماراتي- السعودي (المسنود فرنسيا)، من جهة أدوارهما الممكنة في المساعدة على بناء الجمهورية الثانية؟ وكيف يمكن بناء موقف "وطني" جامع في مستوى العلاقات الخارجية بفاعلين جماعيين لا يربط بينهم (واقعيا وتاريخيا) إلا قانون الصراع أو المساكنة الاضطرارية، ولا يتحرك أغلبهم إلا بمفردات الحرب الوجودية وبعقلية التنافي؟

إكراهات السياسة والتقاطعات ما بعد الأيديولوجية

بحكم هشاشة الانتقال الديمقراطي في تونس سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وبحكم الواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الثورة التونسية،خاصة فيما يتصل ببروز الإسلاميين فاعلا مركزيا في الحقل السياسي القانوني، بل فاعلا جديدا في الحياة العامة وفي مستوى إنتاج الرموز وتقاسم الثروات المادية، كان من الطبيعي أن تصبح تونس منطقة صراع إقليمي ودولي بين محاور ليس لها الموقف نفسه من التغيرات التي أدخلتها الثورة التونسية.

ويمكن اعتبار هروب المخلوع إلى السعودية والموقف الإماراتي السلبي في مرحلة أولى من الثورة التونسية (ثم المناهض لها صراحة بعد ذلك) من جهة أولى، والموقف القطري الداعم للثورة التونسية ومخرجاتها (الأمر الذي تعكسه قناة الجزيرة) والالتقاء الموضوعي لهذا الموقف مع الموقف التركي من جهة ثانية، إرهاصا بتشكل المحورين الإقليميين الأساسيين اللذين ستدور حول العلاقة بهما أغلب صراعات النخب التونسية.

إننا أمام تقاطعات موضوعية (داخليا وخارجيا) قد تجمع بين أطراف قد يبدو للوهلة الأولى (في المستوى النظري) أنها غير قابلة للالتقاء بحكم تباينهما الفكري. ولكنّ ذلك التباين الفكري لم يمنع ظهور تحالفات استراتجية "هجينة"؛ لأنه لا يمكن ردها إلى مستوى أيديولوجي صرف. فما الذي يجمع بين العلماني التونسي والوهابية السعودية، في مستوى الفكر أو في مقاربة العلاقة بين الدولة والدين أو في موضوع حقوق الإنسان أو النمط المجتمعي؟

كما لا يمكن فهمها بالمنطق البراغماتي البعيد عن أي تأثير أيديولوجي، وإن كان خفيا. فالالتقاء بين الوهابية السعودية والعلمانيين التونسيين يتأسس على مقولة "الاستثناء الإسلامي"، أي استحالة رفع التناقض الماهوي بين الإسلام والديمقراطية، رغم اختلاف المنطلقات النظرية للموقفين الوهابي والعلماني، وهو ما يفسر التقاءهما سياسيا في محاربة الإسلام الإخواني الذي قد ينسف تلك الأسطورة ويقوّض احتكار العلمانيين للمجال العام في تونس، واحتكار الوهابية لتمثيل الإسلام السني عالميا.

ولكنّ الموضوعية التي دعتنا إلى البحث في أسباب الالتقاء الموضوعي بين العلمانيين والسعودية الوهابية، أو الإمارات الداعمة لصفقة القرن والمطبع الأعظم مع الكيان في الفترة الأخيرة، تدعونا أيضا إلى التساؤل عن سر الالتقاء بين حركة النهضة الإسلامية (ذات الجذور الإخوانية) وبين قطر الوهابية أو تركيا العلمانية، كما تدعونا إلى التساؤل عن سبب اختلاف المواقف بين قطر والسعودية من الثورات العربية رغم تشابههما المذهبي والسياسي. والتساؤل أخيرا عن سر دعم تركيا وقطر للانتقال الديمقراطي في تونس ومعارضتهما لكل محاولات الانقلاب على منجزها الهش، تلك المحاولات التي لا يخفى أنها آتية من ورثة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الثقافي.

عداء لحركة النهضة أم للديمقراطية؟

انطلاقا مما ورد أعلاه، يبدو أن اختزال المواقف السياسية أو ردها إلى جذروها الأيديولوجية ودوافعها البراغماتية المحض؛ هو أمر يحتاج إلى مراجعة وإلى مزيد من التعمق. فالمواقف السياسية، سواء مواقف الفاعلين التونسيين أو مواقف المحاور الإقليمية، هي مواقف مركّبة تستدعي استحضار سياقات ومصالح وتأثيرات دولية وإقليمية تفيض على الشأن التونسي الداخلي. ولمّا كان مطلوبنا في هذا المقال أن نبحث عن سبب غياب موقف وطني موحد في العلاقات الخارجية، فإننا لن ندرس منطق المحاور الإقليمية ولا غاياتها النهائية في تونس، بل سنكتفي بالإشارة إلى أن موقف الفاعلين الجماعيين في تونس من المحورين المذكورين أعلاه يحدده أساسا (وإن لم يكن بصورة مطلقة) طبيعة العلاقة بـ"حركة النهضة"، وبمخرجات الانتقال الانتقال الديمقراطي.

في ظل غياب مشروع وطني جامع أو كلمة سواء توحد التونسيين على اختلاف أيديولوجياتهم، وفي ظل هيمنة الصراعات الهوياتية التي تنزاح عن محاور الصراع الحقيقية لتؤبد الهيمنة الخفية للمنظومة القديمة ومصالحها الرمزية والمادية، أصبح الموقف من "الإسلام السياسي" (وفي التحليل الأخير الموقف من الديمقراطية التمثيلية التي يكون الإسلاميون فيها طرفا كامل الحقوق والواجبات) هو المحدد الأول في العلاقة بالمحاور الإقليمية.

فإذا ما كان سدنة "النمط المجتمعي التونسي" (أي القوى التجمعية- الشيوعية) قد وجدوا في "محور الشر" حليفا موثوقا يشاركهم بغض"الإخوان" ومخرجات الثورة، فإن النهضة قد وجدت في المحور التركي- القطري حليفا إقليميا يخفف عنها ثقل عزلتها الخارجية، تلك العزلة التي لا يمكن إنكار الدور الفرنسي الكبير في ترسيخها؛ بتغذية الإسلاموفوبيا ومحاربة أي مشروع للتحرر من هيمنتها الاقتصادية والثقافية.

ولكنّ النهضة (على خلاف خصومها) لا تستطيع الجهر بمعاداة المحور الإماراتي- السعودي، ولا إدارة ملف العلاقات الداخلية والخارجية على أساس المعاداة الصريحة لذلك المحور وحلفائه المحليين، وهو واقع قد كلفها الكثير انتخابيا وسياسيا، وقد يكلفها أكثر من ذلك بعد تمدد وريثة الفاشية عبير موسي بدعم غير خفي من محور الشر.

رئيس لكل التونسيين أم حليف لمحور إقليمي؟

ختاما، يبدو أن الرئيس قيس سعيد المسؤول الأول عن ملف السياسة الخارجية لم يخرج هو الآخر من منطق المحاور الإقليمية، رغم كل ادعاءات الحياد. فسواء أنظرنا إلى مواقفه الداخلية (القرب من القوى اليسارية والقومية واتحاد الشغل، وصراعه المعلن مع رئيس حركة النهضة) أم نظرنا إلى مواقفه الخارجية (الاقتراب من الموقف الفرنسي وموقف محور الشر رغم محاولات صياغة ذلك بلغة ديبلوماسية غير صدامية)، فإننا سنجد انحيازا غير معلن للقوى المعادية للنهضة داخليا، وللقوى المعادية للمحور القطري- التركي خارجيا.

ولا يبدو (في المدى المنظور) أية مؤشرات على إمكانية تجاوز هذا المأزق السياسي الذي يعطّل ترسيخ الانتقال الديمقراطي من جهة أولى، وبناء جبهة داخلية ذات موقف موحد من القضايا الإقليمية والدولية من جهة ثانية.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)