أفكَار

"أزهر الجزائر" .. المسجد الأعظم على الأرض "المحمدية" (2من2)

المسجد الأعظم في الجزائر.. تحفة معمارية يُراد لها أن تتحول إلى معلم حضاري (وكالة الأنباء الجزائرية)
المسجد الأعظم في الجزائر.. تحفة معمارية يُراد لها أن تتحول إلى معلم حضاري (وكالة الأنباء الجزائرية)

لا ترتفع أعمدة ثالث مسجد في العالم بعد الحرم المكي والنبوي، ولا تنتصب معها في السماء أعلى مئذنة في العالم أيضا، على أرض الإسلام والشهداء هكذا عبثا أو من فراغ، ذلك أن قصة بناء "المسجد الأعظم" في الجزائر، تختزل في طياتها اليوم أكثر المعارك الحضارية والفكرية والدينية احتداما، وهو يرد بشموخه الذي يمتد على طول خليج واجهة بحر الجزائر، على رغبة فرنسا في تحويل الجزائر المسلمة إلى أرض مسيحية كما أعلنها قبل 188 سنة ملك فرنسا شارل العاشر، وكما فعلت ذلك حين إعلانها العام 1930 في الذكرى المائوية الأولى لاحتلال البلاد، على انتصار الصليب على الإسلام..

يواصل الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، في الجزء الثاني والأخير من تقرير خاص حول المسجد الأعظم في الجزائر، عرض النقاش الفكري والسياسي الذي أثاره تشييد المسجد في أرض الشهداء.

اسم المسجد .. صراع من نوع آخر

في الأثناء يثار جدل واسع حول تسمية المسجد الأعظم، هل ستبقى بهذه التسمية المتعارف عليها لحد الآن (المسجد الأعظم) أم يجب تغيير إسمه بما يتوافق مع الأهداف والغايات الحضارية والتاريخية التي وُجد من أجلها.. بعد رفض الرئيس السابق بوتفليقة إطلاق اسمه عليه، لإدراكه لحساسية الموضوع لدى الجزائريين، وحتى لا يتحول المتحمسون له إلى مناوئين له.

وهنا تم تداول أسماء كثيرة للمسجد، بينها تسمية "مسجد خاتم الأنبياء"، وتسمية "عبد المؤمن بن علي" مؤسس دولة الموحدين العظمى التي جمعت أقطار المغرب الغربي كلها تحت راية واحدة في القرن الخامس الهجري.. وتسمية "مسجد الشيخ البشير الإبراهيمي"، والتي قادتها جمعية العلماء المسلمين، من أجل أن ترد بعضا من افضال هذا العلامة على الجزائر وأهلها.

إلا أن كل تلك المقترحات لم يتم الموافقة عليها لحد الآن، على الرغم من استمرار وصول المقترحات بخصوص هذا الموضوع الذي يحظى باهتمام مجتمعي منقطع النظير، والتي تحمل في مجملها أسماء لصحابة رسول الله، أو لشهداء الجزائر الحديثة، غير أن المرجح أن تبقي وزارة الشؤون الدينية لاسم مسجد الجزائر الأعظم أو جامع الجزائر، خلال السنوات الأولى من فتحه.

ويبقى اقتراح اسم "الصحابي "عقبة بن نافع" الأكثر رواجا، لكونه مرتبطا بالصراع الفكري والأيديولوجي وحتى الإثني واللغوي في الجزائر، حيث يتبناه بشدة تيار عروبي واسع، يرى في اسم الصحابي الجليل عقبة بن نافع، فاتح منطقة المغرب الكبير في القرن السابع للميلاد، عنوانا لعروبة الجزائر في مواجهة تيار "التمزيغ" ودعاة البربرية، الذين يحاربون هذا الإسم بشدة، باعتباره كما يتصورون أنه يمثل قوة احتلال عربية، وجب مقاومتها.

المعارضون هم وكلاء الاستعمار الغربي

من جانبه، يرى الكاتب فارس بوحجيلة يعتبر أن مسجد الجزائر الأعظم هو من أعظم حسنات –إذا كانت هناك حسنات أخرى ـ المرحلة السابقة التي مرت بها الجزائر، فعملية إنجازه تمثل استدراكا لما فوتته الجزائر منذ الاستقلال، إذ بغض النظر عن الدوافع الشخصية للرئيس الأسبق عند إطلاقه، فالمسجد الأعظم تتمة لما تم بدؤه في الاستقلال عند تغيير اسم المنطقة التي يقع فيها من "لافيجري" إلى المحمدية.

إن أهمية مسجد الجزائر الأعظم بالنسبة للكاتب فارس بوحجيلة في حديثه لـ "عربي21"، لا تتوقف عند تصدره الواجهة البحرية للعاصمة الجزائرية، بل بما يمثله من رمزية حضارية من خلال رده الرمزي على أحد المخططات الفرنسية الاستعمارية التي شكلت منطقة المحمدية بؤرتها المركزية من خلال احتضانها لجالية الآباء البيض النصرانية التبشيرية بقيادة الكاردينال لافيجري. لذلك يمثل هذا المسجد من الوجهة الحضارية محطة من محطات الصراع الحضاري بين العالمين الغربي والإسلامي في افريقيا، فهو يعيد رمزيا الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر.

 


إن هذا الصراع يقول فارس بوحجيلة، لم يتوقف منذ انقلاب منحى الحضارة بين العالمين الغربي والإسلامي في القرن الخامس عشر، ويمكن تلمسه رمزيا كذلك من خلال الجدل الدائر حول جدوى إقامة هذا المسجد، خاصة من خلال معارضة واستهجان أنصار ووكلاء الاستعمار الغربي الحديث لإقامته بذرائع التكلفة المالية الباهظة والتي كان يجب توجيهها لإقامة مستشفى أعظم بدل المسجد الأعظم..الخ. وللأسف يتجاهل وكلاء الاستعمار الغربي الحديث، أن أزمة منظومتنا الصحية كبقية المنظومات الأخرى لا تتعلق بالهياكل والجانب المادي بل بالجانب البشري ومنظومات التسيير بالأخص، ويمكن الوقوف على ذلك مثلا بإجراء مقارنة بين نجاعة وجودة خدمة المستشفيات المدنية ونظيرتها العسكرية.

ويخلص فارس بوحجيلة إلى إن إقامة هذا الصرح الحضاري والتاريخي والجدل الدائر حوله، تفضح استمرارية الصراع الموروث منذ وطئت أقدام الاحتلال أرض الجزائر بين الجزائريين المسلمين أصحاب الأرض، وما أنتجته المنظومة الاستعمارية من خلال الجزائريين أصحاب الثقافة واللغة الفرنسيتين.

دور المسجد مرتبط بحصول مراجعات فكرية وفقهية جادة

ويرفض عبد الله أكير، باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، اعتبار الآراء المختلفة حول الجامع الأعظم تشكل صراعا فكريا وأيديولوجيا بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية السائدة في الجزائر، فمن الناحية المبدئية لا يعارض أغلبية الجزائريين فكرة جامع كبير بعاصمة البلد يليق بسمعة الجزائر وعظمة ثورتها التحريرية.

ويوضح الأستاذ عبد الله أكير لـ"عربي21" طبيعة التحفظات التي يبديها البعض برأيه على مستويين:

الأول يتعلق بتمويل المشروع من خزينة الدولة بنسبة 100٪ في حين يرى هؤلاء أنه كان بالإمكان فتح المجال لتبرعات وهبات المواطنين الجزائريين على غرار ما تم بالنسبة لمسجد الحسن الثاني بالمغرب، وهو الأمر الذي كان بإمكانه تخفيف العبء على الخزينة العمومية.

الثاني يتعلق بمسألة الأولويات، حيث يرى المتحفظون أن البلاد بحاجة إلى بنى تحتية أكثر استعجالا مثل المؤسسات الاستشفائية ومرافق عمومية أخرى يرى المواطنون أنهم في حاجة ماسة إليها.
وبالطبع هناك من المواطنين الجزائريين، على قلتهم، ممن يعارضون أي مساهمة للدولة في بناء وتجهيز مرافق مخصصة للعبادات (مساجد، كنائس، معابد أخرى...)، كما يوجد من بين الجزائريين من لا يهمه الأمر بالمطلق، لا يؤيدونه ولا يعارضونه. 

 


وبخصوص الدور المرتقب الذي سيلعب المسجد الأعظم يرى عبد الله أكير أن الأمر هنا لا يتعلق بالجزائر فقط بقدر ما يتعلق بالعالم الإسلامي ككل، فطالما لم تحدث مراجعات فكرية وفقهية جادة وحقيقية بشأن الفقه الإسلامي وكذا الفكر الإسلامي ضمن منظور "الاسلام باعتباره دينا عالميا يتجاوز في صلاحيته حدود المكان والزمان وتشكل سعادة الإنسان غايته"، على الأقل في بلادنا، لا يمكن للجامع الأعظم إلا أداء نفس الدور الذي تقوم به حاليا مختلف جوامع ومساجد البلاد.

إن النخب التي تعنى بالحديث عن الإسلام وباسمه يقول عبد الله أكثير، لا تزال تبحث عن قراءة وترجمة لرسالة الاسلام تتناسب مع روح العصر، وغياب هذه القراءة المعاصرة يحول دون جعل الخطاب الديني معبرا عن الأصالة بمعناها الإيجابي المتمثل في الرصيد القيمي الذي تشكل رسالة الإسلام منبعا له ويشكل بدوره قاعدة القيم الإنسانية المعاصرة. فالخطاب الديني لكثير من المشايخ والأئمة (وليس كلهم) لا يزال يعبر للأسف عن تزمت فقهي وجمود فكري ينعكسان على كل مناحي الحياة في المجتمع، ولن يكون بإمكان الجامع الأعظم المساهمة في تغيير هذا الوضع ما لم تحل إشكالية التوازن بين الأصالة والمعاصرة عندنا وفق براديغم جديد يؤسس لنقلة فكرية وحضارية متوافقة مع روح الإسلام. وإلى أن يحدث ذلك ستظل اكراهات العولمة وتعميم النموذج الحضاري الغربي (الأمريكي بالأساس) تغزو العالم الإسلامي عموما وبلادنا خصوصا ولا يسعنا إلا التأقلم معها وفق ما هو متاح من هوامش للتحرك.

تحذير من تحويله لأداة للاستغلال والتوجيه

ويعتبر المحامي توفيق هيشور أحد قيادات حركة عزم الجزائرية، إن المسجد الأعظم يمثل منارة إسلامية ومعلمًا جديدا من معالم الحضارة الإسلامية، وأنه لا يمثل مكانا للصلاة وفقط بل منارة للعلم الشرعي ومنصة للإقلاع الحضاري.

ويفسر توفيق هيشور لـ "عربي 21" الصراع الفكري الذي نشب على خلفية تشييد بناء المسجد الأعظم بأنه في عمقه عداءٌ للإسلام في داره من بعض دعاة العلمانية المزيفة ممن ألفوا المعارك الدونكيشوتية ، كونهم لايتوانون في مهاجمة أي معلم ديني أو حضاري وهكذا هم كلما فشلوا في معارك الأرض سبوا السماء لكن هذا لم ولن ينقص من قيمة المسجد الحضارية ولا أملنا فيه بأن يكون منصة إقلاع حضاري.

 

 

ويتوقع توفيق هيشور أن يلعب المسجد الأعظم دورا أعظم في حماية الدين والهوية والثوابت وأن يكون حصنا منيعا شامخا يحمي حياض الأمة، لكنه في المقابل يحذر من تحويل المسجد إلى أداة للإستغلال والتوجيه لأنه حينها سيحيد عن دوره الحضاري المنتظر.

حضن دافئ لعودة مؤتمرات الفكر الإسلامي

يقول الباحث في العلوم السياسية ياسين أعمران، أنه حين دخلت فرنسا الجزائر كان في مدينة الجزائر وحدها أزيد من مائة مسجد جامع لم يبق منها عشية خروجها غير أربعة مساجد!!، لذلك فإن المسجد الأعظم يمثل رمزا تاريخيا وحضاريا مهما للجزائر من كونه دلالة على ارتباط الأرض وأهلها بالإسلام في وجه كل الحملات الصليبية التي سطت على هذه الأرض.

أما بخصوص الصراع الذي أثارته وسائل إعلام علمانية معروفة التوجه وكذا بعض الأوساط فرنسية الهوى، فيؤكد الباحث ياسين أعمران لـ "عربي21"، أن الأمر ليس بجديد، فهم لا يتذكّرون قضايا هدر المال العام إلا إذا تعلّق الأمر بالإسلام، هؤلاء علينا أن نذكّرهم أنهم قبل سنتين شنّوا حملات إعلامية مشينة ضد المواطنين الجزائريين في بعض الولايات المهمشة التي أرادت وزارة الثقافة إقامة مهرجانات غنائية فيها حيث طالب المواطنون أن تصرف أموال المهرجانات في مشاكلهم التنموية اليومية، يومها هاجمهم هؤلاء الذين يرون أن بناء المسجد الأعظم هدر للمال العام، ووصفوهم بأبشع الأوصاف بلغت درجة نعتهم بالتطرف والإرهاب لمجرد رفضهم لمهرجانات يعلم القاصي والداني حجم الفساد والمال المنهوب في إقامتها، لهذا النقاش الذي أثير هو نقاش هوياتي عقيم، وعلينا أن نشير إلى أن هذه الأبواق لا تنعق إلا بإيعاز من باريس ودوائرها الاستئصالية بيننا.

 



ويخلص ياسين أعمران الى أمل أن يكون جامع الجزائر الأعظم مؤسسة عملاقة لا مجرد مسجد بُني للتباهي فقط، مؤسسة تلعب دورا كبيرا في ربط الجزائريين بمرجعيتهم الدينية الخاصة بهم وبعموم مسلمي بلاد المغرب العربي الكبير، مع التمني أن تعود مؤتمرات الفكر الإسلامي بتدشين هذا الصرح العظيم وأن تعود الجزائر إلى ريادتها في احتواء العقول الإسلامية كما كانت في السابق، جامع الجزائر الأعظم يُنتظر منه أن يلم الشتات الإسلامي في الجزائر وعلى المستوى المغاربي والإسلامي عموما، وأن يكون منارة تجمع الجزائريين على كلمة واحدة.

هزيمة الصليب على الأرض "المحمدية"

بالنهاية، واجه مشروع بناء "مقام الشهيد" في الجزائر، أيام الرئيس الشاذلي بن جديد بدوره، هجمة أصولية شرسة وقد سمي وقتها "هُبل" إمعانا في تقزيم المشروع وتنفير الناس منه بل وتكفير صاحبه، لكنه بعد انجازه سارع الجزائريون لزيارته والافتخار به، علاوة أنه صار معلما بارزا لكل زائر للعاصمة الجزائرية، وإذا كان بناء المسجد الأعظم اليوم، هو أعظم وأجل من "مقام الشهيد"، ولا مجال للمقارنة بينهما، إلا أن ارتفاع الآذان من على أعلى مئذنة في العالم، ليسمعها القاصي والداني على بعد كيلومترات عديدة، وإقبال آلاف المصلين على تحفة ربانية بهذا الحجم، سيلجم غدا ألسنة كل المتطاولين والمنتقدين، أما حين تتخرج البعثات العلمية ويتحول المسجد الى منارة علمية يتخرج منها الدعاة والدكاترة، فسيكون من الصعب مواجهة صوت الحق الذي يخرج من بين جنبات الأرض "المحمدية" الطاهرة.

كذلك، وبما أن فرنسا هي من تتزعم معارضة المسجد الأعظم، فقد ثارت الناس على مشروع "برج إيفل" في باريس من قبل، واعتبروا أن هيكلا حديديا بلا روح في قلب مدينة الجمال سيشوه منظر المدينة ويبعد عنها زوارها، لكن البرج بعد سنوات من ذلك، تحول إلى معلم من أهم معالم باريس، ومقصدا للملايين من السواح، وكذلك كان الحال مع فكرة بناء متحف "اللوفر" في قلب باريس، حين عارضه الناس بشدة بداية، قبل أن يتحول الى تحفة معمارية يزورها أكثر من 60 مليون سائح سنويا، وهو ما يتوقع لمسجد الجزائر الأعظم، حين يستيقظ العالم ذات صباح على تحفة هندسية معمارية إسلامية وانسانية تخطف الألباب، وقد امتدت أنوارها في القلوب والعقول على امتداد آلاف الكيلومترات، لتعلن الانتصار النهائي والكامل للجزائر المحمدية على (لافيجري) وعلى الصليب الذي كان يحمله.

 

إقرأ أيضا: "أزهر الجزائر".. المسجد الأعظم على الأرض "المحمدية" (1من2)

التعليقات (1)
محمد
الخميس، 09-07-2020 02:57 م
المقال فيه نوع من التضخيم في الوصف والسرد. كأن الكاتب يتحذث عن معجزة او شيء من هذا القبيل، والواقع لا يعدو ان يكون مسجد تقول السلطات انها صرفت 4مليارات دولار عليه،والمحللون يقولون الحقيقة في حدود 500مليون. اذن فكما قال تعالى في كتابه العزيز: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? تَقْوَى? مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. صدق الله العظيم