صحافة دولية

خبير: حقبة جديدة بالمقاومة الفلسطينية بعد خطة الضم

خطة الضم قد تشمل نحو 30 بالمئة من مناطق الضفة الغربية- جيتي
خطة الضم قد تشمل نحو 30 بالمئة من مناطق الضفة الغربية- جيتي

قال الخبير طارق باقوني، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، إن خطة الضم الإسرائيلية سينتج عنها حقبة مقاومة فلسطينية جديدة.

وأوضح باقوني في مقال نُشر بصحيفة "ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس"، أن "الفلسطينيين في المناطق المحتلة وفي إسرائيل وفي الشتات، والذين خاب أملهم في القيادة الرسمية، باتوا وبشكل متزايد يعيدون تعريف نضالهم بعيدا عما يعتقدون أنه سراب الدولتين، وباتجاه مقاومة واقع الدولة الواحدة".

وتابع باقوني مُحلّل الشؤون الفلسطينية-الإسرائيلية بمؤسسة International Crisis Group البحثية: "بدلا من الاكتفاء برموز الدولة وبجيوب من الحكم الذاتي الفلسطيني، فإن نقطة البدء بالنسبة لهم تتمثل في سيادة إسرائيل الحصرية على كل الأرض الواقعة بين النهر والبحر، وتركيزهم يتوجه نحو الحكومة الإسرائيلية من حيث أنها توفر حقوقا مدنية وسياسية لليهود وتحرم منها الفلسطينيين، بدرجات متفاوتة تتوقف على مواقعهم. بالنسبة لأولئك الذين يدافعون عن إحداث نقلة في استراتيجية التحرير الفلسطينية، تشكل هذه اللامساواة البنيوية الحافز الأساسي نحو النفير".

وتاليا نص المقال كاملا:
ابتداء من الأول من يوليو / تموز، سيكون لدى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو السلطة لدعوة الكنيست للتصويت على ما إذا كان سيوسع نطاق سيادة بلاده ليشمل أجزاء من الضفة الغربية، وذلك بموجب ما ورد فيما يمسى خطة إدارة ترامب للسلام، وهي عبارة عن وثيقة من 181 صفحة تمنح صكا بالموافقة من قبل الولايات المتحدة على أجندة إسرائيل التوسعية. يتضمن توسيع السيادة، والذي يطلق عليه مصطلح "الضم"، تطبيق القانون الإسرائيلي على المنطقة التي كان الفلسطينيون يتصورونها جزءا من دولتهم التي ستنشأ في المستقبل. 

تعطي خطة ترامب الضوء الأخضر للمضي قدما في ضم ما يقرب من ثلاثين بالمائة من مساحة الضفة الغربية، بما في ذلك ما يزيد عن مائتي مستوطنة وبؤرة استيطانية إسرائيلية وجزء كبير من وادي الأردن، إلى إسرائيل، بما يزيل وهم أن الاحتلال مؤقت. وباسم حل الدولتين "الواقعي"، تدعو الخطة إلى إقامة كيان فلسطيني في المناطق التي لا تخضع للضم من قبل إسرائيل، والتي تحيطها بالكامل الأراضي الإسرائيلية في الضفة الغربية. سوف تضم هذه الدولة المفترض أنها ستكون مستقلة مجموعة من الجيوب الحضرية التي ترتبط ببعضها البعض عبر شبكة لم تُنشأ بعد من الجسور والطرق السريعة الدفينة والأنفاق. 

ليس واضحا كيف ستمضي حكومة نتنياهو في تنفيذ الخطة، أخذا بالاعتبار التوترات السياسية داخل إسرائيل وما لا يعلم حتى الآن من توجيه قادم من الولايات المتحدة. من المفروض أن نتنياهو يدعم ضما موسعا، بينما يسعى بيني غانتز، رئيس الوزراء بالتبادل، والذي تخلى عن حقه في الاعتراض على خطة الضم أثناء المفاوضات التي أفضت إلى تشكيل حكومة الائتلاف الحالية، كما ينقل عنه إلى قصر الضم على المستوطنات الكبرى المحاذية للخط الأخضر الذي يعود إلى عام 1967. وعلى الرغم من أن حركة الاستيطان الإسرائيلية اليمينية طالما طالبت بخطة الحد الأقصى من الضم إلا أنها الآن منقسمة حول كيف عساها تمضي قدما دون أن تضطر إلى التنازل والسماح بإقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت دولة مفتتة وغير محتملة، كما هو مفترض في خطة ترامب. 

تظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من نصف الإسرائيليين يدعمون شكلا من أشكال الضم الإضافي للقدس الشرقية والضفة الغربية، إلا أن العديد من المعلقين من داخل التيار السائد، وكذلك أعضاء المؤسسة الأمنية في إسرائيل، يقولون إن الضم الرسمي لا معنى له، نظرا لأن البلد تتمتع بالسيطرة النهائية على المناطق وأن الضم سوف يتسبب في جلب التنديد الدولي. كما أنهم يشيرون إلى أن إدارة ترامب منحت إسرائيل الجائزتين الكبيرتين المتمثلتين في الاعتراف بضمها للقدس (وإعلانها عاصمة للبلد)وبضمها لمرتفعات الجولان ذات الأهمية الاستراتيجية والتي غنمتها من سوريا. وكان اليسار العمالي التقليدي، وهو الحزب الذي بادر بتنفيذ مشروع الاستيطان بعد بدء الاحتلال في عام 1967، تبنى أجندة الضم التي أعلنت عنها الحكومة وذلك حينما انضم إلى ائتلاف نتنياهو وغانتز. وبذلك تكون المعارضة الحقيقية الوحيدة داخل إسرائيل لأي ضم إضافي هي تلك التي تصدر عن القائمة المشتركة، وهي كتلة الأحزاب العربية الإسرائيلية التي تمثل الفلسطينيين والأصوات اليهودية التقدمية. 

في هذا الأثناء تبدو القيادة الفلسطينية كما لو كانت غائبة تماما عن النقاش الذي يدور حاليا حول الضم، وذلك على الرغم من أن هذه الخطة تمثل أوضح تأكيد على فشل مشروعها لإقامة الدولة. ظلت منظمة التحرير الفلسطينية تكرر باستمرار رفضها لخطة ترامب، إلا أنها لم تملك سبيلا لوقف تنفيذها، ولقد فشلت فشلا ذريعا في تحريك المعارضة الشعبية للخطة محليا كما أخفقت في حشد الضغط الأوروبي والعربي لمنع الضم أو لاتخاذ إجراءات محددة وفعالة لمواجهته في حالة ما لو تم تنفيذه. ولعل الضعف السياسي الذي تعاني منه منظمة التحرير الفلسطينية هو ما سهل على مؤيدي خطة ترامب استثناء الزعماء الفلسطينيين من العملية من خلال الإشارة إلى موقفهم الرافض والقول إن الفلسطينيين فشلوا في أن يكونوا "شريكا للسلام". 

ونتيجة لذلك، ولو جزئيا، حتى معارضو الضم، بما في ذلك بعض الأصوات داخل الكونغرس الأمريكي، وضعوا اعتراضاتهم بشكل حصري في إطار الأضرار التي قد تلحق بأمن إسرائيل ومستقبلها كدولة يهودية وكذلك بالعلاقة الأمريكية الإسرائيلية بدلا من إطار ما سينال الحقوق الفلسطينية من تقويض إضافي، حيث أن الفلسطينيين هم من سيدفع الثمن أيا كان القرار الإسرائيلي. وأيا كان الإجراء الذي سيتخذه نتنياهو، سواء كان الضم بحده الأقصى أو الضم بحده الأدنى، فإن هذه هي لحظة الحساب بالنسبة للفلسطينيين. وحيث أن الضم الإضافي خيار وارد وأن الفلسطينيين لم يعد لهم مقعد على الطاولة بينما تقرر إسرائيل لوحدها مساحة الأرض التي ستستولي عليها من أي دولة فلسطينية تتشكل في المستقبل، فإن ذلك يفضي لا محالة إلى تعرية التوتر الذي لم يزل كامنا منذ اتفاقيات أوسلو في التزام منظمة التحرير الفلسطينية ببناء الدولة في ظل الاحتلال. يصر زعماء منظمة التحرير الفلسطينية أن الخيار الوحيد هو الاستمرار في مسار السعي لإقامة الدولة من خلال الدبلوماسية والمفاوضات، رغم أنه لا يوجد ما يثبت أن ذلك يثمر أي تقدم. ولقد قال لي مسؤول في منظمة التحرير: "نحن على استعداد للجلوس لمائة عام أخرى."

في هذه الأثناء، يتركز التفكير على المدى القصير في منع إسرائيل من المضي قدما وتنفيذ الضم. وكانت القيادة الفلسطينية قد استبقت الأحداث في مايو بالإعلان عن تعليق اتفاقيات أوسلو والتنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. (يذكر أن السلطة الفلسطينية هي سلطة حكم ذاتي تشكلت في عام 1994 بعد أوسلو لإدارة التجمعات السكنية الفلسطينية، مبدئيا لفترة انتقالية مدتها خمسة أعوام.) وعلى النقيض من التهديدات التي كانت تصدر في الماضي، فقد أوقفت السلطة الفلسطينية التبادل المكشوف للمعلومات الاستخباراتية مع قوات الأمن الإسرائيلية، وفي بعض الحالات أوقفت أيضا التنسيق المدني الخاص بقضايا ذات علاقة بإصدار تراخيص العمل والعلاج والطبي. ولكن يبقى زعماء السلطة الفلسطينية عازفين عن قطع كافة الارتباطات، وبشكل تام، لما لهم من مصالح شخصية في الإبقاء عليها، هذا بالإضافة إلى أن عددا من الناطقين بلسان السلطة أشاروا بوضوح إن إجراءات التعليق قابلة لأن يتم التراجع عنها فيما لو قرر نتنياهو عدم المضي قدما في مشروع الضم. هذا مع العلم أن خطوات القيادة لتخليص نفسها من اتفاقيات أوسلو تلقى دعما جماهيرا واسعا. فلقد أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار وجود شعور بالخيبة على نطاق واسع إزاء فكرة أن الاتفاق مع إسرائيل من شأنه يوما ما أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، وكذلك وجود شعور بالشك من أن السلطة الفلسطينية، بمؤسسات الدولة الهزيلة التي تتوفر لديها يمكنها على الإطلاق أن تثمر في نهاية المطاف فلسطين الحرة. 

بينما انشغلت منظمة التحرير الفلسطينية بتحركاتها الدبلوماسية الهادفة إلى إقامة الدولة، مثل الحصول على وضع مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، استمر عدد المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية بالنمو بشكل مضطرد. يقول بعض الفلسطينيين، بما في ذلك من داخل القيادة نفسها، إن السلطة الفلسطينية، وبدلا من العمل على تحقيق الاستقلال، تحولت بشكلها الحالي إلى مجرد مقاول أمني، مهمتها فرض الهدوء في أوساط سكانها خدمة لمصالح إسرائيل. ولذلك يأمل الفلسطينيون الذين يعتبرون السلطة الفلسطينية جزءا لا يتجزأ من الاحتلال في أن يكون إنهاء التنسيق الأمني الخطوة الأولى لإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية بحيث تصبح كيانا يتحرك بهدف مقاومة الهيمنة الإسرائيلية. أخبرني أحد المحللين الفلسطينيين بأن الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يغير اللعبة يتمثل في أن يقول الفلسطينيون "لا نرغب بعد الآن الاستمرار في ممارسة هذه اللعبة."

ولكن، من المؤكد أن الخروج من اللعبة أصعب بكثير مما يتصور الكثيرون –ليس على الأقل لأن الآلاف من الفلسطينيين الذين تعتمد معيشتهم في اقتصاد الضفة الغربية الهش على الرواتب التي يتقاضونها من السلطة الفلسطينية. تحدثت مع أحد الموظفين في منظمة التحرير، الذي ولئن أبدى تعاطفا مع هذا الشعور الشعبي المناهض للتنسيق إلا أنه تحدث ببلاغة عن مأزق القيادة مبينا أن تصاريح التنقل، وكذلك الوصول إلى الخدمات الضرورية مثل الرعاية الصحية أو العمل، كل ذلك يعتمد على استمرار السلطة في القيام بمهمة التنسيق الأمني، وقال: "هل يدرك الفلسطينيون أن ذلك (التنسيق الأمني) يشمل المستشفيات وتنقل الناس بين القرى، والسفر إلى الأردن؟" بمعنى آخر، ترتبط حياة الفلسطينيين بالتنسيق الأمني، والذي يستهدف بشكل أساسي إنهاء أي شكل من أشكال المقاومة ضد السيطرة الإسرائيلية. لقد وضحت خطة ترامب وتوجه نتنياهو نحو الضم، وبشكل نهائي، التناقضات والتنازلات المتضمنة في فكرة أن السلطة الفلسطينية ما هي سوى محطة على طريق الاستقلال وإقامة الدولة. 

ولذلك، فإن الفلسطينيين في المناطق المحتلة وفي إسرائيل وفي الشتات، والذين خاب أملهم في القيادة الرسمية، باتوا وبشكل متزايد يعيدون تعريف نضالهم بعيدا عما يعتقدون أنه سراب الدولتين وباتجاه مقاومة واقع الدولة الواحدة. فبدلا من الاكتفاء برموز الدولة وبجيوب من الحكم الذاتي الفلسطيني، فإن نقطة البدء بالنسبة لهم تتمثل في سيادة إسرائيل الحصرية على كل الأرض الواقعة بين النهر والبحر، وتركيزهم يتوجه نحو الحكومة الإسرائيلية من حيث أنها توفر حقوقا مدنية وسياسية لليهود وتحرم منها الفلسطينيين، بدرجات متفاوتة تتوقف على مواقعهم. بالنسبة لأولئك الذين يدافعون عن إحداث نقلة في استراتيجية التحرير الفلسطينية، تشكل هذه اللامساواة البنيوية الحافز الأساسي نحو النفير. تعتمد هذه الكوكبة من النشطاء والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية والسياسيين ومجموعات التضامن على لغة حقوق الإنسان والحقوق المدنية لكي تتحدى القمع السياسي الذي يتعرض له الفلسطينيون وذلك الإنكار المنظم لحقوقهم الفردية والجماعية. 

رغم أن حركة الحقوق الفلسطينية غير مركزية وتتكون من فاعلين متباينين ومتنوعين وبها نسق من المطالب والأجندات، إلا أنها لا تربط نفسها عموما بإطار سياسي محدد، سواء كان الدولة الواحدة أو الدولتين، وإنما تهدف إلى تقويض أنظمة السيطرة والهيمنة التي تعيق حياة الفلسطينيين. فبدلا من السعي وراء الدولة، يسلط هؤلاء النشطاء الضوء على القيم التي ينبغي أن يقوم عليها أي تقدم باتجاه تقرير المصير الفلسطيني، بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه ذلك، وهذه القيم هي الحرية والعدالة والمساواة، حيث تتمثل الحرية في الدعوة لإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بينما تشير العدالة إلى مطلب التعويض الذي يسعى نحوه اللاجئون الفلسطينيون مقابل تجريدهم من ممتلكاتهم وطردهم بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948، وتشير المساواة إلى مطالب مواطني إسرائيل من الفلسطينيين بإنهاء التمييز الممأسس الذي تتضمنه فكرة الدولة القومية.

قال لي شاب من الخليل: "نحتاج إلى إعادة تعريف النضال الفلسطيني. نحتاج إلى هوية سياسية جديدة، وهي ليست هوية تحددها حماس أو فتح، فنحن الآن نعيش في واقع الدولة الواحدة. لا نريد دولة تقوم على أساس 1967، وإنما نريد حقوقنا كبشر." من شأن إعادة التأطير هذه أن تتجاوز إخفاقات حل الدولتين، كما يراها هؤلاء النشطاء، والمتمثلة في تكريس الانقسامات بين الفلسطينيين وتجزئة الشعب الفلسطيني. فمن وجهة نظرهم، لقد فشلت استراتيجية الدولتين القديمة في التأكيد على حقوقهم الجماعية كشعب، وذلك باعتبارها مطلب المساوة من قبل مواطني إسرائيل من الفلسطينيين قضية إسرائيلية محلية بدلا من أن تكون جزءا أساسيا من النضال الفلسطيني ضد الهيمنة الإسرائيلية، وكذلك بتخليها عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين بإنكار حقهم في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها أو جلوا عنها في عام 1948. يزعم المدافعون عن استخدام لغة الحقوق أن بإمكانها أن توحد الشعب الفلسطيني في كتلة واحدة تناضل في سبيل تقرير المصير، بينما يؤدي مشروع الدولة إلى تكريس تفتيتهم جغرافيا. 

مازالت حركة الحقوق الفلسطينية بعيدة عن أن تكون حركة منسقة أو رسمية، ناهيك عن أن تملك نفوذا سياسيا مؤثرا، ولعل ذلك يفسر لماذا، في أحسن الأحوال، تسامح معها زعماء منظمة التحرير، وفي أسوأ الأحوال، تجاهلوها باعتبار أنها لا تقدم ولا تؤخر أو باعتبارها طوباوية. من الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الحركة الدولية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس)، والتي ربما كانت أهم تجليات هذه النقلة الاستراتيجية، كانت قد انطلقت في عام 2005 على يد أكثر من مائة وسبعين كيانا فلسطينيا، بما في ذلك اتحادات، وشبكات لاجئين، ومنظمات نسائية، ونقابات مهنية ولجان مقاومة شعبية. ومع ذلك لم تتبن منظمة التحرير الفلسطينية رسميا مبادئها إلا في عام 2018. 

يعترف المسؤولون في منظمة التحرير الفلسطينية لمنتقديهم من الفلسطينيين بأن هدف إقامة دولة مستقلة على ما مساحته 22 بالمائة فقط من فلسطين الانتدابية بات من ناحية أبعد ما يكون عن الطموح ومن ناحية أخرى يعتبر تنازلا كبيرا لا يعوض عنه شيء من مواصفات الدولة المتحققة حتى الآن. ولكنهم في نفس الوقت يحذرون من أن التخلي عن مشروع بناء الدولة يمكن أن يكون قاتلا للقضية الفلسطينية. فإذا ما أخذنا الخلل في ميزان القوة لصالح إسرائيل، يخشى قادة منظمة التحرير الفلسطينية من أن الحديث عن المساواة سوف يحول النضال في سبيل تقرير المصير الوطني إلى قضية حقوق محلية داخل إسرائيل. وفي هذا السياق قال لي عضو كبير في حركة فتح كنت قد تحدثت معه: "سوف يتحول الفلسطينيون إلى أقلية (يقصد بذلك احتمال أن يتحول الفلسطينيون إلى مجتمع مهمش داخل إسرائيل). سوف نصبح مستعبدين، وسوف يُداس علينا. ليس بوسعنا التخلي عن الحقوق الدولية. لن نتمكن من العيش مع (اليهود الإسرائيليين) إذا لم تكن لدينا قوة."

وهناك داخل منظمة التحرير الفلسطينية من يعبرون عن مخاوف أكثر براغماتية، إذن يرون أن أي حركة احتجاج سياسي جديدة تهدد بإرباك الواقع الحالي سوف تجازف بالتسبب بأعمال انتقامية دموية، ولربما قدمت ذريعة لمزيد من عمليات طرد الفلسطينيين من المناطق. (ويذكر في هذا الصدد أن خطة ترامب اقترحت إمكانية أن يتم نزع الجنسية عن بعض الفلسطينيين من مواطني إسرائيل وإمكانية أن تصبح الأرض التي يعيشون عليها جزءا من دولة فلسطين، ومن المؤكد وجود أصوات داخل حركة الاستيطان اليمينية في إسرائيل لا يسعدها شيء أكثر من المطالبة بإجراءات صارمة قد تبلغ حد التطهير العرقي.) وهناك شخصيات فلسطينية تحذر من أن الفلسطينيين لن يكسبوا شيئا من تبني استراتيجية الدولة الواحدة التي أصبحت موجودة بحكم الواقع، ولا حتى المساواة، وذلك لأن إسرائيل "بإمكانها أن تعيش إلى الأبد كدولة واحدة لا يتساوى الناس داخلها في الحقوق."

يرى معظم القادة الفلسطينيين، من منظمة التحرير الفلسطينية ومن حماس معا، أنه قبل إحداث هذا التغيير في الاستراتيجية، يتوجب على الفلسطينيين تأمين دولتهم أولا وتعزيز تلك المكاسب في الساحة الدولية، والتي ستتضمن تحقيق جميع قرارات مجلس الأمن الدولي التي أكدت على حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وكما علق دبلوماسي سابق تابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، إن الحديث عن تحويل النضال الفلسطيني إلى حركة حقوق مدنية كلام جميل "في مقاهي مانهاتن" ولكن ليس في فلسطين. فنظرا لأنه من غير الوارد أن تدعم حكومة إسرائيلية واحدة فكرة حل الدولة الواحدة التي يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، يرى هؤلاء القادة أنهم محقون في تقديرهم بأن المقاربة القائمة على الحقوق غير واقعية. 

إلا أن هذه المواقف تقابل بالتحدي من طرف المدافعين عن النظرة الحقوقية، الذين يرون في ذلك تبريرا يخدم المصالح الشخصية لأصحاب تلك المواقف، ويقولون إن القيادة ظلت عالقة في مشروع بناء الدولة الذي ألزمت به نفسها في عام 1988 مع أن كل شيء من حولها قد تغير، فالحكومة الإسرائيلية لم تفتأ تتجه باستمرار نحو اليمين وصارت تعبر بشكل صريح عن رغبتها في التمدد باتجاه إنجاز دولة "إسرائيل الكبرى". 

منذ منتصف العشرية الأولى من الألفية الحالية والمنظومة السياسة الفلسطينية نفسها منقسمة بين الضفة الغربية التي تهيمن عليها منظمة التحرير الفلسطينية وقطاع غزة الذي تحكمه حماس. وغدت الحكومات العربية اليوم أكثر ميلا نحو العمل باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حتى لو كان ذلك يعني غض الطرف عن استمرار الاحتلال وتقليص الضغوط الدبلوماسية التي كانت تمارسها لصالح القضية الفلسطينية. في نفس الوقت، لقد أضعف صعود القومية الشعبوية في الغرب التزام كثير من الحكومات بالمنظومة القانونية الدولي وقلص من إرادتها السياسية، الواهنة أصلا، في مساندة القضية الفلسطينية. وأخيرا، ولكن ليس آخرا ضمن هذه التغييرات، هناك ظاهرة عودة الحركات السياسية الجماهيرية إلى الظهور –سواء بين الفلسطينيين أنفسهم (وبشكل ملحوظ في احتجاجات غزة في 2018 وكذلك في 2019) أو داخل حركات التضامن الدولي. 

في الثلاثين من مايو / أيار قتلت الشرطة الإسرائيلية في القدس إياد الحلاق، وهو رجل فلسطيني يعاني من التوحد، تملكه الرعب عندما طالبه ضباط الشرطة الإسرائيلية بالتوقف، فما كان منه إلا أن ركض واختبأ في غرفة القمامة، حيث وقفت السيدة المكلفة برعايته تناشد رجال الشرطة بالعربية تارة وبالعبرية تارة أخرى ألا يطلقوا النار عليه، قائلة لهم المرة تلو الأخرى إن الحلاق معاق ولا يستوعب أوامرهم. ومع ذلك، أطلق عليه ضباط الشرطة النار ثلاث مرات من مسافة قصيرة فأردوه قتيلا. وبعد ثلاثة أيام من جريمة قتل الحلاق نظمت احتجاجات في عدد من المدن داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية، بما في ذلك حيفا والرملة والقدس، لتسليط الضوء على قسوة قوات الأمن الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين. كثيرون ممن شاركوا في المظاهرات تعمدوا الربط بشكل واضح مع احتجاجات "حياة السود تهم" التي كانت تنظم ضد العنصرية وعنف الشرطة في مختلف المدن حول العالم. 

لم يكن ذلك بالأمر الجديد. فلم يفتأ النشطاء يقيمون منذ عدة سنوات مثل ذلك الربط بين "حياة السود تهم" والنضال من أجل الحقوق الفلسطينية. لقد كان صيف عام 2014 نقطة تحول في الحركتين: فبينما انطلقت احتجاجات "حياة السود تهم" بعد قتل الشرطة لمايكل براون في فيرغسون، ميزوري، خرج الفلسطينيون في الضفة الغربية وحول العالم ليتظاهروا ضد القصف الإسرائيلي لقطاع غزة. وفي عام 2016، وتحديدا بعد ثلاثة أعوام من ولادتها، أصدرت "حياة السود تهم" بيانا أعلنت فيه تضامنها مع الفلسطينيين. 

يمثل النضال من أجل تحرير فلسطين تهديدا أساسيا للاستعمار الاستيطاني وللأبارتيد الإسرائيلي، وهو المنظومة التي تأسست وماتزال قائمة على التطهير العرقي وسرقة الأراضي وإنكار حق الفلسطينيين في الإنسانية والسيادة. رغم ما نقر به من أن تركيبة الأبارتيد في إسرائيل / فلسطين تختلف عن تلك التي في الولايات المتحدة (وعن تلك التي كانت في جنوب أفريقيا)، إلا أننا نستمر في رؤية الصلات بين وضع الفلسطينيين ووضع السود.

هذا الأسبوع، أعلنت "حياة السود تهم" في بريطانيا عن تضامنها مع الفلسطينيين، وقالت: "بينما تمضي إسرائيل قدما نحو ضم الضفة الغربية ... فإننا نقف وبصوت عال وواضح إلى جانب رفاقنا الفلسطينيين." عندما تتحدث "حياة السود تهم" وحركة الحقوق الفلسطينية عن نفسيهما فإنهما يقولان إنهما يناضلان ضد دول الاستعمار الاستيطاني وكيانات الهيمنة وأدعياء التفوق الذين يعطون لحياة البيض وحياة اليهود قيمة أعلى من حياة السود وحياة الفلسطينيين على التوالي. تعارض الحركتان عنف الدولة ضد مجتمعاتها واستخدام القوة المفرطة من قبل الشرطة. 

بالطبع هناك اختلافات لا مفر من الإقرار بوجودها. فبينما تناضل "حياة السود تهم" في سبيل تحرير السود من إرث العبودية والتمييز المؤسساتي، يقاوم الفلسطينيون الاحتلال العسكري والاستعمار. ولكن حتى بوجود هذه الاختلافات، فإن قنوات التضامن بين نضالاتها المتوازية آخذة في الانتشار. وكلما خرج نشطاء "حياة السود تهم" إلى الشوارع، يغمر الفلسطينيون وسائل التواصل الاجتماعي بمشاركات يقدمون من خلالها معلومات حول مختلف أنواع الغاز المسيل للدموع الذي تستخدمه الشرطة الأمريكية انطلاقا من خبرتهم هم في مواجهة الكيماويات المشابهة التي تستخدمها القوات الإسرائيلية. كما ترفع الأعلام الفلسطينية في كثير من مظاهرات "حياة السود تهم"، وبالمقابل رفع الفلسطينيون الذين شاركوا في الاحتجاجات على مقتل الحلاق داخل الأراضي المحتلة يافطات تعلن عن تضامنهم مع "حياة السود تهم"، وقد رأيت واحدة منها قد كتب عليها " الفلسطينيون يدعمون الانتفاضة السوداء".

بدأت هذه الارتباطات تتسرب أيضا إلى الوعي اليهودي الإسرائيلي. بينما نظمت بعض احتجاجات "حياة السود تهم" في تل أبيب دون إشارة إلى الاحتلال، إلا أن الاحتجاجات التي ينظمها اليساريون في إسرائيل تستخدم الآن لغة تتضمن مفردات مثل الأبارتيد والحقوق الفلسطينية. 

كانت مختلف الانتفاضات والتجمعات الشعبية الفلسطينية في العقود الأخيرة تلقائية إلى حد كبير، عبارة عن فوران جماهيري بعد سنوات من السخط المتنامي والإحباط. ما إذا كانت مظاهرات الحلاق، أو الأزمة الاقتصادية في المناطق الفلسطينية، أو خطة الضم الوشيكة تنذر بانفجار احتجاجي أوسع، ذلك ما ستكشف عنه الأيام القادمة. ولكن بينما تبدو القيادة الفلسطينية عاجزة عن منع مزيد من الضم، أو حتى استنفار الرأي العام الدولي ضده، فإن "حياة السود تهم" تقدم نموذجا للبديل، والذي سيكون على شكل عمل جماهري ضد القهر المنظم – وكثير من الفلسطينيين يصغون. وكما أن السياسيين المنتخبين والمؤسسات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة تسارع للانضمام إلى طابور الإجماع الجديد حول العنصرية في أمريكا، ربما يحتاج القادة الفلسطينيون إلى أن يأخذوا بالحسبان نفوذ أولئك الذين يرون مستقبلهم يتحدد من خلال النضال من أجل حقوق متساوية للجميع ما بين النهر والبحر. 

للاطلاع على النص الأصلي (هنا)

 

للاطلاع على النص الأصلي (هنا)

التعليقات (0)