قضايا وآراء

الاغتراب في زمن كورونا

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
لم تترك جائحة كورونا فئةً اجتماعية، ولا قطاعاً من القطاعات الحيوية في الحياة إلا وأضرت به، وأوقفت نشاطه، أو خلخلت معنوياته، والقادم من الأيام والشهور سيكشف عن حجم الدمار الذي خلفه الوباء. بيد أن للآثار العامة للجائحة، وتحديدا النفسية منها، درجات تختلف من فئة إلى أخرى، ومن فرد إلى آخر.

ويهمني في هذه المقالة الإشارة إلى فئة المغتربين عن أوطانهم، وما كان للجائحة من تأثير على نفسياتهم ومعنوياتهم، ولأنني واحد من هذه الشريحة، سيكون حديثي مزيجا بين ما عاشه من هم في وضعي وما عشته شخصيا خلال هذه الشهور الثلاثة المنصرمة.

هل يمكن لغير المغترب أن يكتب عن الاغتراب، ويحسن التعبير عن آثاره النفسية والاجتماعية، أم أن المغترب وحده القادر عن التعبير عما يحس به ويكابده؟ أجزم أن غير المغترب مهما كانت قدرته على الإبداع والتخيّل والحبكة في الكتابة، لن يستطيع التعبير عن عمق الشعور بالاغتراب في زمن وباء كاسح، لا دين ولا لون ولا رحمة له، كما هو حال جائحة "كورونا"، وأن المغترب وحده، ووحده فقط، القادر على نقل أحاسيسه، ودرجة معاناته، لأسباب موضوعية، فهو يعيش انشطاراً بين حنينه لبلده، ومحيطه العام، وأمكنة ذاكرته، وأهله وذويه، وأصدقائه، ومن أحبّ، ومن لم يُحب، والبلد مكان الاغتراب، الذي يوجد فيه وبين أهله، بإرادة أو بدونها.

فالانشطار يكون صعباً في الظروف العادية والطبيعية، فبالأحرى في زمن جائحة زعزعت العالم، وأجبرت الجزء الأعظم من سكانه على البقاء محجورين في بيوتهم.

قال لي صديق عزيز، مغترب مثلي، قُدّر لنا أن نعيش زمن الجائحة بعيدين عن أسرنا، وقد كنا في بداية انتشار الوباء في آذار/ مارس الماضي، إننا نعيش معاناة ثلاثية الأبعاد: اغتراب، ووحدانية، وحجر منزلي، وعلى الإنسان أن يتصور طبيعة الشعور الذي ينتابه وهو يئن تحت وطأة هذه الضغوطات الثلاثة.

فقد أحسسنا وكأن الحياة تنفلت من تحت أقدامنا، أو أن نهاية مؤلمة تنتظرنا لا محالة. وقد زادت لغة الإعلام بكل أنواعه، من بثّ الهلع في نفوسنا، ونشر الخوف في قدراتنا على التماسك، فشرع الوباء يفعل فعله في حياتنا. وهكذا، أصبحنا نصارع النوم ليلا ونفاوضه بشراسة، ونلتمس السبيل إليه، كما بدأنا نحس بأنين أطراف أجسامنا، وازدادت تخوفاتنا من أن تنعطف أوضاعنا الصحية نحول سُبل لا نقدر على تحملها.

ولأن المفاضلة بين الاستمرار والبقاء على الرغم من آثار الوباء، والضعف أو الانهيار أمام الجائحة وهول الإعلام، فقد وعينا أهمية المقاومة، والاجتهاد في اعتماد وسائل للبقاء متماسكين إلى أن ينجلي ليل الوباء، وتتضح معالم الفرج.

تسلحنا بثلاثة أمور، وعقدنا العزم على الإبقاء عليها مُوجّهة لحياتنا حتى النهاية: استحضار إيماننا بالله، وقدرته على تحويل العُسر إلى يسر، وهو اللطيف بعباده، فبقينا كما كنا قبل الجائحة، نتضرع إليه، ونستغفره، ونتوسل اللطف بعباده، وهو القادر على كل شيء. وكنا دائما نقول: "أراد الله أن يرى ملكوته في هذا الشكل الذي نحن عليه، وهو وحده القادر أن يُعيد له استقراره وسكينته".

أما الأمر الثاني، فيتعلق بإنعاش الجسم والمحافظة على حيويته، حيث واظبنا على رياضة المشي بمعدل ساعة على الأقل كل يوم، وبدون انقطاع، منذ بداية آذار/ مارس. وقد شعرنا أنها أحسن وسيلة لمقاومة الوباء، وترشيد آثاره الضارة. وعلى الرغم من تورّم أقدامنا، وانخفاض وزن أجسامنا، ما زلنا مصرين على المشي كل يوم، وبالإيقاع ذاته.

ويتعلق الأمر الثالث بتعميق الصلة بالأرحام والأصدقاء، وتوسيع شبكة التواصل، مستفيدين من الإمكانيات المتاحة من قبل الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي. فهكذا نسجنا مجموعات وروابط اتصال في شكل مجموعات مع أسرنا، وكنا نقضي أوقاتا جميلة وكـأننا في مناسبات عائلية، نتابع الأحداث، ونطلع على الأوضاع، ويشجع الواحد منا الآخر على التماسك، والصبر، إلى أن تزول الغمة. والحقيقة كانت هذه الوسيلة من أنجع الوسائل إيجابية على نفوسنا. كما شكل التواصل مع الأصدقاء، وتبادل الأحبار الإيجابية معهم، وسيلة لا تقل أهمية من التواصل مع الأسر والأحباب.

يُقال "ربّ ضارّة نافعة"، وإن قلت في مقال سابق ليس لجائحة كرونا منافع تُذكر. فالوباء فتح أعيننا على أشياء كثيرة لم نكن نُقدر قيمتها في الظروف العادية، أي ما قبل الجائحة. نبّهنا إلى جمال الحياة ومتعها التي لا تُعد ولا تُحصى، وأقنعنا أن بإمكانيات متواضعة يمكننا خلق السعادة، وإشاعتها بين الناس، وأن القناعة والستر هما في النهاية ما يجب أن نطمح إليه، وأن البشر ليسوا أشراراً كما يعتقد بعضنا، بل فيهم الكثير من الخير، إن أحسنا التعامل معهم، والتقرب منهم، والإنصات إليهم، وبدون التكاتف والتعاون والتضامن لا نستطيع ولن نستطيع التغلب على الأزمات، كما حال أزمة جائحة كورونا..

لقد أكبرت في تجربة إدارة الوباء في بلدي حزم الدولة وتجنّد مؤسساتها، وطواقم إدارتها، والأطباء والممرضين والممرضات، وهيئات المجتمع الأهلي، وكيف نذروا أنفسهم لمقاومة الوباء والإصرار على التغلب عليه. كما أكبرت في مجتمعي المغربي صبر الناس على الحجر المنزلي، والاستماتة بشكل عام في احترام شروط نجاحه.

كما نبهتني هذه الجائحة كيف تُختبر معادن الناس عند الشدائد، فقد سمح لي احتكاكي اليومي بزملاء في المهنة باكتشاف طيبوبة العديد منهم، كما أمدني تواجدي اليومي معهم بكثير من القوة في مواجهة الوباء، والتفاؤل بالتغلب عليه.

ونحن اليوم على مقربة من بداية استئناف الطيران الدولي لرحلاته، سنعود بحول الله إلى أوطاننا، وسيكون لنا رصيد كبير من المعطيات والوقائع والذكريات لإعادة الكتابة عن جائحة كورونا.
التعليقات (0)