تتتزامن احتفالات مصر هذا العام بذكرى تحرير سيناء في الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل، مع ذكرى احتفالاتها بحرب العاشر من رمضان 1393 هـ، السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973م، وذلك في صمت غير مبرر، حيث اكتفى عبد الفتاح السيسي، الرئيس العسكري للبلاد، بكتابة تغريدة لا تحمل تهنئة لبلاده، ولا تذكيرا لشعبه بالحرب المجيدة التي خاضتها القوات المسلحة ضد العدو الصهيوني وانتصاره عليها. ولولا كتابة بعض المغردين ورواد وسائل التواصل الاجتماعي ما تذكر أحد في مقابل التجاهل الرسمي للنظام لتلك الذكرى العظيمة، التي ما زال النظام العسكري نفسه يحكم مستندا على انتصاراتها.
وقد حاولت بعض الأصوات مؤخرا التقليل من شأن تلك الحرب التي كسرت على أثرها أسطورة الجيش الذي لا يقهر، محتجين بخيانة قضية العرب المصيرية في كامب ديفيد، ثم ممارسات القيادة العسكرية والسياسية فيما بعد بتغيير عقيدة الجيش والانشغال بغير وظيفته الحقيقية في حماية حدود البلاد، لحماية وجود الحاكم الذي يخرج من بين صفوف قياداته دائما منذ انقلاب تموز/ يوليو 1952، مصورين أن حرب أكتوبر كانت خديعة كبري من القيادة السياسية المصرية، وتمثيلية انتهت بالسلام الذي خسرت مصر على أثره مكانتها التاريخية بين العرب والمسلمين.
ومن وجهة نظري، أن تلك نظرة تظلم الآلاف من المصريين الذي عبروا القناة وحطموا الساتر الترابي على الضفة الأخرى منها، وتقلل من شأن آلاف الشهداء الذين تحركوا وعبروا واستشهدوا بعقيدة أن "من مات دفاعا عن أرضه فهو شهيد"، وتقلل من مشاعر الملايين من الشعب المصري الذين آمنوا بالرئيس المؤمن حتى لو استغل عاطفتهم الدينية، ويقلل من شأن الانتصار الذي محا الهزائم المتكررة التي صنعها جمال عبد الناصر ليسيء لسمعة المقاتل العربي أمام جيش المحتل، لتنتشر إسرائيل في خمس دول عربية بعد عدة هزائم لم تمح إلا بالتكبير والشعارات الدينية.
من يحرص على طمس معالم النصر؟
ليس غريبا على المطلع ببواطن الأمور في مصر تلك السياسة التي ينتهجها النظام العسكري، في محاولته طمس حقيقة النصر المؤزر رغم توقف الحرب بعد ست ساعات بقرار مصري، وكذلك محاولة طمس بطولات أهل سيناء التي رجحت كفة الجيش المصري في أثناء حرب الاستنزاف واليوم الحاسم في العاشر من رمضان، وذلك بتجاهل كل ذكرى لذلك النصر العظيم، الذي قدمت البلاد فيه خيرة أبنائها شهداء في المعركة، وذلك ضمن سياسة العسكر المعروفة منذ الانقلاب في تموز/ يوليو 2013 بنشر روح الإحباط والهزيمة، والتصغير من شأن الشعب المصري وتقزيم دوره وانتصاراته، وتصوير البلاد بالفقر في الموارد وشعبها بالعوز والجهل.
وها هو يوم الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل، ذكرى تحرير أرض سيناء كاملة من الاحتلال الإسرائيلي، يمر دون كلمة رسمية أو احتفال ولو صوري، وتلحق بها ذكرى حرب العاشر من رمضان في صمت متعمد.
وفي الوقت ذاته، تغرق سيناء على مدى يومين متتابعين في دماء أبناء الشعب المصري، من جنود ألقى بهم القدر بين يدي سلطة غير وطنية، وأبرياء من أبناء سيناء يتم الانتقام منهم لمجرد صمودهم على الأرض ورفضهم الرحيل. والمشهد العبثي كله لإخراج صورة لإرهاب يحيا عليه النظام ويستمد منه أسباب بقائه أمام العالم.
أيضا في ظل تلك الذكرى يحرص النظام على تغييبها وغرس مفاهيم ومُثُل أخرى، كتزوير فج لتاريخ البلاد بإنتاج المسلسلات التي تحرف الواقع وتشوه الأبرياء وتحكم من طرف واحد على حقبة تاريخية لم تنته، بعد أن يشهد عليها عشرات الملايين في الداخل وأضعافهم في الخارج. تاريخ موثق بالصوت والصورة ولا يمكن إخفاء معالمه بعشرات المسلسلات الزائفة، والأفلام الخادعة، وتكميم الأفواه، وتغييب الأحرار خلف السجون، لأنه في هذا الزمان صار كل من يملك صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، يستطيع أن يحصل على الحقيقة كاملة وينشرها لتعبر بوابات الزنازين وحدود البلدان.
إن مشاهد الخراب والدمار والدماء التي تبحر فيها سيناء اليوم، وتزداد بشاعة كلما توغلت في عمق المحافظة الحدودية أكثر؛ لم تعرفها مصر منذ عقود الحرب المباشرة مع الكيان الإسرائيلي. أحياء وقرى ومدن أزيلت تماما وتم تهجير أهلها قسرا، ومن بقي منهم يباد تحت مظلة محاربة الإرهاب، وتم إخلاء الشريط الحدودي بشكل كامل وانتهت ما تسمى برفح المصرية. وقد تم إزالة مزارع النخيل والزيتون، وتم ردم الآبار والقضاء على كل مظاهر الحياة الخضراء في تلك المنطقة. مئات من القتلى المدنيين في أوقات متقاربة؛ في عمليات يدعي النظام أنها تبادل إطلاق نار، لتتحول أرض الفيروز في بضع سنوات من مدينة يمكن أن تحيا على خيراتها البلادُ بأسرها، لأرض خربة تنعق فيها قوى ظلامية لا تعرف سوى القتل والتدمير والحرق والتجريف والتنازل عن بعض الجزر في صفقات مشبوهة.
كل هذا يتم خلسة في ظل حكم عسكري غير مؤهل لأداء أي دور وطني؛ إلا أن يعود لثكناته خاضعا لسياسة من يستطيع إدارة أمور البلاد بمعرفة ووطنية وقوة وحرية.
الرهان على صبر الشعوب
وبالرغم من أن الانقلاب العسكري قد راهن على تغييب الشعب وعدم إحاطته بما يدور، غير أن ما لا يعرفه ولا يستوعبه أن الشعب رغم انشغاله بلقمة العيش التي حاصره فيها العسكر بالتضييق الشديد في الأرزاق ورفع الأسعار، والمساهمة في رفع نسبة البطالة بغلق المصانع والمؤسسات، ليتم تشغيل الشركات التابعة للانقلاب ولرجاله الأوفياء كرشوة للسكوت على حالة الانحدار التي وصلت لها البلاد، فاستطاع أن يهلك الشعب ويمحوره في اهتمامات فردية يومية تتعلق باحتياجات أساسية لا تعطيه الفرصة لينتبه أو يفيق، إلا أن المواطن اليوم ليس هو نفس مواطن الخمسينيات الذي خدعه العسكر ببضعة أفدنة، قام بتوزيعها بينما استولى على البلاد من شمالها لجنوبها وشرقها لغربها، في ظل حالة الوعي المتنامي بين طبقات الشعب الذي طاله البلاء.
لقد عجز نظام عبد الفتاح السيسي عن أن ينجح في مهمة واحدة وعد الشعب بها؛ حين وقف يطمئنه بأنه لم يأت طامعا في حكم، وأنه ليس حكم عسكر. وقد تسلم السيسي البلاد بلا مشكلة في النيل الذي وقَّع بالتنازل عنه ليدخل البلاد في دائرة البحث، أو شراء المياه التي ظلت آلاف السنوات تروي الأرض كحق طبيعي تاريخي لها. تسلم البلاد كاملة ليتنازل عن الجزر مختارا دون مسوغ تاريخي إلا الخيانة العظمى، وأفقر الشعب وأمرضه وتركه أمام الوباء عاريا من أي قدرة على المقاومة، بينما نظامه يوزع المساعدات على الشعوب الأخرى وكأنه لا يوجد شعب في مصر.
إن الحاكم الذي يمارس الإرهاب على شعبه، ثم هو يراهن على صبر هذا الشعب خاصة إذا كان خارجا من ثورة عظيمة دفع ثمنها غاليا، لهو رهان خاسر وساذج، فالشعوب لا تصبر طويلا وقد حطمت الحدود كافة، وتواصلت فيما بينها خارج حدود التواصل المادي المعروف.
إن الشارع المصري يغلي ويئن، والهمس الذي كان مكبوتا صار صراخا هنا وهناك، والجميع في انتظار من يبدأ ليتبعه في التعبير عن غضبه حين تساومه على حياته وتحاربه في رزقه، وتقاسمه قوت أبنائه، وتُظلم غده فتظلم الدنيا في عينه.
إنه نظام غبي ذلك الذي يتحدى شعبا في دماء أبنائه، فيحول أفراد جيشه لمرتزقة في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ليس إلا خدمة لبقائه ونزواته وأطماعه. إن المشهد يكاد يكتمل، والنزاع الذي كان يحدث بين أنصار هذا النظام ومعارضيه يتضاءل، فلا تكاد تجد له مناصرا بعدما أخجل كل من كان معه بممارساته، ليكون أكبرها تزييف تاريخ شهده الناس بأعينهم وعايشوه بكرامتهم وحياتهم.
لا أحد يتحدى الشعوب، وحين يفعل، فهو الخاسر حتما وبأسرع مما يظن أنه سيبقى.
تقول الكاتبة "محاولة طمس حقيقة النصر المؤزر رغم توقف الحرب بعد ست ساعات بقرار مصري .."، حرب الساعات الست هو الوصف الذي اطلق على حرب 5 يونيو 1967، وسميت بذلك الاسم لأن جيوش مصر وجيوش عربية تحالفت معها قد انهزمت واحتلت أراضيها في ست ساعات على جبهات ثلاث دول عربية، ولا أظن أن الكاتبة تقصد وصف تلك الحرب بالنصر المؤزر، ولكن العواطف الوطنية الجياشة والمخادعة أحياناُ قد تدفع لعدم الاعتراف والتعلم من الأخطاء، فليس من المصلحة الوطنية إخفاء أن الجيش الثالث قد حوصر لأربعة أشهر بعد إعلان وقف القتال في حرب اكتوبر 1973، وأنه قد تم فك الحصار عنه بعد اتفاقية تمت مع الجيش الصهيوني في مفاوضات الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس، وأن السادات وبموجب تلك الاتفاقية قام بسحب غالبية القوات التي عبرت إلى شرق القناة، كما أنه قام بعد ذلك بنفي وتخوين وسحب الجنسية المصرية من الشاذلي القائد المصري الذي قاد القوات في هذه الحرب، ولا يقلل ذلك من فضل وتضحيات الذين استشهدوا في هذه الحرب وغالبيتهم من المجندين المصريين بنظام التجنيد الإلزامي.