تقارير

لاجئ من يافا ونشأة "الشيوعي" الفلسطيني وثورة 52 المصرية

عبد القادر ياسين: هذه هي قصة نشأة الحزب الشيوعي الفلسطيني- (إنترنت)
عبد القادر ياسين: هذه هي قصة نشأة الحزب الشيوعي الفلسطيني- (إنترنت)

يواصل الكاتب والمؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، سرد تفاصيل لجوئه من مدينة يافا الفلسطينية، التي غادرها عقب حرب عام 1948.. ويركز اليوم ياسين اليوم في مقالاته التي يكتبها خصيصا لـ "عربي21" على الفترة الزمنية التي واكبت ثورة يوليو (تموز) المصرية، ونشأة الحزب الشيوعي الفلسطيني.

 

نشأة الحزب الشيوعي الفلسطيني

 

في العريش، اشترك والدي مع أحد أبناء، "عائلة الشريف"، في مطعم، واستدعانا والدي من غزة، فاستمهلناه، حتى تنتهي السنة الدراسية (1952- 1953).

قبل أن ينتهي شهر آب/ أغسطس 1953، اعتدت وحدة عسكرية إسرائيلية على "مخيم البريج"، فقتلت نحو عشرين عربيًا إسرائيليًا، وجرحت ضعف هذا العدد، عدا ما نسفته من مساكن اللاجئين في المخيم. 


وفي صباح اليوم التالي، وصل معين بسيسو، المدرس في مدرسة البريج، إلى المخيم، ودعا إلى تنظيم مظاهرة، في المخيم، ضد التقاعس في الدفاع عن المخيم، وانضم إلى المظاهرة المئات، واتجهت، من فورها، إلى معسكر النصيرات المقابل، وطارت أخبار المظاهرة إلى أرجاء قطاع غزة، وسارعت أجهزة الأمن إلى اعتقال أكثر من ثلاثين شخصًا، بتهمة انتمائهم إلى الحركة الشيوعية، والمفارقة هنا، أن قطاع غزة كان خاليًا من أي تنظيم شيوعي، منذ عام وبضعة أيام، حين ضُربت "العصبة"، في 10 آب/ أغسطس 1952.

وإن كانت هذه المظاهرة بمثابة اللمسة الأخيرة في التحضير لإعلان "الحزب الشيوعي في قطاع غزة"، أما لماذا لم يواصل التنظيم الجديد حمل اسم "عصبة التحرر الوطني"، فلأن من تبقى من قادة، وكوادر، وأعضاء "العصبة" في فلسطين المحتلة، انضموا إلى أعضاء "الحزب الشيوعي الفلسطيني"، وشكلوا معًا، "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، وكان ذلك في تشرين الأول/ أكتوبر 1948، بمجرد أن الحت هزيمة الجيوش العربية، في الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى. بينما استمرت "العصبة" في الضفة الغربية تناضل تحت هذا الإسم، إلى ما بعد ضم شرق فلسطين إلى مملكة شرق الأردن، وحملت الأولى اسم "الضفة الغربية". 

وهكذا، رضخ قادة "العصبة" الستة، الذين بقوا في الضفة الغربية (فؤاد نصار، فهمي السلفيتي فائق َّوراد، رشدي شاهين، و... الهبَّاب، وعبد العزيزالعطُي) للأمر المقضي، وضموا إلى العصبة في الضفة الحلقات الماركسية، التي كانت منتشرة في شرق الأردن، وحمل الجميع اسم "الحزب الشيوعي الأردني"، منذ أيار/ مايو 1951. 

ولم تعلم قيادة "العصبة" في قطاع غزة، بما جرى للعصبة، في كل من فلسطين المحتلة، والمملكة الأردنية الهاشمية؛ فقد انقطعت الصلة بين العصبة في القطاع، باعتبارها فرعًا، للقيادة، في نابلس، التي كانت ترسل مع مندوب للعصبة في غزة التعليمات، والمطبوعات، حتي حزيران/ يونيو 1949.

 

سنة قلقة في العريش


نعود إلى أسرتي، التي عمدت إلى حزم حقائبها، والتوجه إلى العريش، مطلع أيلول/ سبتمبر 1952، والتحقتُ بمدرسة العريش الثانوية للبنين، المواجهة لمركز الشرطة، وكنتُ، وقتها، في السنة الأولى الثانوية، وفي هذه المدرسة تخلصتُ، مرة وإلى الأبد، من عادة خلع حذائي! بينما التحق أشقائي الثلاثة، سمير إلى المدرسة الابتدائية للبنين، وامتثال، ونبيلة، إلى المدرسة الابتدائية للبنات، في العريش .

سارت الحياة هادئة، وكنت وقتها أذهب، مرة من كل أسبوع، إلى دار السينما في الكتيبة الرابعة للجيش المصري، حيث أحضر فيلمًا، بقرشين، في كل مرة.

 

حين هل شهر شباط/ فبراير 1954، انفجرت أزمة سياسية مستعصية في مصر، بمجرد أن عمد "مجلس قيادة الثورة" إلى تنحية اللواء محمد نجيب، عن رئاسة المجلس، وكافة مناصبه، وكان نجيب قد استحوذ على حب جمهرة المصريين، لطيبته، وازداد هذا الحب، حين زعم المجلس بأن نجيب لم يكن في ثورة تموز (يوليو) أكثر من "زينات مملكات"! وأنهم أتوا به لمجرد استكمال الشكل، ليس إلا.

 

واندلعت "هبَّة مارس" في وجه الحكم، مطالبة بـ "عودة الجيش إلى ثكناته"، على أن تعود الحياة السياسية المصرية إلى طبيعتها، ومالت جماعة الإخوان إلى أولئك المطالبين، بعد أن كانت تؤكد انتماء أعضاء "المجلس" للإخوان!

فجأة، رضخ المجلس لمطالب الهبَّة، ورفع الرقابة عن الصحف، وسمح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها، بعد أن كان المجلس نفسه قد اتهم رؤساء هذه الأحزاب بالخيانة العظمى، في كانون الثاني/ يناير 1953، وحولهم إلى "محكمة الثورة"!

أعيد نجيب إلى مناصبه، وتم الإفراج عن قيادات الإخوان، دونا عن الشيوعيين، على أنه، قبيل هذا التراجع من المجلس، خرجنا ـ نحن تلاميذ المدرسة الابتدائية بالعريش ـ بمظاهرة، هتفت ضد الحكم العسكري القائم، فقمعتنا الشرطة، بحنان غريب عليها، ثم احتجزت بعضنا في غرفة التوقيف، بمركز الشرطة. وما كدنا ندخل إلى الغرفة، تحت ركلات رجال الشرطة، وشتائم المأمور لنا، حتى أتى المأمور نفسه إلى غرفتنا، وقد انقلبت لهجته 180 درجة، وقال، بصوت متهدج: "اتفضلوا يا أساتذة!" وفتح لنا باب غرفة التوقيف، فاستفسرنا منه على سر هذا الانقلاب في المعاملة، والإفراج عنا، بكل هذه السرعة، رد، من فوره: "خالد محي الدين عمل انقلاب، ورجَّع محمد نجيب". 

 

فجأة، رضخ المجلس لمطالب الهبَّة، ورفع الرقابة عن الصحف، وسمح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها، بعد أن كان المجلس نفسه قد اتهم رؤساء هذه الأحزاب بالخيانة العظمى، في كانون الثاني / يناير 1953، وحولهم إلى "محكمة الثورة"!

 



فخرجنا بمظاهرة أخرى، من مركز الشرطة، هاتفين: "عاش نجيب، ويحيا خالد"، وطفنا بشوارع المدينة. لكن فرحتنا لم تدم طويلا، إذ سرعان ما تنكر المجلس لقراراته، وانقض على معارضيه، مستثنيًا الإخوان.

في هذه الأثناء، حاول محمد الإفرنجي، من السنة الثالثة الثانوية، وهو من أبناء قطاع غزة، إعادتي إلى صفوف "الإخوان"، إلا انني كنت ازددت قربًا من "الوفد". وحدث أن أصدرت "محكمة الثورة" حكمها، الذي قضى بسجن أبناء "أبو الفتح" (حسين، ومحمود، وأحمد) بمدد طويلة، مع مصادرة جريدتهم اليومية "المصري"، الوفدية العريقة، وحين قرأتُ الخبر، في جريدة "الجمهورية"، أجهشتُ بالبكاء، على غياب تلك الجريدة الجريئة، من بين هذه الصحف القاهرية الأربع (الأهرام، الأخبار، الجمهورية، إضافة إلى المصري)، بينما استمرت الصحف الثلاث الأولى منح تأييدها، في الفاضية والمليانة، للمجلس إياه، فالأولى رسمية متحفِّظة، من النوع الذي كان يسير "جمب الحيطة"، قبل أن يترأس تحريرها محمد حسنين هيكل، وافدًا من "دار أخبار اليوم"، التي كانت أنشأتها "المخابرات المركزية الأمريكية"، العام 1944، في مصر، حيث لم يتم هذا الانتقال، إلا مع نهايات العام 1956؛ فانقلب هيكل بالأهرام، إلى التبرير لحكم يوليو! (أرجو مراجعة متابعتي لكتاب يحيى حسن عمر: كتابات هيكل بين الموضوعية والمصداقية، في هذا الموقع الإلكتروني).

شنَّ "المجلس" حملة اعتقالات واسعة، ضد الشيوعيين، والوفديين، وعاد رئيس شعبة "الإخوان" في العريش، إلى المدينة، واستقبلته مظاهرة ترحيب. وأقنع المجلس خالد محيي الدين، بضرورة خروجه إلي سويسرا، بعد أن كان تولى رئاسة الوزراء، لست ساعات متصلة! وعاد نجيب، شكليًا، إلى كل مناصبه، وإن حُرم من ممارسة أي منها!

كانت أسرتنا على موعد مع هذا التراجع، فعادت الأسرة أدراجها إلى غزة، في آب/ أغسطس 1954، والتحقتُ بمدرسة فلسطين الثانوية، في مدينة غزة، بينما افتتح والدي مطعمًا جديدًا، في الحي الذي أقامت أسرتنا فيه (الرمال)، بعد أن كان مطعمه السابق بوسط مدينة غزة. وفي هذه المدينة، انتظرتنا أحداث، دخلت التاريخ العربي، من أوسع أبوابه.

 

إقرأ أيضا: يافا الفلسطينية.. كانت مهدا للصحافة والثقافة قبل النكبة

 

إقرأ أيضا: "يافا" في ذاكرة لاجئ فلسطيني.. تاريخ لا يبلى

 

إقرأ أيضا: فلسطينيو يافا.. سياحة خاطفة فلجوء مديد

 

إقرأ أيضا: لهذا سقطت يافا.. وهُزّمت الجيوش العربية

 

إقرأ أيضا: قصة لاجئ من يافا.. أربع سنوات عجاف في غزة

التعليقات (0)