الجزائر.. العلمانية والتدين في قلب معركة الإغاثة ضد كورونا

كيف يمكن للأيديولوجيا أن تتستر خلف الفعل الخيري التضامني؟ سؤال أعيد طرحه فكريا وإن في زوايا ضيقة، في أثناء الهبة الشعبية والرسمية لمواجهة فيروس كوفيد 19 في عالمنا العربي، حيث لا شيء مجانيا على ما يبدو، ومع ذلك يُقرأ هذا التماهي الأيديولوجي ضمن الفعل الانساني التطوعي والخيري، من أجل إنقاذ حياة البشر أو مساعدتهم للصمود في وجه الجائحة، في الجانب الايجابي ضمن دائرة التنافس المشروع نحو "استباق الخيرات".

وإذا كان الفعل الإنساني الخير المجرد، لا يحتاج صاحبه أن يلبس قميصا ويضع له لحية، أو في غنى أن تكون صاحبته متبرجة أم متجلببة، إلا أن حسابات الربح والخسارة، التي تضمنها السياسة في العادة، لا يمكن إغفالها بين فلتات اللسان، تماما كما هي الحال ضمن دائرة التنافس الملاحظ بشكل أوضح، بين النظم القائمة، وبين المعارضات المختلفة في مجال استغلال الوباء سياسيا لكسب نقاط أكثر.

المهم هنا، أن "الاستثناء" النادر، في جمع الأضداد الأيديولوجية والفكرية قد حصل لإنجاز خدمة مشتركة، ولو بمنطلقات مختلفة، وهو ما يضمنه الإسلام في مجتمعاتنا عبر إيقاظ روح التكافل المجتمعي، بينما لا يتوفر في المجتمعات الغربية التي بحسب منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة في بيانه الأخير قد أكد كيف أن كورونا أدى إلى "انكشاف الخلل العظيم الملازم للنظام الرأسمالي السائد الذي يقوم على الفردانية الليبرالية وعلى الأنانية وهيمنة الأقوياء وتراكم المنفعة المادية وتركز الثروة في أيادٍ قليلة على حساب الإنسان والبيئة، دون مراعاة للقيم الإنسانية العليا؛ كالعدالة والتعاون والتضامن والكرامة الإنسانية".. 

في حين يتسابق الإنسان العربي بعفويته وسجيته، إلى الفعل الخيري "الجماعي" والإيثار، وقد شكلت الحالة الجزائرية المفعمة بهذه الروح، عنوانا بارزا لهذا المنحى التضامني المجتمعي الرائع، وإن كانت الصبغة الأيديولوجية لا تخطئها العين المجردة.

نزع الغطاء الأيديولوجي

تشكل الحروب والأوبئة والكوارث، حالات نادرة، يختفي فيها أو يقل الصراع الأيديولوجي الداخلي في الدول عامة، وقد شكل الاتجاه العام لموضوع التصدي لفيروس كورونا في الجزائر، حالة وطنية من التلاحم، وضع فيها الكثيرون قبعاتهم السياسية والفكرية جانبا، وتفرغوا لخدمة الوطن، فتشكلت جمعيات شعبية خلاقة، جلها خارج دائرة الجمعيات المعتمدة رسميا، تقدم المساعدات الطبية للمستشفيات، وتوزع الكمامات والألبسة الواقية، وبرزت الجمعيات الخيرية والكشافة ولجان الأحياء في إغاثة الأسر المعوزة وتوزيع المواد الغذائية وتعقيم المؤسسات والأماكن العامة، وإرسال القوافل الإغاثية للمناطق الأكثر تضررا بالوباء.

في الأثناء، حرص رجال الدولة من جانبهم، على تسجيل موقفهم الإنساني عبر التبرع براتب شهري لفائدة صندوق خاص بمواجهة فيروس كورونا.. دون أن يسلم هذا الفعل من هجوم بعض الوجوه الحراكية، التي رأت في العملية تزييفا للوضع "فبدلا من استرجاع الأموال المنهوبة كما وعدت السلطة، ذهبت تطلب الشحاتة وتطالب المواطنين بالتصدق". 

غير أن أهم معطى فرض نفسه في هذه الظروف الاستثنائية، هو حالة من النهوض العلمي والتكنولوجي غير المتوقعة، التي تصدرها مبدعون شباب حفزتهم الأزمة لتقديم منجزات واختراعات علمية، بعد أن تعطلت الآلة البيروقراطية للدولة، فكان أن شهدت البلاد انجازات مذهلة، بينها اختراع جهاز تنفسي مائة في المائة من طرف شركة جزائرية، وقد اعتمدته وزارة الصناعة والمناجم رسميا من أجل البدء في التصنيع وتوزيع الأجهزة مجانا على المستشفيات. وهو ما حفز عددا معتبرا من الشباب المبدع على اختراع أجهزة للتنفس الاصطناعي، بعضها يقوم على دمج الهواء الطبيعي والصناعي في نفس الوقت والتحكم عن بعد في الجهاز.

كما برز مبدعون من دون طاقية أيديولوجية، غير كونهم جزائريين يحبون وطنهم، وهنا تسابق هؤلاء في اختراع كمامات ذكية تشتغل بنظام الإنذار عن بعد، يكتشف من خلاله الطبيب أو الممرض درجة حرارة المصابين بالفيروس، ونظام للاستشارات الطبية عن بعد لكشف حالات الإصابة بفيروس "كورونا"، وتطبيق ذكي على الهاتف يقوم بربط الأطباء والكشف عن المصابين بالفيروس، علاوة عن اختراعات وابتكارات أخرى كثيرة، أنجزها مهندسون وطلبة جامعات لا يحملون أي لون أيديولوجي، كانوا بحاجة فقط إلى قليل من الدعم والتشجيع.

الإسلاميون في الصدارة

لكن في مقابل هذه الهبة المجتمعية "غير المؤدلجة"، وإن كانت في المجمل تحمل فكرا وطنيا خالصا، باعتباره التيار الغالب في البلاد، لوحظ أن نجم الإسلاميين في هذه الجائحة قد برز بشكل لا يمكن تجاهله، ليس فقط ضمن دائرة الأعمال الخيرية والإغاثية التي هي ملعبهم بالأصل، وقد أثبتوا ذلك ميدانيا في كوارث سابقة (فيضان باب الوادي 10 تشرين ثاني / نوفمبر 2001.. وزلزال بومرداس 21 أيار / مايو 2003 ).. إلخ، وإنما حتى في الجانب العلمي والتكنولوجي وعدد وحجم الاختراعات التي حملت توقيع هذا التيار، الذي يظهر بأسمائه وبأشكاله.

وبزرت الجمعيات الخيرية ذات الطابع الإسلامي في المجال التطوعي والإغاثي وعمليات توزيع المواد الغذائية على الأسر الفقيرة والنائية، أكثر من غيرها، تماما كما ظهر دور الأحزاب الإسلامية في مجال الجهود لمكافحة كورونا، أكثر قوة من دور الأحزاب العلمانية، والتي كادت أن تغيب عن الساحة بشكل كامل، على عكس ما كانت تقوم به هذه الأحزاب داخل الحراك الشعبي، أين كان صوتها مرتفعا للغاية، رغم محدودية تمثيلها.

في هذا السياق برز دور حركة البناء الوطني (إخوان)، كأول حزب بادر الى إعلان تبرع نوابه برواتبهم لمكافحة الوباء، كما خطفت حركة مجتمع السلم بقيادة الدكتور عبد الرزاق مقري الأضواء بشكل كامل، من بقية الأحزاب العلمانية، عبر اجتماعات يومية لقياداتها مع النواب وأمناء المكاتب الوطنية والولائية، والمنظمات الشبابية والطلابية، والإعلاميين والمختصين، بتقنية الاجتماع والتحاضر عن بعد (زووم)، بعد فرض الحجر الصحي، لدراسة قضية الوباء وتداعياته، وانتشاره في الولايات، وسبل مساهمة كوادر الحركة والطلبة في مكافحة الوباء، إضافة الى إسهامات جمعية الارشاد والاصلاح التابعة للحركة في عمليات تطوعية مختلفة، مثل تصنيع وتوزيع الكمامات، وهذا وفق برنامج شامل لمواجهة الوباء.

المثير أن أحزابا علمانية ذائعة الصيت، مثل جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، لم يظهر لها أي اثر في هذه الأزمة، حتى أن التحديثات الخاصة بمواقع هذه الأحزاب، توقفت مباشرة بعد توقف الحراك، بعد تفشي الفيروس كوفيد 19. الأمر الذي تساءل معه مراقبون أين اختفت الجمعيات الخيرية لهذا التيار؟ وأين اختفى المجتمع المدني الذي طالما ادعى أنه يمثله؟

وقد خطف المهندس محمد لطفي مخناش، بقميصه ولحيته السلفية، الأضواء من الجميع، بعد أن استقبله رئيس الجمهورية بهيئته تلك، وبعد أن طور نظاما للذكاء الصناعي للكشف المبكر عن سرطان الثدي وتحويله إلى وباء كورونا، ومن ثمة التبرع بالأرضية الرقمية لوزارة الصحة، الأمر الذي مكن السلطات من امتلاك خارطة واضحة ودقيقة للوباء، كما سهلت المنصة للمستشفيات الحصول على نتائج الفحوصات من معهد باستور مباشرة بعد خروجها.

كما برز أيضا المهندس ناصر شلو (بهيئته السلفية) مع فريقه المتميز بانجاز مميز للتعقيم بمواصفات عالمية عبر استعمال الخارطة الرقمية التي صممها وانجزها هو وفريقه.

ولم تكن ظاهرة تثمين أعمال وإبداعات الإسلاميين "السلفيين" بهيئتهم تلك مستساغة في الجزائر في ظل المنظومة السابقة للحكم، بل لقد كان مصير أي متميز في مجاله ملتزما في ثيابه ومظهره الإقصاء والتجاهل.

العمل الخيري ملعب الاسلاميين

ويعتقد الإعلامي نسيم لكحل مدير "بوابة الشروق" الالكترونية الجزائرية أنه من الطبيعي جدا أن يتصدر أبناء التيار الإسلامي في الجزائر العمل الخيري التطوعي في أزمة كورونا الحالية، لأن هذا هو ملعبهم وميدانهم الذي كان اختصاصهم حتى قبل فتح المجال للعمل السياسي قبل ثلاثة عقود، وتبرز "جمعية الإرشاد والإصلاح"، التي تأسست قبل التعددية السياسية في الجزائر كحالة متميزة ورائدة في العمل الخيري بالجزائر، مشيرا إلى أن هناك من يذهب إلى القول إن الإسلاميين فقدوا البوصلة وربما فقدوا حتى شعبيتهم وبريقهم وتأثيرهم في الشارع عندما تخلوا عن هذا الملعب التقليدي "الخيري"، وتوجهوا إلى الملعب السياسي الذي واجهوا فيه خصوما أكثر خبرة وتمرسا وتقلدا للمناصب السياسية..

ويشير نسيم لكحل في حديثه لـ "عربي21"، إلى أن العمل الخيري من الناحية الفكرية لدى الكثير من أبناء التيار الإسلامي مبني على قناعات دينية أكثر منها أهداف مادية، كما أن خلفيتهم الدينية والأخلاقية تجعلهم يحظون أكثر من غيرهم بثقة المحسنين الذين يعتبرون العصب الرئيسي في العملية الخيرية، ومع عودة الوازع التضامني للجزائريين في الآونة الأخيرة بمناسبة وباء كورونا، لم يجد الإسلاميون صعوبة كبيرة في العودة إلى ملعبهم الرئيسي الذي اشتهروا به، وهذه العودة لم تكن بالضرورة تحت أسماء تنظيمات جمعوية أو مدنية معروفة، بل يتم ذلك في أغلب الأحيان تحت مسميات وجمعيات خيرية جديدة نبتت من رحم التوجه الفكري والوازع الديني المعروف لدى غالبية الجزائريين..

وترى أستاذة علم الاجتماع الإعلامي شهرزاد لمجد، أن هناك محددات عديدة تحرك الدافع لدى الأفراد والجماعات للانخراط في العمل التطوعي والخيري بشكل عام سواء على مستوى الأطر التنظيمية الرسمية أو البنى العرفية أو على مستوى الأفراد، ولا يمكن بأي حال رد العمل التطوعي الخيري إلى وازع دون آخر، فهذا يرتبط بطبيعة القوى المهيكلة والمؤسسات الناظمة داخل كل مجتمع.

ومع ذلك تقر الأستاذة شهرزاد لمجد في تحليلها لـ "عربي21"، أن العامل الديني له دور مهم في التعبئة لصالح العمل الخيري لاعتبارات تتعلق بالقناعات الشخصية والإيمان بأهمية التقرب إلى الله بفعل الخيرات ونجدة الأشخاص وتجسيد المثل والقيم الجامعة التي تنص عليها الديانات عموما، وتحفز عليها الأفراد ليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم. كما أن الثقة في الخلفية الدينية تشكل حافزا مهما للالتفاف حول أي عملية ذات بعد خيري ومرامي إنسانية. وهذا ما نلاحظه على الأقل في المجتمع الجزائري خلال الأزمات المتتالية ومنها الأزمة الحالية كوفيد-19 التي استنهضت الكثير من القوى الاجتماعية، وكانت المرجعية الدينية حاضرة وتعبر عن نفسها بقوة في ميادين النضال المختلفة: التكنولوجية، والطبية، والتطوعية والتبرع ومجالات عديدة أخرى.

عملية الفرز غير ممكنة

في الاتجاه الآخر، يرفض الصحافي محمد رابح، مدير موقع "سبق برس" الجزائري، هذا الطرح "التمييزي" ، مشيرا إلى أنه لا يحبذ إضفاء صبغة سياسية أو إيديولوجية على العمل التطوعي والإنساني بصفة عامة، وقال: "أجزم أيضا أن توزيع تلك المساعدات أو المساهمات لا يخضع لطبيعة المتلقي في الجزائر، ويمكننا التنويه بجهود مجموعات أو حتى أفراد يبرزون في الأزمة ويمكن أن يكون لهم لون سياسي أو إيديولوجي، وفي الجزائر تحديدا فإن المنظمات والجمعيات والمجتمع المدني عموما ضعيفة في إمكانياتها وأيضا في تأثير أفرادها لاعتبارات تتعلق برغبة الحكومات المتعاقبة في تكسير الجهود الجماعية وسياسات الإقصاء، بالمقابل تطفوا عند كل الأزمات عواطف الشعب الجزائري وتوجهه للوحدة والتضامن المكتسبة من المحن سواء في حقبة الإستعمار أو ما تلاها من كوارث كانت بفعل الطبيعة أو البشر".

لذلك يقول محمد رابح لـ "عربي21": "إن التقييم لا يمكن أن يكون  على أساس هذا التقسيم بين الإسلامي والعلماني ما دام جهدا جماعيا التقى فيه أفراد من مشارب مختلفة، وفي غياب تنظيمات قوية تقود تلك الجهود لا يمكن إحداث فرز بين الأعلى والأقل".
 
ويخلص محمد رابح إلى أن سلوك الإنسان هو انعكاس لأفكاره ويمكن أن تحدد المرجعية الفكرية للأفراد حجم الجهود بكل تأكيد، كما أن البيئة الحاضنة تلعب دورها، لكن هناك حد أدنى تشترك فيه المجتمعات والأفراد بعيدا عن المرجعية في تقديم المساعدة والتطوع لتقديم العون للمحتاجين في الأزمات، حيث يمكننا أن نرى رأسماليا يقدم تبرعات مالية ونرى يساريا يتطوع في عمليات الإغاثة، وبينهم يتوزع المتدينون وغيرهم، وبالتالي فالفرز يحدث في التنظيمات والجماعات حسب أولياتها ومنهجها الفكري وأيضا موضوع نشاطها وأهدافها أيضا.

الخطاب العلماني "تشاؤمي"

بدوره، لا يحبذ البروفيسور بوحنية قوي أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة قاصدي مرباح ورقلة، هذه المقاربة الأيديولوجية، على أساس أن الهبة التضامنية والإغاثية لم تفرق بين علماني وإسلامي، باعتبار أن أكثر من ألف جمعية وطنية ساهمت في العمل الاغاثي والانساني.

أما من الناحية الفكرية، وعلى الرغم من أنه لم يظهر فرق كبير في الخطابين العلماني والإسلامي كون الجائحة قد مست الجميع، إلا أن الخطاب الديني للإسلاميين بالنسبة للبروفيسور بوحنية قوي، بقي محافظا على نزعته الرغائبية ومحاولة ربط الجائحة بالرضا والغضب الالهي وربط الانفراج بالعودة إلى الله أولا وأخيرا..  ما يعني أن المراجعة الفكرية مهمة جدا للخطاب الديني وفق منظور يعتمد على إدارة الأزمات ورؤية أعقلها وتوكل على الله، لأن القرن 21 هو قرن أزماتي بامتياز تختلط فيه الكوارث الاقتصادية بالسياسية والاجتماعية والبيئية.

إن ضرورة الاستعداد للمستقبل في رؤية البروفيسور بوحنية قوي هو جزء من التراث الديني لقراءة المستقبل فمن كان في يده فسيلة فليغرسها وهذا منهج مقاصدي يعتمد على حفظ الأرواح والأرزاق والنسل، لأن الجائحة تقضي على ما سبق إن لم تتواجد آلية فعالة لإعادة استنطاق التراث الديني  واستحداث مراجعة فكرية تتجاوز الخطاب المسجدي القديم، فكثير من الجماعات الإسلامية لا تؤمن بقراءة المستقبل وتعتبره جزء من دراسة الغيب والواقع غير ذلك، وهذا المنظور الأعرج جعلها تقع في فخ الأزمات وعدم القدرة على تفسير ومجابهة ما يحدث.

ويختم البروفيسور بوحنية قوي حديثه لـ "عربي21" بتوضيح أن التيار العلماني التزم بخطاب يقوم على توظيف معطيات الحجر الصحي، كما اعتمد شق آخر من زعماء هذا الخطاب على توظيف عجز السلطة تاريخيا وهشاشة النظام الصحي في الجزائر لتبرير النزعة التشاؤمية، بل إن بعضهم اعتبر أن الأزمة ستعمر طويلا ونادى بعضهم بإلغاء الصيام والعمرة في رمضان وتحويل الجامع الأعظم إلى مشفى كبير في سقطة إعلامية وسياسية غير مقبولة.