إذا كان الملحدون والعلمانيون هم أشد المستهزئين بالدين، فإن كثيرا ممن يطلقون على أنفسهم وصف "السلفيين" هم أول المتلاعبين به!
أذكر أنه في عام 1984، عندما قرر
الإخوان المسلمون خوض الانتخابات البرلمانية، لأول مرة بعد عودتهم إلى الحياة السياسية التي غيّبهم عنها عبد الناصر نحو عشرين سنة، ومن بعده السادات نحو 11 سنة أخرى، صدرت فتاوى من
بعض هؤلاء "السلفيين" بتحريم دخول البرلمان، وكانوا قلة يومذاك، حتى أنه كان بالإمكان عدَّهم عدّا!
كان على رأس الأسباب التي ساقها هؤلاء وقتئذ (في لغة متشنجة) لتحريم دخول البرلمان، أن البرلمان "جهة تشريع"، والتشريع (في الإسلام) لا يكون إلا لله وحده! وانتشرت حينذاك مذكرة بعنوان: "القول السديد في بيان أنّ دخول المجلس مُنافٍ للتوحيد"! منافٍ للتوحيد! هكذا "خبط لزق"، كما يقول
المصريون بلغتهم الدارجة، عن أي موقف مفاجئ ومُبتَسَر، لا يتم وفق الأعراف والأصول.
ولكن.. وبعد انتفاضة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، التي كنا نعتقد أنها ثورة، وأنها نجحت، أقدم الفريق الأكبر من هؤلاء "السلفيين" على خوض الانتخابات البرلمانية! رغم اعتقاد هذا الفريق، بأن
الديمقراطية "كُفر"! وقد تساءلتُ في حينه:
مَن الذي أكره هؤلاء على هذا "الكفر"؟!
ما الذي دفع هؤلاء إلى دخول ملعب "الكفار"؟! وما المقابل؟!
ما الضرورة "الشرعية" التي جعلت من الحرام حلالا، ومن المحظور مُباحا؟!
ما النازلة التي حوَّلت
الثابت إلى متغير؟! ونقلت البرلمان من خانة "منافاة التوحيد" إلى خانة "الضرورة التي تبيح المحظور"؟! فما هذه الضرورة؟!
ما الداعي لدخول "مسلمين صالحين" البرلمان، الضلع الثالث في منظومة "كفرية" اسمها الديمقراطية؟! رغم وجود من حَمَل هذا "الوزر" طيلة سنوات، وهم الإخوان المسلمون؟!
ولم أقرأ، ولم أسمع إجابة نصف منطقية، أو رُبع شافية عن أي من هذه الأسئلة، منذ ذلك الحين، وحتى الساعة!!
وكم تمنيت (وقتها) أن يجلس هؤلاء (وياخدوا راحتهم في النقاش والحوار) حول "شرعية" هذه الخطوة، فلا داعي لهذه العجلة التي أصابت كثيرين بالارتباك داخل "التيار السلفي" نفسه، قبل عامة الناس الذين باتوا يتساءلون:
عن هذا الحرام الذي أصبح حلالا فجأة، وبدون مقدمات!
عن إمكانية التحليل لأي حرام في أي وقت، ولأسباب غير مفهومة!
عن الضرورات التي تجعل من الحرام حلالا!
عن صيانة ضوابط الاجتهاد من العبث باسم الاجتهاد!
عن المجتهد الذي لا يقر بخطئه إذا أخطأ، ثم يصعّر خده للناس، ويمضي واثق الخطوة، وكأنه لم يقل شيئا يستحق المراجعة!
ودخل السلفيون البرلمان،
وزاحموا الإخوان المسلمين، وناكفوهم، بل وزايدوا عليهم! وكانوا حجر عثرة أمام دستور 2012 بدعوى أنه في مقدمته جملة تقول: "السيادة للشعب" بينما "السيادة لله"، كما زعموا وقتها! ولست أفهم ما وجه التعارض بين "سيادة الشعب" على قراره وشؤونه من جهة، وعبوديته لله من جهة أخرى!! بالإضافة إلى مناكفات أخرى، يضيق المجال عن سردها.
ثم تأكد فيما بعد، بما لا يدع مجالا للشك، أن هذا التيار "السلفي" كان رأس الحربة السعودية، في ظهر الانتفاضة المصرية، وما تمخض عنها من مؤسسات كان يمكن أن تصنع حالة نجاح في بلاد الربيع العربي، غير أن ذلك كان ممنوعا سعوديا، وخليجيا، وصهيونيا أيضا، وكشفت الأيام تباعا هذه الحقيقة التي لم يعد بإمكان أحد أن يُماري فيها.
وظهر جلال مُرّة، أمين
حزب النور، ممثل "
السلفية السعودية" في مصر، بلحيته الطويلة الكثة، بين آخرين، خلف الجنرال الذي حنث بيمينه، وهو يعلن انقلابه على إرادة الشعب والرئيس الشرعي المنتخب، في 3 تموز/ يوليو 2013، بعد أن اختطفه وأخفاه في مكان مجهول، تبيَّن فيما بعد أنه قاعدة عسكرية بالإسكندرية.
ثم شارك حزب النور (الذي اخترع للسلفية مشروعا سياسيا فجأة إبان
انتفاضة يناير) بحماس بالغ، في الحملة "الانتخابية" للجنرال المنقلب التي لم يكن لها أي داعٍ، بعد وأد
التجربة الديمقراطية الوليدة، وفي غياب منافس حقيقي! حتى أنه طبع منشورات تحمل صورة السيسي و"تُزكِّيه"، وطاف أعضاؤه بلحاهم وجلابيبهم يوزعونها على المارة في الشوراع، وهم يرسمون ابتسامات بلهاء على شفاههم، بلا أدني شعور بالخجل!!
أما "سلفيو السعودية"، وهم الأصل، فقد تشجعوا وأباحوا (بعد نجاح أتباعهم في مصر) كل ما كان حراما (في دينهم) طيلة عقود، حتى لم يعد هناك مِن حرام، سوى التعرض لولي الأمر الذي كفلت له "فتوى شرعية" الحق في الزنا وشرب الخمر علنا،
وفي بث مباشر على الهواء، لمدة نصف ساعة يوميا!!
فالاختلاط بين الجنسين في حفلات راقصة، وتبرج المرأة وظهورها بملابس فاضحة على الملأ، والغناء الفاحش، والخمر "الحلال"، ولعب الورق والنرد، والمصارعة الحرة التي لا تُستر فيها العورات، كل ذلك أصبح "مباحا"، بفتاوى "شرعية جديدة"، بل وبمشاركة عدد من الرموز "
السلفية" ترويجا وتشجيعا لهذه "الأنشطة الترفيهية" التي كانت (قبل بضع سنين) حراما حُرمة "قطعية"!
إن هذا التلاعب بالدين، يقود حتما إلى
ردة فعل في اتجاهين متناقضين تماما؛ الإلحاد والتشدد حد التكفير! ما يعني أننا على موعد مع فِتَنٍ لا عاصم منها إلا الله.