من بين جميع بلاد الكرة الأرضية مجتمعة، لم تنكر دولة واحدة كوارثها الكبرى وأوبئتها القاتلة مثلما فعلت
مصر.
لقد سادت حالة من
التعتيم الشديد منذ بداية الانقلاب العسكري الغاشم في البلاد بقيادة عبد الفتاح السيسي، ليشكل منظومة إعلامية تتلقى تعليماتها عبر هاتف سامسونج، ببرامجها التليفزيونية والإذاعية وصحفها الورقية.
أعلنت تلك المنظومة من قبل أن مصر خالية من أي معتقل سياسي، رغم آلاف المعتقلين بغير محاكمات أو عرض على النيابة العامة، وتكتظ بهم السجون بما لا يسمح لنومهم جميعا في وقت واحد. وأعلنت تلك المنظومة مرارا كما أعلن قائد الانقلاب، أنه لا يوجد مطاردات أمنية للمخالفين في الرأي والكتاب المعارضين، بينما حالات الهروب من البلاد لهؤلاء بالمئات، بل تقترب من عدة آلاف؟ وأعلنت كذلك عن عدم وجود معتقلين من الصحفيين، وما زالت أسماء لامعة مثل مراسل الجزيرة محمود حسين معتقلين منذ سنوات بلا جريرة وبلا محاكمة وبلا نيابة، في ظل تعرضه لأسوأ معاملة أدت في إحدى المرات لكسر ذراعه، هو ومن معه من الصحفيين. ثم هذا النظام يمارس جريمة الإخفاء القسري للمئات دون محاسبة، فلم يعد يدري أهل المعقتل أحي هو أو ميت.. تلك الجريمة التي نبذها العالم.
اختفت الشفافية مع قدوم النظام الجديد الذي يتخذ الحديد والنار والملاحقة منهجا في الحكم، لتعود البلاد بعد أعظم ثورة في تاريخها عشرات السنوات إلى الخلف، وكأن ثورة لم تقم، وكأن دماء لم تسقط، وكأن رئيسا لم ينتخب أو كأنه لم يقتل في محبسه هو وابنه الذي لم يكف عن المطالبة بتحقيق دولي في مقتله، ليلحق بأبيه بنفس الغموض، وبلا أدنى رد فعل على مستوى المعارضة في الخارج أو في الداخل، وكأن البلاد في حالة موات شعبي، أو تواطؤ واتفاق غير معلن بين طرفي الصراع السياسي فيها.
لقد وصلت مصر لمحطة خطيرة من
الفساد الإداري والسياسي والمجتمعي الناجم عن عدم الشفافية في مواجهة الكوارث التي تهب على البلاد تباعا. إن الوضع في مصر لا يمثل خطورة عليها وحدها، وإنما أصبح يمثل خطورة على دول الجوار جميعها، بل ودول العالم، لسرعة انتشار الأوبئة، بعدما لم يعد هناك بلد بمنأى عما يحدث في أبعد الأقطار عنه.
التلاعب في ملف النيل والتصحر يهدد مصر
بدأت مشكلة بناء السدود على مجرى النيل منذ عشرات السنوات، فهي ليست وليدة اليوم، لكن تصدي الأنظمة لها، بداية من عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وما قبله حتى في عهود الاستعمار، وقف وبقوة أمام أي محاولة لبناء أي سد على منابع النيل الأزرق الذي يعد المصدر الرئيسي لنهر النيل في مصر.
لكن النظام العسكري الجديد تعامل مع تلك الإشكالية الحرجة والمصيرية بنوع من السفاهة التي قوبلت بالسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها، ولاقت استياء كبيرا في أوساط الشعب المصري، حيث لم تعرض أية نتائج لأية محادثات تمت على الأراضي الإثيوبية، ليقف الرئيس مداعبا طرفي التفاوض الإثيوبي والسوداني، ومصرّا على تزييف الحقائق وإخفائها عن الشعب الذي يتوقف مصيره على وجود المياه، حيث إن مصر تعتمد اعتمادا كليا على الزراعة، وليس لها مصادر مياه أخرى معتبرة غير مياه النيل، فيصدر الزيف حين يؤكد في نفس الاجتماع في رسالة للشعب قائلا: اطمئنوا، فلن تضرّ أي من الدول الثلاث، وكأنه متحدث رسمي عنها وليس عن مصر التي ذهب مختارا للعبث بأخطر ملفاتها، ليختمها بهزلية تلاوة القسم على رئيس الوزراء الإثيوبي على عدم المساس بأمن مصر المائي.
وتظهر المرحلة التالية خطورة ما وقع عليه، الذي لم ينكشف كله للشعب بعد، غير أن النتائج المزرية للاجتماع الأخير في واشنطن، الذي وجه صفعة على وجه تاريخ مصر وشعبها، علاوة على التظاهرات التي انتشرت في إثيوبيا للاستئثار بمياه النيل، يدل دلالة كاملة على حجم ما قام النظام العسكري بالتوقيع عليه، وهو يدخل في نطاق الخيانة العظمى للبلاد.
فما هو المقابل الذي حصل عليه النظام ليتنازل عن مستقبل مصر القريب، وليهدد في غضون عام ونصف على الأكثر بنضوب كمية المياه المخزنة خلف السد العالي، ولينتهي توليد الكهرباء منه تماما؟
وتبرز مشكلة أكثر خطورة من فقدان الأرض الزراعية، وهي مشكلة الحصول على مياه الشرب، حيث انخفاض مياه النيل لمستوى أقل من محطات التنقية يهدد بوصولها للاستعمال الآدمي ملوثة وحمضية. فكيف ستواجه البلاد تلك الإشكالية وقد صارت أجيال مهددة بالانقراض الحتمي، خاصة مع ظهور فيروس
كورونا الذي يهدد البشرية اليوم؟
كورونا والموقف الغامض للنظام المصري
وفي خضم الاهتمام العالمي البالغ بانتشار فيروس كورونا، وتحذير منظمة الصحة العالمية من انتشاره ليصل لدرجة "الخطر الكبير"، وفي ظل قيام الدول كافة باتخاذ إجراءات صارمة ومشددة لحصار الفيروس والتقليل من حدة انتشاره السريع والمخيف، فتم إيقاف الدراسة في المدارس العامة في دول عربية وأجنبية، وتم وقف مناسك العمرة والسياحة بشكل مؤقت، رغم اعتماد المملكة السعودية على أموالها بشكل كبير، ويتم اتخاذ إجراءات كويتية وقطرية بعدم استقبال مصريين قادمين من بلادهم.. بعد كل ذلك يأتي التعتيم والإنكار غير المبرر لوجود الفيروس في مصر، رغم اكتشاف حالات ليست قليلة بين العائدين منها إلى دول عدة.
وأخيرا، اعترفت وزيرة الصحة المصرية على استحياء ببعض الحالات، بعد أن فضحت دول خارجية أرقاما محددة مصابة بالفيروس وعائدة من مصر، وذلك في الوقت ذاته الذي لا تطبق فيه إجراءات الحجر الصحي والكشف في المطارات المصرية. فقط توجد مجموعات صحية للتصوير واتخاذ اللقطة ليس أكثر.
وتتوارد الأنباء من الإسكندرية والمنوفية وكفر الشيخ والدقهلية ودمياط والقاهرة والجيزة بوجود حالات إيجابية كذلك، وما زال النظام يصر على إخفاء الحقائق، ليثير شكوك الدول المجاورة، فتضطر لإلغاء تأشيراتها للمصريين حتى تتضح الحقيقة بشفافية.
وهنا يطرح التساؤل نفسه: ما المقابل لإصرار النظام على إخفاء الحقيقة عن الشعب والعالم الذي صار قرية واحدة؟ هل الخوف مثلا من انهيار البورصة المصرية واقتصاد العسكر، وقد صار أهم من حياة المصريين أنفسهم؟ هل الأمر يتعلق بالتقليل من عدد السكان كما يتوقع الكثيرون على شبكات الإنترنت؟ هل تضمن الحكومة أن تتحكم بالأمر لدرجة أن تتحكم في عدد المصابين والتخلص من الزيادة التي يريدون؟ ويبرز في هذا الخضم السؤال الأكثر خطورة وهو: هل أتى النظام ليحكم حقا؟ أم أنه أتى ليتركها خرابه كما تنم عن ذلك ممارساته كافة؟
أين المعارضة المصرية في ظل تلك الانتهاكات؟
من الغريب أن يتم ترويض المعارضة المصرية في الخارج بهذا اليسر وتلك السلاسة، في الوقت الذي يتغول فيه النظام، فتسري عملية التعتيم من الدولة للمعارضة التي كانت تسمى قبلا "مؤيدي الشرعية"، وتحول المسمى الذي كانوا يستنكرونه قبلا إلى معارضة. ومن العجيب ألا تكون معارضة محترمة كأي معارضة في دولة. هي مواقف مريبة تحتاج لأجوبة بشفافية نفتقدها في مصر منذ خمسة أعوام تحديدا.
ويتحول الإعلام المعارض في الخارج كذلك لإعلام مستأنس، فيقدم البرامج الاجتماعية والترفيهية وكأن الأمر قد استتب على ما هو عليه، أو على أقل تقدير يراد له أن يستتب على ما هو عليه، وصار هذا الإعلام مجرد مصدر لأكل العيش. فأين الحقوقيون مما يدور في البلاد؟ أين السياسيون والخطباء من الشباب الذين يتخطون المليون؛ في هجرة بلا أمل بعودة في ظل الظروف القائمة؟ من يقودهم؟ من يسكت على عدم تحريكهم؟ مَن مِن مصلحته أن يستمر الانقلاب لينفذ بقية مخططه الذي أتى من أجله؟
اليوم يقف الشعب في مواجهة مصيره المحتوم منفردا، يواجه ملفات وجودية تتهدده، وأصبح لزاما عليه أن يبحث عن الحل ويتحرك منفردا، فيفرز قيادته الميدانية منه دون انتظار الخارج أو أي كيان كان يعتمد عليه مسبقا. فالكارثة أكبر من أي كيان أو حزب أو أفراد، ولن يهتم العالم بدولة اسمها مصر يموت أهلها عمدا كل يوم وينتظرون المزيد، إذا لم يتحركوا ليس للمطالبة بحقوقهم، فالمغتصب لا يُطلب منه، وإنما لفرض إرادتهم.
لم تعد أمامنا خيارات عديدة، وإنما هي فرصة واحدة إما أن نستثمرها للخلاص الكلي من تلك المهزلة والعبث التاريخي وأن نتخلص من ذلك الحكم الجائر، أو أن ننتهي ونطوى في التاريخ؛ يلحقنا عار الصمت والخنوع والخضوع لمستبد يحرص على القتل الجماعي لشعبه، في ظل مباركة دولية لن تتغير إلا بإرادة شعبية تجبر العالم على الخضوع لها.