(1)
السيد الرئيس/
صار مفهوماً من سياق هذه الرسائل أنك مجرد قناع للسلطة المغضوب عليها، وصار مفهوماً أن الكتابة لا تستهدف إقناعك، ولا تتوهم إصلاحك، ولا تنتظر ردك، لذلك فإن هذه الرسائل لاتقدم كلماتها كمواعظ تعليمية غير مباشرة، على غرار نصوص البنجاتانتنرا التي كتبها الحكيم بيدبا للملك دبشليم، ولا تقدم صاحبها كمقاول لتجسير الفجوة بين المثقف والأمير على غرار مشروع سعد الدين إبراهيم (ميكافيللي العصر الفاشل)، ولا تكتفي بصياغة وحدود الشهادة، فأنا لست شاهداً بل طرفا في صراع مع لصوص وقتلة وخارجين عن القانون. ولهذا فإن الرسائل تستهدف انتزاع مساحة في التدوين الرسمي لصوت المجني عليهم في مواجهة صوت وسوط الجناة. هذه الرسائل تستهدف بلورة رؤية جديدة للصراع مع السلطة لا تهتم باستبدال الأشخاص وجلوس غيرهم بنفس المفاهيم على كراسي الحكم، بل تهتم بصياغة خطاب جديد ينظم رؤية الناس للصراع على أساس حقهم الأصيل في حياة حرة عادلة كريمة، وليس باعتبارهم رعية تنتظر المنحة والمكرمة من أسيادها المتحكمين، لكي تتطور العلاقة الملعونة التي ورثناها لتصبح علاقة قانونية مؤقتة بين "أصحاب حق وموظفين عموم)" وليست علاقة إذعان بين "حاكم ومحكوم".
(2)
التمهيد السابق يعني أن الخطاب يشمل كل رئيس وكل متحكم يمس حياتنا كأفراد، كما يشمل كل فكرة وكل تشريع وكل ذريعة يستخدمها المتحكمون لإفساد حياتنا. ومن هذا المدخل لا فرق عندي بينك، وبين ترامب وبين أردوغان، وبين صاحب المسكن الذي أقيم فيه ورئيس التحرير الذي أكتب في صحيفته وسائق التاكسي الذي أركب معه. كل هذه العلاقات تقوم على قواعد، والهدف منها هو تسهيل حياة الناس وجعلها أفضل. وهذا يعني أن التاريخ والقداسة والانطباعات الشخصية والمعجزات والمهارات التي يتفاخر بها القادة لا مكان لها إذا تعارضت مع المهمة البسيطة التي هي حياتنا نفسها، إذ لا يمهني تاريخ وديانة وعظمة سائق التاكسي، بقدر ما يهمني قيامه بعمله بالمعايير المتعارف عليها، وانتهاء مهمته بانتهاء "التوصيلة". فليس من المقبول أن يفرض سائق التاكسي نفسه على حياتي لمجرد استخدامه في عمل مؤقت، فيجعل من نفسه فردا من العائلة ووصيا ووريثاً!!
(3)
السيد الرئيس/
لا شك أنك تتابع حالة التصعيد العسكري بين أمريكا وإيران، ولا شك أنك تتابع حملات التسخين الإعلامي والسياسي ضد
تركيا، ولا شك أنك تهتم بمعرفة الموقف الأمريكي في الملف الليبي الشائك وتتحرك بعد التشاور مع الحلفاء الإقليميين قبل أن تغذي حفتر بالمهام المطلوبة.
أنا كمتابع شعبي أتفهم كل هذه التصرفات في السياسة والصراعات العسكرية. صحيح أنني تربيت على كراهية الأحلاف، لكنني دافعت كثيرا عن تدخل الرئيس في حرب اليمن، وبررت هذه السياسات بضرورات الوعي بالحدود الواسعة للأمن القومي، وحلمت بنواة مركزية عربية تواجه المد الاستعماري وفيروسات الرجعية الكامنة في المنطقة.
الآن صرت في مرحلة سيولة بين هزيمة المشروع المقاوم ومهانة الهيمنة التوسعية بكل أشكالها الدولية والإقليمية.. الآن أحترم الحدود الشخصية والدولية أكثر وأركز على الذات أكثر من العالم، ربما لذلك لا أحترم دوافع ترامب لتصفية سليماني بهذه الطريقة "البلطجية" السافرة الخارجة عن قوانين الصراع، وربما لذلك أيضا لم أعد أصدق الخطب العنترية من نوع تصريحات روحاني ومبالغاته في ردع أمريكا وقطع أرجلها، فقد سمعتها من جيفارا وعبد الناصر وابن لادن وحسن نصر الله، والمبشرين بما لا يملكون. وحزنت عليها لأنني صدقتها، ثم لم أشاهد بعدها خيراً للبلاد. فقد كانت بشائر أمل عظيم أفضت إلى حال محزن وأليم، لذلك فإن شيئا في عقلي يتخوف من هذه البلاغيات غير الواقعية، لكن شيئا في صدري يتمنى لو صدق روحاني في تأديب ترامب.
وبرغم مرارة الهزيمة التي أشعر بها في هذه المرحلة، أحاول أن أتفهم الدوافع والرسائل، وأتأمل الإشارات الرمزية العميقة عن أرقام من تاريخ الصراع، مثل "52" الذي يؤلم ذاكرة أمريكا بعد حصار سفارتها في طهران نهاية السبعينيات، و"290" الخاص بإسقاط الصواريخ الأمريكية الغبية طائرة ركاب مدنية إيرانية بكل ركابها.
وربما أتفهم رغبة أردوغان في مد يده إلى غاز المتوسط، فالكعكة الإقليمية صارت في متناول الذباب الغربي والإسرائيلي، والطريق إلى المغارة الأفريقية يغري بالبحث عن فرصة عمل، لكنني وبكل وضوح لا أحترم ترامب وسياسات الغطرسة التي عرت وجه وعورات أمريكا بأكثر ما يحتمل الأحرار في العالم، ولا أصدق طنطنات روحاني وحرسه الثوري التي تستهدف الخلخلة الإقليمية أكثر مما تستهدف مواجهة إسرائيل والنفوذ الغربي، ولا أتفق مع تدخلات أردوغان غير المدروسة، ولا أتقبل مبدأ التدخل العسكري في دول أخرى بغير مشاورات وترتيبات مباشرة مع دول الجوار، وبالتالي فإن التحرك التركي إلى حدود
مصر غير مقبول إذا لم يسبقه تفاهم دبلوماسي وعسكري بين الطرفين.
هنا يبرز السؤال أيها الرؤساء:
كل هذا العك لصالح من؟
(4)
تبدو كلمة "العك" غير بروتوكولية، وقد عاتبتني عليها أيها الرئيس عندما استخدمتها في وصف سياساتك، لكنني لا أجد لفظة تعبر عن الحال الذي وصلنا إليه أكثر أدباً من ذلك، ويمكن تلخيص حالنا في هذا الوصف المبسط:
قال الرئيس: هيا نحارب إسرائيل ونحرر فلسطين، تنازع الرئيس مع الرئيس، تصالح الرئيس مع إسرائيل، تحول نزاع الرئيس مع الرئيس من السر إلى العلن، ضرب الرئيس إيران، خدعه من أخرجه، انتقم الرئيس بغزو الكويت، وقف الرئيس ضد الرئيس، دعا الرئيس أمريكا لتحرير الكويت فضاع العراق وعبرت إيران الحدود، سقط الرئيس في تونس فاستضافه الرئيس وفكر أن يسقط رئيسا آخر، فضاعت سوريا وعبرت إيران الحدود، ومنها إلى ليبيا واليمن والسودان، حيث يسقط رئيس ويعلو رئيس، وفي المجمل تكبر إسرائيل وتتوسع إيران وتتدخل تركيا وتتوحش أمريكا، ويدفع الرؤساء من أقواتنا قيمة ما تأكله النار في بيوتنا، فماذا يمكننا أن نسمي هذا الحال؟
(5)
السيد الرئيس/
بما أنكم جميعا ضدنا، فلتفعلوا ذلك بالأسلوب الأفضل.. اتفقوا معاً ضدنا، تفاهموا، نسقوا فيما بينكم، تعاونوا على الإثم لكي تربحوا من دمنا وترثوا بيوتنا وتستعبدوا أولادنا.. تصالحوا يا سيادة الرئيس، لا أستطيع أن أفهم أسباب صراعاتكم أو أتقبل تكلفة النزاع فيما بينكم. فنحن الذين ندفع أجرة ندابات الإعلام وتكلفة السلاح الذي تستخدمونه فيما بينكم، بينما أنتم تابعون أذلاء للغرب.. أنتم "بتوع أمريكا وإسرائيل" بشكل علني يا سيادة إسرائيل، فاتفقوا على قتلنا تربحوا أكثر.
سأكون أكثر فهما إذا صعدت على مشنقتي ورأيتكم تجلسون باسمين معاً على منصة واحدة: مصر إلى جوار السعودية وقطر وتونس وتركيا والسودان وإيران والجزائر وإثيوبيا، ولا تنسوا بشار الأسد وصدام حسين والملك حسين أيضاً، ولا تخجلوا من علاقتكم بأمريكا فلا حرج على ملك اليمين، ولا تقلقوا من أسرار علاقتكم الشاذة مع إسرائيل فالأمم المتححدة تشجع مجتمع الميم.. فقط التقوا، نسقوا، تشاوروا، تدربوا على التنسيق وابدأوا في بناء جسور الثقة، لكن لا تكونوا تابعين وخائنين وغوغاء وأغبياء ثم قتلة أيضاً.. نريدكم قتلة أذكياء كالأمريكان، أو سفاحين ديمقراطيين كالصهاينة، لكننا لم نعد نحتمل أن نعيش ضحايا لأفراد بهذه الضحالة والعمالة والجهل والغشم والتفكك.
(6)
السيد الرئيس/
أرجو أن تصلك رسالتي وأنت في أسوأ حال، والأوطان وناسها في أفضل حال.
والرسائل مستمرة..
[email protected]