ما تزال مساهمة القطاع الصناعي
المصري في الناتج المحلي الإجمالي هزيلة ولا تتجاوز 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة التي لا تضع مصر في مسار التنمية الحقيقة، ولا تستوعب أعداد العمالة الوافدة إلى سوق العمل سنويا. ويعزو الكثيرون ضآلة هذه المساهمة إلى الأعداد المتزايدة من المشروعات الصناعية المتعثرة خلال الفترة الماضية، وتجاهل الدولة لمساعدتها للعودة إلى الحقل الإنتاجي، من خلال دراسات جادة ومستفيضة لأسباب هذا التعثر، ومبادرات تواجه المشاكل التي أدت إلى تعثرها.
وطيلة السبع سنوات الماضية، تضاربت الأرقام حول إعداد المصانع المتعثرة في مصر منذ كانون الثاني/ يناير 2011، حيث أعلنت دار الخدمات النقابية أن المصانع التي تم إغلاقها منذ ثورة 25 يناير حتى يناير 2015، بلغ 4500 مصنع في 74 منطقة صناعية، بينما أصدر اتحاد نقابات عمال مصر تقريرا أشار فيه إلى أن عدد المصانع بلغ 8222 مصنعا، في حين أشارت دراسة أعدها اتحاد المستثمرين إلى وجود 1500 مصنع متعثر حتى 2013، قرابة 40 في المئة منها في قطاع الغزل والنسيج والملابس الجاهزة.
أما اتحاد الصناعات، فقد أشار إلى أنه طبقا لآخر بيانات لدى الاتحاد حصل عليها من جمعيات المستثمرين ومجالس الأمناء في المدن الصناعية بالمحافظات، فإن عدد المصانع المتعثرة وصل إلى قرابة 7000 مصنع كان يعمل بها قرابة مليوني عامل.
ومؤخرا أطلق البنك المركزي المصري مبادرة جديدة لدعم القطاع الصناعي، التي رصد فيها نحو 100 مليار جنيه بعائد سنوي متناقص يبلغ 10 في المئة، توجه للمصانع ذات المبيعات أو الإيرادات السنوية التي تتراوح بين 50 مليون جنيه وحتى مليار جنيه. كما أعلن المركزي عن مبادرة أخرى تستهدف إسقاط فوائد متراكمة بنحو 31 مليار جنيه عن 5148 مصنعا متعثرا، مشيرا إلى قيام المركزي بمراجعة ملفات هذه المصانع منذ ستة أشهر، على أن يتم إزالتها من القوائم السلبية وإلغاء النزاعات القضائية مع البنوك في حالة سداد 50 في المئة من أصل الدين، الذي يبلغ نحو ستة مليارات جنيه.
وبذلك، فقد ظهر أخيرا رقم رسمي للمصانع المتعثرة في مصر، وأنها 5184 مصنعا، وقبل مبادرة البنك المركزي تباهت وزارة
الصناعة في نهاية عام 2018 بتشغيل 66 مصنعا متوقفا، وإنشاء صندوق بقيمة 150 مليون جنيه لإنعاش 74 مصنعا آخر. وفي الحقيقة فإن تجاهل تلك المصانع يستعصي على الفهم، ولا يوجد مبرر يمكنه تسويغ ذلك، وكذلك يصعب على الفهم الاهتمام ببناء مدن صناعية جديدة والإنفاق على ترفيقها والاحتفاء بها، في ظل عطالة الموجود بالفعل.
عموما، جاءت مبادرتا البنك المركزي لتشكل بداية اهتمام الدولة بالقطاع الصناعي بصفة عامة وبالمشروعات المتعثرة على وجه الخصوص. ورغم أهمية المبادرتين، إلا أنه يجب التوقف عند مجموعة من النقاط التي يمكن أن تحد من جدوى وانتشار فاعليتهما، ومنها على سبيل المثال محدودية إجمالي حجم
التمويل المتاح من المبادرة الأولى بقيمة 100 مليار جنيه، يتم توجيهها لتمويل السلع
الاستثمارية ورأس المال العامل للشركات، وكذا تمويل الآلات أو المعدات أو خطوط الإنتاج (تمويلات رأسمالية) بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية، وذلك وفقا للدراسة الائتمانية المعدة لكل عميل من قبل البنك.
ويشترط المركزي ألا يتم استخدام المبالغ الممنوحة في إطار تلك المبادرة في سداد تسهيلات ائتمانية قائمة على العميل، وتأكيد استخدامها في الغرض الممنوح من أجله. كما حدد المركزي المصانع المستفيدة بكونها التي تحقق مبيعات من 50 مليونا وحتى مليار جنيه سنويا، ويقدم لها التمويل بسعر فائدة متناقصة 10 في المئة.
من المتوقع (طبقا للمركزي) استفادة 96 ألف منشأة من المبادرة، على أن الأولوية للصناعات البديلة للواردات أو التصديرية، وذلك يعني أن كل مصنع مخصص له مليون جنيه واحد (63 ألف دولار تقريبا)، مع اشتراط مبيعات لا تقل عن 50 مليون سنويا. فهل يعقل أن يتوقف مصنع يبيع بخمسين مليونا على مليون أو اثنين، وما هو التطور المتوقع من عائد لهذا المبلغ الهزيل.
فطبقا للمركزي، فإنه سيتم توجيه هذه المبادرة إلى منح تسهيلات ائتمانية لتمويل رأس المال العامل، وكذا تمويل الآلات أو المعدات أو خطوط الإنتاج (تمويلات رأسمالية) بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية، وذلك وفقا للدراسة الائتمانية المعدة لكل عميل من قبل البنك، وألا يتم استخدام المبالغ الممنوحة في إطار تلك المبادرة في سداد تسهيلات ائتمانية قائمة على العميل، وتأكيد استخدامها في الغرض الممنوح من أجله. ويمكن القول ببساطة إن المبلغ المخصص لكل مصنع لا يكفي لاستيراد آلة واحدة، ومن المؤكد أن المركزي أخطأ في هذه الأرقام.
وتشير الفقرة السابقة كذلك إلى غياب المتعثرين ماليا عن الاستفادة من المبادرة، ويغلب الظن أن التعثر المالي كان السبب الأهم في توقف تلك المصانع، وهو ما عالجته المبادرة الثانية التي تستهدف إسقاط فوائد متراكمة بنحو 31 مليار جنيه عن 5148 مصنعا متعثرا، والتي أشار المركزي إلى قيامه بمراجعة ملفات هذه المصانع منذ ستة أشهر، على أن يتم إزالتها من القوائم السلبية وإلغاء النزاعات القضائية مع البنوك في حالة سداد 50 في المئة من أصل الدين، الذي يبلغ نحو ستة مليارات جنيه.
ورغم ان هذا التوجه جيد، إلا أن الفصل ما بين المبادرتين يعني استمرارية توقف العجلة الإنتاجية في تلك المصانع المتعثرة، وأن الأمر لن يعدو تصالحا مع البنوك المدينة، خاصة مع انعدام القدرة على الاستفادة من المبادرة الأولى، ولذلك يعد الربط بين المبادرتين أمرا واجبا في هذا الاتجاه.
إذا، يمكن القول بضعف المبادرتين الموجهتين من المركزي لإنعاش القطاع الصناعي المصري، وأن ثمارهما ستكون شديدة المحدودية والأثر على القطاع، وأن تنبؤات المركزي بأن المبادرة سترفع مساهمة الصناعة في نمو الناتج المحلي من 16.5 في المئة حاليا لنحو 24.5 في المئة في حالة ضخ القيمة بالكامل، وسيزيد نمو القطاع الصناعي السنوي بنحو 5.2 في المئة. كلها توقعات تحتاج إلى أرقام أكبر كثيرا من التي حددتها المبادرتين. ولا عجب أن نسمع هذا الكلام من كبار رجال الصناعة المصريين والمحسوبين على النظام، بل ومن رئيس لجنة الصناعة في مجلس النواب.
دعوة واجبة إلى البنك المركزي بإعادة النظر في المبادرتين، وزيادة مخصصاتهما، وتقديم الدعم لإعادة تدوير النشاط في المصانع المتعثرة وليس لسداد مديونياتهم للبنوك فقط، وكذلك إلى وضع الضمانات الواجبة لعدم تسرب أموال تلك المبادرات المدعومة (التي ستتحمل الموازنة العامة فروق أسعار الفائدة بها) إلى غير المستحقين، مثلما حدث في مبادرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تسرب منها أكثر من 150 مليار جنيه إلى غير المستحقين، واكتفى المركزي بعقوبات واهية على البنوك التي ساهمت في الجريمة، ولم تمتد يد المساءلة إلى ناهبي المال العام حتى الآن، فهل يستمع البنك المركزي؟