هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بدأت الخرطوم هذا الأسبوع على غير عادتها، فالأجواء السياسية الانتقالية المتوترة والاحتقان الناتج عن صراع الثوار وأنصار الرئيس المعزول عمر البشير، يتفرغ في أنحاء أخرى بالقرب من شاطئ النيل عندما يقترن النيل الأبيض مع النيل الأزرق في حديقة نباتية شاسعة تضم هذه الأيام أضخم معرض للزهور في السودان.
أعيتهم الصراعات السياسية
يشهد هذا المكان إقبالا غير معتاد، فالسودانيون الذين أعيتهم الصراعات السياسية والخصومات الفكرية يتجولون منذ أكثر من أسبوعين وسط الزهور ويتنسمون عبق الرياحين ويشاركون في الفنون الفلكلورية، ويحضرون الندوات التنموية البعيدة عن المماحكات السياسية وخلافات الأحزاب.
ينتظم المعرض سنويا في مثل هذا التوقيت من قبل جمعية فلاحة البساتين السودانية، ويضم الزهور والورود والشتول، ويهدف إلى تعزيز ثقافة زراعة الزهور والاهتمام بالبيئة، وتتخلله فعاليات ثقافية وفكرية مثل المنتديات الشعرية والحفلات الغنائية والندوات المتخصصة في التنمية البشرية، ولوحظ المشاركة الواسعة للفنون الفلكلورية والنحت وضروب الإبداع الأخرى.
ويشارك في المعرض أصحاب المشاتل والشركات الزراعية، ومنتجو الزهور ونباتات الزينة، وهواة تنسيق الزهور، وتضمن المعرض هذه السنة حوالي 475 نوعا نباتيا. ويقول الزوار إن المعرض في تنوعه النباتي يعكس تنوع المجتمع السوداني أيضا واتجاهاته الفكرية والثقافية الناتجة في الأساس من بيئة جغرافية مختلفة.
وعلى الرغم من أن المعرض يسمح بمحال واسع للتنافس بين المنتجين الزراعيين، إلا أن أجواء البساتين المزهرة، تمنح المكان وحدة جمالية متفردة يشكلها الزوار من كافة الفئات الاجتماعية ما يمثل كرنفالاً شعبيا نادر الحدوث في ظل الأوضاع السياسية الانتقالية المتوترة وحالة الضنك المعيشي المتفشية.
ولربما دفعت الأوضاع خارج أسوار الحديقة النباتية بالكثيرين لارتياد معرض الزهور وصولا إلى الراحة النفسية من صعوبات الحياة وتعقيداتها حسب ما لاحظت ذلك الاختصاصية النفسية هاجر حسن عبدو في لقاء مع "عربي21".
وبحسب تحليل الاختصاصية النفسية هاجر فإن المعارض والمهرجات تمثل متنفسا للمواطنيين ومساحة للخروج والترويح عن النفس وكسر روتين الحياة المليء بالمتطلبات والضغوطات.
وتشير إلى أن معرض الزهور شأنه شأن المعارض الأخرى وإن كانت قليلة في بلادنا إلا أن المواطن السوداني صار ينتظرها بفارغ الصبر ليشد الرحال صوب الحديقة النباتية مرة كل عام.
وتلاحظ الاختصاصية النفسية عبدو أن معرض الزهور يقصده الجميع بجميع خلفياتهم الثقافية وجميع أعمارهم، إذ نجد من يقصده كنزهة عائلية تكسر روتين الحياة، بينما الشباب يقصده كنقطة ملتقى تتميز بجو لطيف وبرامج عديدة، فضلا عن محبي الزراعة والحدائق الذين ينتظرون هذا التجمع كحركة تجارية للحصول على ما يطلبونه من أشكال الزهور المختلفة والنباتات من أصحاب المشاتل.
وتشير عبدو إلى توسع معاون المعرض ليشمل العديد من السلع كالإكسسوارات وألعاب الأطفال وبعض المصنوعات الجلدية والمحلية، وهو ما زاد إقبال الناس عليه.
وتضيف: "معارض التراث والفلكلور أيضا لها سحر خاص يجذب الأنظار لترى هذا الجمال فتجد الجميع بدون استثناء يطيب له الجلوس واحتساء الشاي بتلك الخيام ذات الطابع الفلكلوري فهي تحمل الهوية السودانية المتأصلة.
كما تنبه الاختصاصية النفسية هاجر عبدو إلى أن معرض الزهور يظلله اللون الأخضر الذي يعد أكبر عامل جذب للناس بمختلف انتماءاتهم، كيف لا والزراعة والطبيعة لها مفعول السحر في نفوس البشر، إذ أن سحر اللون الاخضر في طبيعته يريح النفس والأعصاب لذلك يستخدمه الأطباء في زي العمليات وغرف المستشفيات ويستخدم بكثرة في عيادات الطب النفسي ويدخله مهندسو الديكور في المنازل ولا تجد منزلا أو مستشفى أو شركة أو مؤسسة أو مطعما أو أي مكان عام في الدول المتقدمة التي تهتم بالبيئة عموما ولا تخلو من نباتات وزهور، كما لا تخلو الشوارع من الأشجار كل ذلك لأن الزراعة تحافظ على بيئة نقية ولا أبالغ إن قلت لها نفس الأثر على نفوسنا فهي تنقينا من السموم النفسية.
هذا الاهتمام بمعرض الزهور تعتبره لافتا للنظر، وتعرب عن دهشتها من توفر المساحات الشاسعة في السودان وميزاتها الجغرافية والمائية العذبة، إلا أن السودانيين يهرعون إلى معرض الزهور لقلة الحدائق العامة والمساحات المشجرة الظليلة وقلة الاهتمام بشتول الزينة في البيوت السكنية والأماكن العامة.
وتشير إلى أن أطباء النفس والاختصاصيين النفسيين وكذلك خبراء الطاقة ينصحيون بأن يخرج الأفراد إلى مساحات واسعة كالحدائق والمنتزهات بصورة راتبة وهناك أوقات معينة في اليوم مثل الصباح الباكر والعصر قبل المغيب لما في ذلك من فوائد صحية ونفسية كبيرة تجعل من مزاج الشخص معتدلا وهادئا أكثر قدرة على التحكم بأعصابه، إضافة إلى تفريغ للطاقة السلبية التي تخلصنا من ضغوط الحياة، كما يوصي الأطباء مرضى الاكتئاب وبعض المرضى النفسيين بالخروج للحدائق أو ممارسة الزراعة لنباتات الزينة والعناية بها، إلى جانب فئة كبار السن ـ من المهم جدا الاهتمام بها ـ إذ تمثل الحدائق متنفسا لهم وتغييرا من أجواء الغرف المغلقة التي قد يضطرون لملازمتها لحالتهم الصحية التي لم تعد تسمح لهم بالخروج كثيرا.
ولمعرض الزهور في العاصمة الخرطوم دلالات سياسية وثقافية رغم كونه مجالا للابتعاد عن ضغوط المجالين، إذ أكد أكثر من زائر أستطلعت آراءهم "عربي21" أن المعرض يمثل تداخلاً اجتماعياً وثقافياً بين المجتمعات السودانية التي تفصلها المسافات والعادات وأحيانا المعتقدات.
وفي هذا الخصوص، يبرز إلى جانب البساتين المنتشرة على الحديقة النباتية، أنشطة مصاحبة ولكنها لافتة للانتباه، مثل الفنون الشعبية وعرض المقتنيات التراثية.
ووفقا للدكتور علي الضو الأستاذ بقسم الفلكلور بجامعة الخرطوم فإن المعرض يعد أيضا سانحة للتعبير عن الذات للثقافات الشعبية، ويضيف في مقابلة مع "عربي21": "إن الفنون الفلكلورية هي حياة وليست مجرد فنون فقط، وأن الفلكلور السوداني غني بتعدد المجتمعات وثقافاتها وأنشطتها الحياتية".
ويرى أن انتشار هذه الفنون في المعارض مؤخرا، يعود إلى الفرص التي يجدها للتعبير عن الذات، وذيوع الوعي بالقيمة الفنية وسط المجتمعات السودانية.
ويشير الضو وهو مؤلف لكتاب بعنوان (المزامير وموسيقى الشعوب) إلى أن الفنون الفلكلورية لديها خاصية الاستمتاع بالمشاركة، إذ يلاحظ أن غالبية الفنون الفلكورية الآدائية يشارك فيها المؤدي والمستمع بالرقص أو الترانيم أو الترديد وغيرها من أساليب المشاركة، ويعتقد أن الجمال يظل رابطا قويا بين الفلكلور وأجواء البساتين المزهرة، لذا يكون مناسبا أن يشترك المجالان في نشاط واحد.
وأوضح أن هناك رابطا مباشرا، فالفلكور هو أسلوب حياة ايضا وتستخدم بعض المجتمعات السودانية الفنون الآدائية في مواسم الزراعة كالحصاد وموسم الأمطار، مبينا أن الموسيقى تحدث أثراً كبيراً وعميقاً في نفس كل من يستمع اليها، فهي تعيد التوازن النفسي للإنسان وتساعده على الترفيه.
ويوضح أن الموسيقى الصادرة عن الآداء الفلكوري مخزنة في الدماغ في موضع يختلف عن موضع تخزين الكلام، بحيث أن الشخص إذا حدثت له مشكلات فإن ذاكرة الكلام يمكن أن تمحى وذاكرة الغناء تكون متقدة.
وأوضح أن التعدد الذي تظهره الفنون الفلكلورية يعود إلى أن بالسودان به أكثر من (150)، و(270) قبيلة، وينقسم إلى 4 أو 5 مجموعات موسيقية.
وأضاف: "إنّ بالسودان خاصية لا ينتبه لها الكثيرون، وهي أنّ نظامه النغمي موّحد، ومسيطر على معظم الموسيقات السودانية"، مشيراً إلى أن من يتجوّل في السودان، ويستمع لموسيقى المجموعات الإثنية، يفهم ذلك.
وذكر بأنّ أكثر ما يجعل السودانيين يشبهون بعضهم البعض هي: الموسيقى. ونبه إلى نقطة مهمة في هذا الصدد وهو أن الثقافة الفلكورية لا تتطور، وتظل كما هي، وشأنه شأن الثقافات التي لا تحتاج إلى تطوّر، لكن الإنسان يتطور، مبينا أن محاولات تحديث الفلكلور الشعبي لا تذهب بعيدا أكثر من إضافة تكتيكات وإضافات في الأسلوب لكن أصل الثقافة الفلكلورية لا يتطور، لأنه أسلوب حياة وهو كذلك يحتفظ بقيمته الجماليه كما هو.
ويرى الدكتور علي الضو، أثرا كبيرا للموسيقى الفلكلورية وأهميتها في عموم الأديان، بالرغم من بعض المواقف الدينية من الموسيقى إلا أن الإسهام الموسيقي كبير في نشر الإسلام في إفريقيا عموماً، وفي السودان، على وجه الخصوص، مشيراً إلى أنّ الموسيقى بالنسبة للإفريقيين ليست ترفيها فقط، وإنّما، ترفيها، وتعليما، ومعتقدا، وطقوسا، وحياة.
ويخلص الدكتور الضوء إلى أن مصاحبة الفنون الفلكلورية للمعارض السودانية بمختلف أنشطتها تؤكد أن الفلكور هو ثقافة تعبر عن الذات الفردية والمجتمعية وأنها تعكس البيئة الأساسية التي تقوم عليها الأنشطة الاجتماعية المختلفة سواء كان معرضا للزهور أو أي ظاهرة اجتماعية، كما أنها تضم فنونا شعبية، وتؤكد أن الفنون ليست ثقافة نخبوية وإنما هي أسلوب شعبي في الحياة.