وصلت الجنازة المهيبة إلى مسجد
القرية الكبير، وبينما يتسابق المشيعون في خلع أحذيتهم للوصول إلى أماكن الوضوء،
ويهرول بعض التابعين لحمل أحذية الضيوف من ضباط وقضاة ورجال أعمال وأعضاء
بالبرلمان؛ سمع الجميع أصوات حاملي النعش الخشبي المغطى بعلم
مصر يصيحون "لا
إله إلا الله محمد رسول الله".
توقف من توقف خارج المسجد وعاد
أدراجه من عاد بحثا عن حذائه، حتى تاه حامل حذائه بالباحث عنه فتصادمت الأكتاف
وتدافعت الأيادي وتلعثمت الأقدام واشرأبت الرؤوس فوق الأجساد تستطلع ما يجري
بالخارج، بينما يتساءل الجميع: لم لا يصعد حاملو نعش حضرة العمدة الفقيد على درج
المسجد، أم أنه عاد من الموت؟
بدا الموقف لناظرية كإحدى خوارق
العادات التي جاءت من الزمن الغابر في زمن الجيل الرابع والخامس من تكنولوجيا
القرن الحادي والعشرين، حيث عجز حاملو النعش عن إدخاله المسجد، بل إن المشهد يوحي
بأن النعش يتراجع بصاحبه.
ووسط الضجيج ظهر إمام المسجد
مطالبا الجميع بالصمت واحترام مكانة الميت وقدسية الموت. فعاد الصمت بعض الوقت،
حتى كاد أن يتوقف زفير الحضور الذين اكتفوا بشهيق بلا صوت وظلوا في ترقب لما قد
يفسر لهم ما يحدث.
رفقي، مقاول الأنفار عند حضرة
العمدة والذي كان مكلفا بحمل حذاء سيادة نائب الدائرة وصاحب الجسد الممتلئ
والأقدام الملتصقة، فاجأ الجميع قائلا بصوت مسموع: كيف لهذا الزاني أن يدخل المسجد
كي يُصلى عليه؟
عاد التهامس من جديد وسط دعوات
لأن يصمت ذلك الأبله، لم يأبه بمن حوله وبمن يعنفونه، مواصلا حديثه: نعم إنه زان
فاجر سكير، بل إنه تاجر مخدرات، وآكل أموال أبناء إخوته الأموات، ولم يدخل المسجد
يوما إلا في المناسبات وكي يراه الناس ويقولون إنه من المصلين.
قطعت كلمات رفقي، كل الأحاديث
وأجابت عن كل الأسئلة ورنت في الآذان ووصلت القلوب. هنا جلس من جلس وانفض من انفض،
بينما وقف وجهاء الجنازة بين حيرة في أن يغادروا ذلك المشهد العبثي أو أن يكملوه
حتى النهاية.
عاد إمام المسجد للظهور قائلا: اذكروا محاسن موتاكم. ليرد عليه رفقي، بكل قوة وثبات: يا مولانا أعرف وتعرف ونعرف
جميعا وكل البهوات والباشوات أنه لم تكن له محاسن. هنا انتفض أحد أبناء حضرة
العمدة صاحب النعش لينهش رفقي، وكاد أن يقتله لولا أن الخوف من مزيد من الفضائح
على رؤس الأشهاد: أوقفه.
ولكن رفقي الذي غطي وجهه العرق،
وأخذته الجلالة ولم يستسلم للخوف الذي كاد أن يفتك به وعاد يغرد مجددا بعد ابتلع
لعابه: لا يا حضرات كل هذه البدل والرتب ورابطات العنق والمناصب والألقاب لن تمحو
عار هذا الرجل الذي ظل طوال حياته يحلم بمال ومنصب وجاه فظلم وطغى وبغى وسرق لأجل
أن يصل إليهم.
نسي الجميع كبار الضيوف ونسي
الضيوف الجنازة وصاحبها والنعش الذي أنزله حاملوه من فوق أكتافهم مستمعين لحديث
رفقي، الذي وجد هوى لدى الحاضرين من أهالي القرية والقرى المجارة، وسرى التهامس في
أرجاء المسجد: صدق رفقي والله.
رفع رفقي أحد أكمام جلبابه
الفلاحي ليمسح به عرقه الذي غطى عينيه، وواصل حديثه وظل صوته يعلو ويعلو حتى ملأ
جنبات المسجد وطار يملأ الأسماع خارجه قائلا: الشيخ ناصر، نعم الشيخ ناصر، ألا
تعلمون ماذا فعل حضرة العمدة ومن معه بذلك الرجل التقي النقي الذي كان بيننا أمينا
على المال مدافعا عن الأعراض خادما لكل الناس ولم يتأخر يوما عن واجب ولم يغلق
بابا في وجه صغير أو كبير؟ إنه ذنب الشيخ ناصر.
هنا جلس معظم الضيوف على سجاد
المسجد الأخضر يتحسسونه ليتأكدوا أن ما يرونه ويسمعونه ليس مشهدا تمثيليا أو حكاية
من حكايات ألف ليلة وليلة، بينما عاد أهل القرية للوقوف بين متربص برفقي، وبين
داعم له. ومع تلعثمه ببعض الكلمات وتردده بأن يُكمل الحكاية جاء صوت حاد.. إنه
لنائب الدائرة أحد أشد أصدقاء صاحب الجنازة قربا؛ قائلا لرفقي: كفى تهريجا لهذا
الحد وإلا ستذهب وراء الشمس.
خرج سيادة النائب مسرعا وحوله
جوقة من الأتباع آمرا أبناء الميت حضرة العمدة وأهالي القرية المقربين بإدخال
النعش للمسجد سريعا، فانبرى أصحاب الأجساد العاتية والمؤيدين والمقربين من الميت
ومن يريدون أن يُظهروا الولاء لسيادة النائب لحمل النعش دونما أية مشكلة، ليعود
الصمت وتبدأ صلاة الجنازة وسط سكون.
تراصت الصفوف سريعا وتبارى
الأهالي في تقديم الضيوف من كبار القوم وعليتهم بالصف الأول. وبينما الكل مشغولون
متعجلون لإنهاء هذا الموقف سريعا، اتخذ رفقي لنفسه بابا للهرب خارج المسجد بعدما قُطع عيشه وفجر لنفسه
ولأسرته أزمة لا يعلم كيف تنتهي.
رفع الإمام يديه لأعلى قائلا:
الله أكبر، لتملأ تكبيرات المصلين جنبات المسجد وترج أركانه وتطير ذبذباتها إلى
السماء تملأ الآفاق. وراح المصلون يقرأون الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، بينما راح
سيادة النائب في عالم الماضي ليتذكر اليوم الأول لصديقه المتوفى عندما جمعتهما
خمارة سكران في البيت المهجور خارج القرية قبل 30 عاما عندما اختلفا على من منهما
سوف يحظى بأم سامي، زوجة سكران، لتكون المعركة التي انتهت بصداقة العمر وصحبة
الطريق الذي جمعهما نحو المتعة والمال من كل جهة والسلطة والجاه بأي ثمن.
أنهى الإمام، قراءة الفاتحة
رافعا يده إيذانا بالتكبيرة الثانية وقراءة نصف التشهد الثاني والصلاة
الإبراهيمية، إلا أن سيادة النائب الذي لم يقرأ الفاتحة توقف بعد حيرة، هل يقرؤها
أم يقرأ التشهد، وبين تردده وحالة التيه التي انتابته تخطفته الذكريات مجددا.
وتذكر سيادة النائب حديث رفقي،
وكيف أنه أحرجه أمام ضيوفه من القاهرة والزقازيق، وارتسمت صورة الشيخ ناصر، أمام
عينيه وبينما هو فوق منبره الخشبي يعظ الناس ويدعوهم للإيمان وبين كلماته دروسا
تلقن سيادة النائب وحضرة العمدة معانى الإيمان ودروبا للهروب من الشيطان الذي عقدا
معه عقود توأمة حتى الممات.
قطع الإمام، شريط ذكريات حضرة
النائب بالتكبيرة الثالثة للمرة الثانية معلنا أنه قد حان وقت الدعاء للميت. حاول
النائب جاهدا أن يدعو لصديقه ولكن الكلمات لم تكن تطاوعه، وعادت صورة الشيخ ناصر
تذكره كيف تآمر هو وحضرة العمدة لإزاحته من طريقهما بعدما قرر الشيخ الترشح لمنصب
العمدة، وكيف أنهما لفقا له قضية أمن دولة اعتقل فيها هو وابنه حتى اليوم وماتت زوجته
على إثر تشويههما سمعتها.
عاد صوت الإمام مجددا بالتكبيرة
الأخيرة في صلاة الجنازة لتأخذ سيادة النائب من الماضي وتعيده للحاضر، حيث يقف
أمام جثمان صديقه الصدوق ولم يستطع أن يقرأ عليه فاتحة أو يتلو تشهدا أو يرسل له
دعاء، حتى انتهت الصلاة. وبينما همت العصبة أولي القوة بحمل جثمان حضرة العمدة سقط
سيادة النائب على الأرض لافظا أنفاسه الأخيرة مع آخر كلماته: قتلني رفقي كما قتلت
أنا زوجة الشيخ ناصر.