الكتاب: إيران النووية البرنامج الإيراني النووي من النشأة إلى الأزمة فالحل
الكاتب: طالب إبراهيم
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2019
الصفحات: 535 من القطع الكبير.
كانت السفارة الأمريكية في طهران تلقب بـ"عش الجواسيس" عقب احتلالها من قبل الطلاب الإيرانيين في تشرين ثاني (نوفمبر) عام 1979. وبعد أن مرت أربعون سنة من عمر الثورة الإسلامية في إيران، يتساءل المحللون للوضع الإيراني، ما هو مستقبل الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في منطقة الشرق الأوسط؟
هناك اتفاق عام في واشنطن يقوم على عدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي. وقد رأينا مؤخرا كيف أن واشنطن وتل أبيب تخوضان الحرب النفسية ضد طهران. فإيران تريد القنبلة النووية، رغم أن قادة طهران أكَّدُوا للمجتمع الدولي مراراً وتكراراً أنَّ هدفهم من وراء تخصيب اليورانيوم، يتمثل في توظيف التكنولوجيا النووية لخدمة الأغراض السلمية، وأنَّ نزاهتهم في هذا الشأن لا يجوز أن يرقى إليها شك من جانب الحكومات الغربية. وتكمن المسألة في معرفة "ماهو غير مقبول" حقًا، من وجهة نظر أوروبية وأمريكية، هل أنَّ إيران تريد صنع القنبلة النووية؟ وهل أن المسألة تكمن في "تغيير النظام" الحاكم في طهران، أم في منع انتشار الأسلحة النووية؟
لأنه لا يوجد أي حزب سياسي إيراني، ولا حتى المعارضة الملكية الموالية للشاه والقريبة جدَّا من واشنطن، تعارض امتلاك إيران القنبلة النووية. وهناك شبه إجماع في المشهد السياسي الإيراني ـ الذي ليس هو أُحَادِيًا ـ على ضرورة امتلاك إيران السلاح النووي، وهذا الأمر ليس جديدًا.
تعود جذور البرنامج النووي الإيراني إلى زمن بعيد نسبياً، وبالتحديد إلى الخمسينيات من القرن الماضي، إذ بدأ اهتمام إيران بالشأن النووي، لأن الإلمام بالعلوم الذرية يشكل مدخلاً إلى التطور والحداثة،
في هذا الكتاب الجديد، "إيران النووية ـ البرنامج الإيراني النووي من النشأة إلى الأزمة فالحل"، للكاتب طالب إبراهيم، والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب (وزارة الثقافة السورية) في خريف 2019، والمتكون من ثلاثة أقسام: القسم الأول، البرنامج النووي الإيراني من الحلم إلى إيران النووية، والقسم الثاني، الأزمة النووية الإيرانية، أو ما عرف بأزمة ملف إيران النووي، والقسم الثالث، مواقف الأطراف الدولية والإقليمية من أزمة ملف إيران النووي.. ويتألف من اثنين وعشرين فصلاً، يحلل فيها الكاتب المراحل
التاريخية التي مرّ بها البرنامج النووي الإيراني.
أمّا لماذا حظي البرنامج النووي الإيراني باهتمام عالمي كبير، فإنَّ الكاتب يُوعِزهُ إلى عاملين رئيسيين، الأول، يتمثل في ميل إيران إلى أن تكون قوة إقليمية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، والثاني، حالة العداء المستحكمة بين إيران من جهة، وبين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
تسابق البرامج النووية في الشرق الأوسط
يمكننا تسمية المدّة بين نهاية الخمسينيات وأواسط الستينيات من القرن العشرين حقبة الطموح النووي، في هذه المرحلة بالذات ولدت عدة برامج نووية في العالم، وكذلك الأمر في الشرق الأوسط، حيث كانت بدايات البرنامج النووي العراقي، والبرنامج النووي الإيراني، والمشروع النووي العسكري الإسرائيلي، والبرنامج النووي المصري، وكانت مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر رائدة وسباقة على مستوى العالم العربي، بل على مستوى العالم الثالث كله، انطلاقاً من رؤيته الإستراتيجية، ونظراً للمخاطر المحدقة بمصر والقادمة من إسرائيل العدو التاريخي للعرب أسرع الرئيس جمال عبد الناصر في عملية بناء البرنامج النووي المصري، الذي شهد كثيراً من التطورات، حيث وقعت مصر عام 1953 على مبادرة "الذرة من أجل السلام"، وفي العام 1955 شُكِّلت لجنة الطاقة الذرية برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر.
كان الشاه يحلم بإيران عصرية متطورة ومتفوقة على جوارها العربي والإسلامي، ولهذا الغرض قرر رفع إنتاجه من النفط من أجل تأمين التمويل اللازم لخططه الطموحة
وفي تموز (يوليو) 1956، وقعت مصر عقد الاتفاق الثنائي مع الاتحاد السوفييتي بشأن التعاون في شؤون الطاقة الذرية وتطبيقاتها في النواحي السلمية، وفي عام 1957، أصبحت مصر عضواً مؤسساً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما حصلت على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك في العام نفسه، وفي عام 1961 بدأ تشغيل المفاعل النووي البحثي الأول في مصر ووقِّع اتفاق تعاون نووي مع المعهد النرويجي للطاقة الذرية"، وجاء البرنامج النووي المصري رداً مباشراً على البرنامج النووي الإسرائيلي الذي بدأ منذ اغتصاب فلسطين وقيام دولة إسرائيل عام 1948، ولأنَّه ضرورة استراتيجية لحياة مصر، وعلى النقيض من البرنامج النووي المصري فقد لقي البرنامج النووي الإسرائيلي دعماً وتأييداً ومشاركة من دول الغرب، ففي العام 1960 "سمح الرئيس الفرنسي شارل ديغول لخبراء إسرائيليين بحضور تجربة نووية أجرتها باريس في منطقة حمودي بفران في صحراء الجزائر وفي العام 1966 نفّذَت إسرائيل تجربة نووية في نفق أرضي متاخم للحدود مع مصر، وقيل إن التجربة أحدثت هزات بصحراء النقب وشبه جزيرة سيناء".
وهكذا بدا الشرق الأوسط في مطلع الستينيات من القرن العشرين بالتوجه بقوة نحو العصر النووي، وفي هذه المرحلة تمكنت بعض الدول من استغلال الفرصة وطورت سلاحها النووي الخاص بها أو شارفت على بنائه كإسرائيل والهند وباكستان، واستغلت هذه الدول الواقع العالمي، قبل صدور "معاهدة منع الانتشار النووي" التي يرمز لها اختصارًا بالأحرف التالية(NPT ) والتي وقعت في أواخر الستينيات 1968، ودخلت حيز التنفيذ في 5 آذار (مارس) 1970.
تاريخ البرنامج الإيراني النووي
تعود جذور البرنامج النووي الإيراني إلى زمن بعيد نسبياً، وبالتحديد إلى الخمسينيات من القرن الماضي، إذ بدأ اهتمام إيران بالشأن النووي، لأن الإلمام بالعلوم الذرية يشكل مدخلاً إلى التطور والحداثة، وفي العام 1953 أطلق الرئيس الأمريكي إيزنهاور مشروع "الذرة من أجل السلام" وفي إطار هذه الرؤية الأمريكية وُقّعَ أول اتفاق نووي بين أمريكا وإيران في العام 1957، وفي عام 1960 حصلت إيران على أول مفاعل نووي للأبحاث سمي (TRR) وأُشيد في جامعة طهران بقوة خمسة ميغاواط، وأدخل هذا المفاعل عملياً بالخدمة عام 1967، في عصر الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان مسكوناً بأحلامٍ وهواجس إمبراطورية، وتجلت هذه الهواجس بصورة جلية في العام 1971 الذي شهد الاحتفال بمرور 2500 عام على قيام الإمبراطورية الفارسية، ذلك الاحتفال الذي وصفته أوساط غربية بأنه تعبير عن جنون العظمة لدى شاه إيران محمد رضا بهلوي، فقد كان الشاه يعد نفسه نداً لأعرق ملوك إيران القدماء كداريوس وقورش وغيرهما، ومن أجل تحقيق طموحاته الإمبراطورية أقدم شاه إيران على بناء جيشٍ قوي عُدَّ في ذلك الوقت أحد أقوى جيوش المنطقة، وأقدم على تجهيزه بكامل المعدات والإمكانات العسكرية المتاحة، وعلى وجه الخصوص المعدات الأمريكية.
يقول الكاتب طالب إبراهيم: "كان الشاه يحلم بإيران عصرية متطورة ومتفوقة على جوارها العربي والإسلامي، ولهذا الغرض قرر رفع إنتاجه من النفط من أجل تأمين التمويل اللازم لخططه الطموحة والرامية لبناء كثير من المفاعلات النووية التي قُدِّرَ عددها في ذلك الوقت بـ (23) مفاعلاً لإنتاج 23 ألف ميغاواط من الطاقة الكهربائية، تغطي كامل الأراضي الإيرانية، على أن تدخل الخدمة في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، وهذه الأحلام الكبيرة والمتعلقة بقيام إيران الإمبراطورية لا تكتمل إلا بالتكنولوجيات النووية، بشقيها المدني والعسكري.
جاءت الثورة الإسلامية في عام 1979 لتضع حدًّا للبرنامج النووي الذي طورته إيران مع فرنسا. وقد استبعد آية الله الخميني الخيار النووي العسكري، بوصفه خيارا لا يتماشى مع تعاليم الدين الإسلامي.
إن رفع إنتاج إيران من النفط في عصر الشاه كان سيؤدي بالتأكيد إلى سرعة نضوب المخزون الإيراني، وهو ما كان يعرفه الشاه الذي كان يقول لمقربيه إننا سنعتمد على المحطات الكهروذرية لتوليد الطاقة الكهربائية، ولتنفيذ هذا الهدف وقع الشاه محمد رضا بهلوي في شهر آب (أغسطس) عام 1974 مرسوماً إمبراطورياً، جاء فيه: "إن البترول الإيراني سينضب ذات يوم، وإنه من الخسارة بمكان إهدار هذه المادة الثمينة من أجل تشغيل المعامل والمصانع وإضاءة المنازل، نحن نتطلع إلى إنتاج 23 ألف ميغاواط من الكهرباء باستخدام مفاعلات نووية" (ص 36 من الكتاب).
وفي العام نفسه وقع الشاه على مرسوم إمبراطوري بإحداث وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، ومن الجدير بالذكر أن إيران وقعت على معاهدة الحد من الانتشار النووي عام 1970. وساعد الشاه على بدء العمل في مشروعه النووي القبول الأمريكي، فقد كان الأمريكيون راضين عنه إلى أبعد حدٍّ، بل كان بنظرهم مثالاً "للمستبد المستنير" الذي تحتاجه المنطقة، ولم تكن دوافع أمريكا لدعم الشاه نابعة من هذا الإعجاب وحده، فقد كان الشاه هو الرجل الذي تبحث عنه أمريكا، فهو شرطي الخليج وفزاعته، من جهة والمزعج الكبير الجنوبي للاتحاد السوفييتي من جهة أخرى، فضلاً عن أنه الحليف الإستراتيجي الأساسي لأمريكا والغرب في المنطقة، لهذه الأسباب كانت تغض الطرف عن برامجه التسليحية والنووية، بل تؤيدها في السرِّ، ولم تكن واشنطن تنظر بقلق أو ارتياب إلى أي فعل أو قول أو عمل أو حتى نية عند الشاه، الذي تابع العمل ببرنامجه النووي، مستفيداً من مساعدات من الدول الرئيسية في الغرب: أمريكا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا.
ففي زمن حكم الشاه، الحليف السابق للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في آن معًا، حقق هذا الأخير أولى خطواته نحو تطوير البرنامج النووي الإيراني في أواسط السبعينيات، بفضل المساعدة العلمية والتكنولوجية التي قدمها له الكيان الصهيوني، الذي تلقى بدوره مساعدة كبيرة علمية وتكنولوجية من فرنسا مكنته من امتلاك السلاح النووي. وبما أن إيران كانت تشكل قلعة حصينة وركيزة أساسية للإمبريالية الأمريكية في المنطقة، لم تجد الولايات المتحدة الأمريكية أي شيء تقوله في هذا المجال.
كان الشاه "محمد رضا بهلوي "منبهرًا بكل أشكال الحضارة الغربية، الثقافية والتكنولوجية والعسكرية، وارتأى أن الاقتصاد الإيراني المبني بكل عناصره أساسًا على عوائد تصدير النفط، لن يستمر طويلاً في نموه.
شكلت التجربة النووية الهندية نقطة تحول كبيرة ومهمة بتحفيز الطموح النووي الباكستاني وبالتأكيد الإيراني
يقول الكاتب طالب إبراهيم: "لأن الثروات النفطية ستنفد في النهاية، ومن أجل بناء (إيران عصرية) وقوية ومهيمنة، كما كان يطمح، لا بد من اللجوء إلى وسائل أخرى تكون بديلةً عن الثروة النفطية، وفي واقع الأمر فإن دوافع الشاه لامتلاك برنامج نووي كانت أبعد من بناء الدولة العصرية أو الإمبراطورية، فقد وجد نفسه محاطاً بجوار طموح وفقير، وذي شهية كبيرة للقتال. ففي الشرق كانت بدايات المشروع النووي الباكستاني لمّا أطلق الزعيم الراحل "ذو الفقار علي بوتو" مشروعه الرائد في بداية الستينيات من القرن العشرين بإنشاء اللجنة الباكستانية للبحث الفضائي والجوي "سوباركو" SUPARCO عام 1961، التي بدأت في العام 1962 باختبار إطلاق صواريخ في المحيط الهندي، فضلاً عن أنَّ الهند قد بدأت بتشغيل محطات الطاقة النووية في المرحلة نفسها، ولم يخف البلدان طموحاتهما النووية، بل إن "بوتو" أعلن صراحة أنه "لا يؤمن بفكرة عدم الانحياز غير الرادع".
وشكلت التجربة النووية الهندية نقطة تحول كبيرة ومهمة بتحفيز الطموح النووي الباكستاني وبالتأكيد الإيراني، فقد أعلن رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو في العام 1974 "عزم بلاده تطوير السلاح النووي" بعد أول تفجير نووي هندي، وبدأ بالاهتمام شخصياً بالبرنامج النووي الباكستاني، كما أولاه دعماً كبيراً، لقوله عام 1965: "إذا بنت الهند القنبلة فإننا سنقتات الأعشاب والأوراق، بل نعاني آلام الجوع، ولكننا سنحصل على قنبلة من صنع أيدينا، ليس لدينا بديل".
على الرغم من كل ذلك تُعدّ باكستان متأخرة بسنوات عن البرنامج النووي الهندي، إذ مثلت تجربة القنبلة النووية الهندية عام 1974 صدمة عنيفة للقادة الباكستانيين الذين فتحوا المجال للعلماء بسرعة التحرك لسد الثغرة التي أحدثتها التجربة الهندية" (ص 14 من الكتاب).
ومنذ ذلك العهد بدأت الشكوك تنتاب مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة النووية، رغم توقيع إيران على معاهدة عدم تطوير التكنولوجيا النووية لخدمة أغراض عسكرية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإخضاع منشآتها النووية للتفتيش من قبل المؤسسة الدولية. وجاءت الثورة الإسلامية في عام 1979 لتضع حدًّا للبرنامج النووي الذي طورته إيران مع فرنسا. وقد استبعد آية الله الخميني الخيار النووي العسكري، بوصفه خيارا لا يتماشى مع تعاليم الدين الإسلامي.