هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أزالت ثورات الربيع العربي التي انطلقت أواخر العام 2010 من تونس، الحواجز بين الفكر والسياسة، على نحو أعاد الحيوية للحوارات الفكرية التي لم تعد تقبل بالخطوط الحمراء، وبدأ مشهد فكري جديد في التشكل، ليس فقط لبلورة شعارات الشعوب العربية التي خرجت مطالبة بالحرية والكرامة والحق في تقرير المصير، وإنما أيضا في إعادة النظر في الماضي بكل تجلياته.
وعلى هامش سقوط الأصنام السياسية التي قادت البلدان العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، نشأ جدل فكري وديني وثقافي وسياسي بطيء في حركته، لكنه عميق في محتواه ودلالاته، لامس ثوابت التفكير العربي وسعى إلى المساهمة في التوجه إلى الفعل في المستقبل بدل البقاء في الماضي.
ومع أن الحراك الشعبي الجزائري الذي انطلق في 22 من شباط (فبراير) الماضي، قد أطاح بالرئيس بوتفليقة وبفريقه، دون أن يحقق برأي كثير من قياداته كل أهدافه، فإنه حفر بعمق في المشهدين السياسي والفكري، وأوجد سجالا فكريا فعالا سواء لجهة الثقافة القانونية والدستورية ودور الشعب في اختيار حكامه، أو لجهة النظريات السياسية والأحزاب التي تشكلت بناء عليها.
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، يفتح في تقرير خاص لـ "عربي21"، واحدا من أهم الملفات السياسية والفكرية التي أنتجتها ثورة 22 من شباط (فبراير) الماضي، ممثلة في مستقبل أهم الأحزاب السياسية جبهة التحرير الوطني، التي قادت المشهد السياسي منذ اندلاع الثورة ضد الاستعمار الفرنسي إلى يوم الناس هذا.
يمر حزب جبهة التحرير الوطني، الذي ظل يحكم الجزائر (ظاهريا على الأقل) منذ الاستقلال (1962)، وكان عنوانا كبيرا للحركة الثورية الجزائرية التي قارعت الاستعمار الفرنسي حتى أخرجته من البلاد (1954/1962)، بمرحلة حرجة هي الأخطر في تاريخه المعاصر على الإطلاق، منذ أن انتفض الشعب الجزائري في 22 شباط (فبراير) الماضي، وأطاح بالرئيس السابق بوتفليقة، وبالعهدة الخامسة التي كان يروج لها حزب السلطة (جبهة التحرير)، مع باقي أحزاب الموالاة الأخرى (التجمع الوطني، تجمع أمل الجزائر، والجبهة الشعبية).
ورغم مسارعة جبهة التحرير الوطني بعد سقوط بوتفليقة، الذي كان ينتمي تنظيميا للحزب، إلى تجديد قيادته عبر الإطاحة بالقيادة السابقة معاذ بوشارب وجمال ولد عباس (الموجود حاليا رفقة عشرات المسؤولين في السجن)، وانتخاب أمين عام جديد هو محمد جميعي، إلا أن الأصوات التي ارتفعت لإقصاء جبهة التحرير من طاولة الحوار التي شرعت فيها لجنة كريم يونس لحل الأزمة الحالية، لم تتوقف عند إقصاء الحزب رفقة التجمع الوطني الديمقراطي (حزب السلطة الثاني)، من طاولة الحوار والمساهمة في إيجاد حلول للأزمة، دعمت بشكل كبير تلك الأصوات والجهات التي ظلت تطالب بإعادة جبهة التحرير الوطني إلى "متحف التاريخ"، باعتبارها (إرثا مشتركا) لجميع الجزائريين، حين كانت "الخيمة الكبيرة" التي التأم الشمل داخلها مع اندلاع ثورة أول تشرين ثاني (نوفمبر) 1954، على هدف واحد هو تحقيق الاستقلال وطرد المستعمر من البلاد، مع حل الجبهة وتطبيق مبدأ العزل السياسي على عناصرها، باعتبار أن انتفاضة 22 شباط (فبراير) الماضي، كانت من أجل تغيير جذري للنظام، وإسقاط جميع رموزه، وعلى رأسها حزب السلطة الأول، جبهة التحرير الوطني، الذي ظل لأكثر من 57 سنة، الذراع السياسي للسلطة الفعلية الحاكمة.
ويجعل هذا الحال من جبهة التحرير الوطني، في وضع حرج للغاية لم يسبق أن عاشته من قبل، حتى بعد انتفاضة الخامس من تشرين أول (أكتوبر) 1988، التي اضطر بعدها نظام الشاذلي بن جديد، للتخلي عن نظام الحزب الواحد الذي كانت الجبهة هي واجهته، وفتح المجال للتعددية الحزبية، لم تخرج هذا الكم الهائل من الأصوات الداعية لشطب الجبهة من الخارطة السياسية الوطنية، على اعتبار أن حراك اليوم، بشعبيته العارمة واتساعه الأفقي والعمودي، يبدو أنه يستبدل مشروعية الثورة التحريرية (تحرير الأرض)، بمشروعية جديدة ناشئة، هي مشروعية ثورة الوعي ورفض الاستبداد، لتحرير الإنسان.
السقوط من القمة
لو أن شهداء ثورة التحرير الجزائرية، عادوا ليشاهدوا الرمز التاريخي الذي قاتلوا تحت لوائه أشرس أنواع الاستعمار، كيف تحول بعد عقود من الاستقلال في نظر الشعب إلى "جهاز" بيروقراطي"، تطالب الجماهير بالتخلص منه، وإرسال كل رموزه إلى متحف التاريخ، ما صدقت أعينهم تلك الصور المذهلة، لكن الذي حصل، أن جبهة التحرير التاريخية، التي فجرت أعظم ثورة في التاريخ الحديث، وكانت عنوانا للتحرر والوطنية، وناضلت من أجل بناء (دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية)، وحكمت كل تلك العقود الماضية باسم "الشرعية الثورية"، تحولت بالفعل اليوم إلى جبهة "منبوذة شعبيا"، تلهج بلعنها الألسن من قبيل الشعار الصارخ (أفلان ديقاج)، من أجيال عاشت الصدمة والتناقض بين الشعارات والممارسة.
لقد بدأ السقوط بشكل آلي، عندما قرر قادة الجبهة بعد الاستقلال، التحول إلى نظام الحزب الواحد، ومنذ أمينها العام الأول محمد خيضر(1962/1963)، وبعده أحمد بن بلة (1963/1965)، دخلت الجبهة في صراعات مع المخالفين (الأيديولوجيين)، وبدأت ممارسة الإقصاء ورفضت باسم موضة (الاشتراكية) التي كانت سائدة في العالم وقتها، أن تنفتح على رؤى مختلفة إسلامية أو ليبيرالية، إلا ضمن حساسيات داخلية لا تخرج عن الإطار العام المرسوم، وحتى عندما قرر النظام التحول إلى التعددية الحزبية، والتخلي عن منظومة الحزب الواحد، تحت ضغط الجماهير سنة 1988، تلقت جبهة التحرير أول هزيمة مدوية في أول انتخابات تشريعية تعددية أمام الجبهة الإسلامية للانقاذ (26 كانون أول / ديسمبر 1991)، حيث لم تحصل جبهة التحرير الوطني سوى على 15 مقعدا في الدور الأول، مقابل حصول جبهة الإنقاذ على 188 مقعدا، غير أن الانقلاب العسكري الذي حصل بسبب ذلك، في 12 كانون ثاني / يناير 1992، اكتشف أن رجلا عملاقا في مستوى المناضل عبد الحميد مهري يوجد على رأس تلك الجبهة، وقد رفض الانقلاب على نتائج الصندوق، فما كان من منظومة ما بعد الانقلاب إلا المسارعة "لإنتاج" حزب سلطوي رديف، هو التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يتحدث الجزائريون عنه أنه "ولد بشلاغمو" أي "ولد بشنبات" (بمعنى أنه ولد ناضجا)، ليكون حزب الإدارة البديل عن الجبهة في حال تمردها، أو لتبادل الأدوار معها في حال إخضاع قيادة الجبهة، وبالفعل، فقد تم تدبير ما سمي بالمؤامرة العلمية للإطاحة بالزعيم عبد الحميد مهري (1995)، لتعود الجبهة إلى حظيرة السلطة بقضها وقضيضها، على اختلاف المسؤولين الذين جاؤوا بعد ذلك على رأسها، من بوعلام بن حمودة، علي بن فليس، عبد العزيز بلخادم، عمار سعيداني، وإلى غاية جمال ولد عباس ومعاذ بوشارب، تحولت خلالها الجبهة، وخاصة في زمن الرئيس بوتفليقة، إلى منفذ لسياسات السلطة، وآلة انتخابية ضخمة، يتم عبرها (وعن طريق التزوير) السيطرة على البرلمان والحكومة وعلى المجتمع كله، فكانت الجبهة بذلك شاهد زور كبير على كل الفساد الخطير الذي عاشته البلاد خاصة في السنوات العشر الأخيرة، تتلقى قيادتها الأوامر من الرئاسة أو من الجهات الأمنية، فتطبق بلا جدال ولا نقاش.
لقد كان سقوطا رهيبا لهذا الكيان التاريخي، منذ أن تحول من حزب المبادئ إلى ما يسميه الجزائريون بحزب (الشكارة)، أو المال الفاسد، ففي داخل هذا الحزب، عندما أصبح الانحراف هو البرنامج السياسي، أصبح كل شيء يباع ويشترى، الترشح ضمن القوائم، المناصب، وحتى المبادئ التي ضحى من أجلها مليون ونصف المليون من الشهداء.. فهل ستغير الجبهة من مجرى تاريخها مستقبلا، كما غيرت في الماضي مجرى تاريخ الجزائر كلها؟
أفلان ديقاج
عندما خرج ملايين الحراكيين للشارع، كان واضحا أن المستهدف الأول بعد صورة بوتفليقة، هو جبهة التحرير الوطني، اتضح ذلك عبر استهداف مقرات الحزب بالشعارات والهتاف المزلزل "أفلان ديغاج" (جبهة التحرير إرحلي)، لأنها كانت بالنسبة للكثير من الشباب على وجه الخصوص، واجهة النظام وآلته التي يفعل بها ما يريد، غير أن أصل الحكاية أقدم من الحراك نفسه، فلقد ثارت في الثمانينيات دعوات إحالة الجبهة إلى المتحف، وتزايدت هذه الدعوات مع دخول عهد الانفتاح السياسي، غير أن العهد البوتفليقي الذي أنهى كل رمزية للجبهة في المخيال الشعبي، حرك الكثيرين لإعادة بعث المطلب ذاته، إلى أن وصل في العام 2016 إلى بعض كبار المجاهدين، من أمثال لخضر بورقعة (مسجون حاليا) ياسف سعدي وزهرة ظريف بيطاط، حين طالبوا بتحرير الحزب مما أسموه "سطوة وعصابات المال". قبل أن يتطور الأمر بعد ذلك، إلى مناضلين من داخل الحزب نفسه، طالبوا في عديد المناسبات بما أسموه "تحرير حزب جبهة التحرير الوطني التاريخي، واسترجاعه من الأقلية التي قامت باختطافه وحولته إلى مجموعة بزنسة".
طبعا كانت قيادة الجبهة طوال تلك السنين ترد أحيانا بالاستهزاء على مثل تلك الدعوات، أو بحالات من التشنج والتخوين، ولعل أشهر رد في السياق هو رد الأمين العام السابق جمال ولد عباس، حين تحدث بلغة الأرقام “حزبنا يضم 120 محافظة على المستوى الوطني و220 نائبا في المجلس الشعبي الوطني، و48 سيناتورا و2000 قسمة عبر كل البلديات"، فكيف يطالبنا البعض بإحالة هذا الخزان السياسي على المتحف؟
اليوم، تبدو قيادة جبهة التحرير بعد الحراك، في حالة دفاع عن النفس، حتى وهي ترفع في وجه المنتقدين ورقة كونها حزب الأغلبية من دون حكم، فلم تتولَ الجبهة قيادة الحكومة طوال العهدات الأربع لبوتفيلقة إلا نادرا، رغم حيازتها للأغلبية البرلمانية، وكانت منظومة بوتفليقة دائما تفضل منح قيادة الجهاز التنفيذي للحزب الرديف (التجمع الوطني الديمقراطي) ممثلا في شخص قائده أحمد أويحيى، لكن الجبهة مع ذلك تدافع عن حق الحزب في البقاء والاستمرارية، كما أكد ذلك الأمين العام الجديد محمد جميعي، ردا على تلك الأصوات بأنها "تريد قطع الصلة مع كل ما يرمز إلى تاريخ بلادنا وثورتها المجيدة وهوية الشعب الجزائري الجامعة"، وأن هذا المطلب ليس مطلب الشعب الجزائري.
ورغم أن مطلب إحالة الجبهة الى المتحف يحظى بدعم واسع، إلا أنه مع ذلك ليس محل إجماع، سواء داخل الشارع أو لدى الطبقة السياسية، حيث تفضل قوى سياسية أخرى معاقبة أحزاب السلطة، وعلى رأسها جبهة التحرير عبر الانتخابات الشفافة مستقبلا، وليس عبر حلها، وهو موقف حركة "حمس" على وجه الخصوص، من باب رفض مبدأ الإقصاء.
هذه ليست جبهة التحرير التي نعرفها
ويوضح الصورة بشكل جلي، النائب السابق عن جبهة التحرير الوطني، إبراهيم قار علي، بقوله: "لا أحد يستطيع من معارضين ومؤيدين أن ينكر أن جبهة التحرير الوطني تعد رقما مهما في المعادلة السياسية في الجزائر، ولكن للأسف الشديد أن الأداء السياسي لهذا الحزب قد تقهقر إلى ما دون مستوى الأحزاب المجهرية، وذلك بسبب فساد أخلاقيات الممارسة السياسية للقيادة الحزبية، من فساد أخلاقي إلى فساد مالي، حتى أصبح من الطبيعي من خلال الإقصاء من الحوار أو الدعوة إلى تحويل الجبهة إلى المتحف، أن تجني جبهة التحرير الوطني حصيلة ذلك الفساد الأخلاقي والسياسي والمالي، بعدما أصبحت العضوية في اللجنة المركزية والحصانة البرلمانية تشترى بالمال أو بالجسد".
ويشدد البرلماني السابق، إبراهيم قار علي لـ "عربي21" أن التركيبة البشرية للحزب تغيرت من القمة إلى القاعدة، وفقد الحزب مناضليه ومناصريه ومؤيدبه ومنتخبيه، ولم يعد يتوفر سوى على تجار زبائن يبيعون ويشترون المناصب الانتخابية، وحتى الوزارية من البلدية إلى البرلمان إلى الحكومة ، حتى بلغ الأمر أن أصبح منصب رئيس الجمهورية في المزاد !!
كما يعترف إبراهيم قار علي أن أغلبية مناضلي الحزب أصبحوا يشعرون بالغربة مع "قيادة حزبية تتشكل من العصابة، أو أنها تشكل الذراع السياسي للعصابة الموجودة في السجن العسكري بالبليدة أو بالسجن المدني بالحراش، ومن ثم فإن العصابة قد أصبحت في حيدرة (مقر الحزب بضواحي العاصمة)".
وبخصوص الدعوات لإحالة الحزب إلى المتحف، يقول: "إذا كان لا بد من المتحف، فإنني أدعو إلى حل كل الأحزاب الموجودة وليس الحزب العتيد فقط ، وإعادة بناء حزب من جديد للساحة السياسية بعد الثورة الشعبية السلمية، حيث تبرز الكفاءة التي وحدها تقضي على الرداءة ، أما إذا ما استمر وضع الأمر الواقع، فإنه يتعين على المناضلين الشرفاء بثورة سياسية داخل هياكل الحزب، فالأولوية النضالية هي تحرير جبهة التحرير من العصابة.
ويختم النائب السابق إبراهيم قار علي بهذه الكلمات المؤثرة: "هذه ليست جبهة التحرير، ولكنها تسمى باسم المسير الذي بسيرها القادم من المال الفاسد الذي يجمع من تهريب البنزين والكوكايين والشيفون، هذا الحزب ليس حزبا وهذه الجبهة ليس جبهة، ولكنه تجمع للبارونات والانتهازيين والمقاولين المزيفين والمحتالين، لكم جبهتكم ولي جبهتي".
حزب الأغلبية .. ولا يحكم
في المقابل، ما يزال هنالك مناضلون يؤمنون بقدرة الحزب على العودة وعلى تنظيف نفسه من الدخلاء، وعلى قدرة القيادة الجديدة ممثلة في محمد جميعي على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
وهنا يعتبر الدكتور محمد عماري، عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير مكلف بالإعلام، أن الدعوة إلى إقصاء حزب جبهة التحرير الوطني من مشاورات الحوار مصدرها مريب؛ إنها تمثل سقوطا في سياسات الإقصاء نفسها، التي خرج بسببها وانتفض الجزائريون على سياسة الرئيس السابق. مضيفا، "إن الجزائر الجديدة التي يطمح إليها الجميع منذ 22 شباط/فبراير، يجب أن تقوم على محاربة السلوكيات التي كانت سائدة سابقا. لا يقبل إقصاء حزب جبهة التحرير الوطني أو أي فصيل آخر من مسارات الحوار، بل ينبغي أن يفتح الباب لجميع الأطراف للمساهمة في الخروج من الوضع الحالي".
في عهد الرئيس السابق كانت المعارضة تسخر من حزب جبهة التحرير الوطني بالقول، إنه حزب الأغلبية لكنه لا يحكم؛ وهو قول صحيح لأن الحزب كان مجرد واجهة للمجموعات التي تفردت بالقرار واستولت على كل مؤسسات الدولة، بتواطؤ من القيادات التي تم وضعها على رأس الحزب. حزب جبهة التحرير الوطني كان يحوز الأغلبية في غرفتي البرلمان، لكنه كان أقلية في الحكومة وهو وضع غريب جدا، لكن لا أحد في الحزب كان بوسعه أن يرفض الوضع أو يقول لا.
ويخلص الدكتور محمد عماري في حديثه لـ "عربي21" ردا على سؤال قدرة القيادة الجديدة على تجاوز المحنة: بالتأكيد أن الأمين العام الحالي للحزب؛ محمد جميعي، هو الوحيد الذي وصل القيادة بالصندوق أي بالانتخاب، ومن ثم فهو يتمتع بشرعية أقوى ممن سبقه على رأس الحزب، هو يملك مشروعا لتجديد مؤسسات الحزب، وقد بدأ فعلا في ذلك من خلال تشبيب تشكيلة المكتب السياسي بشكل غير مسبوق؛ إنه يقوم بما يشبه انقلابا ناعما، من شأنه أن يعيد الثقة في حزب جبهة التحرير الوطني عند الجزائريين؛ فلقد بدأ عهدته على رأس الحزب بطلب الاعتذار من الشعب على ما ارتكب باسم جبهة التحرير طيلة عقدين من الزمن، وتعهد بإعادة الحزب إلى أحضان الشعب.
قبل أن يستدرك في الأخير أنه "رغم الثقة والدعم الذي يحظى به من قبل أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي، إلا أن المعيقات بدأت تظهر أمامه من داخل الحزب ومن خارجه؛ لأن كثيرا من مراكز القرار لا تقبل أبدا بأن يتحرر حزب جبهة التحرير الوطني ويستقل بقراره".
هل يكفي الاعتذار للشعب؟
الآن، تعود أجراس تلك القصيدة المدوية، للشاعر أزراج عمر، مخاطبا فيها سنوات الثمانينيات من القرن الماضي جبهة التحرير الوطني (أيها الحزب تجدد أو تعدد أو تبدد)، لتقرع أجراسها والقوافي مرة أخرى، لكن هذه المرة، ستكون الجبهة أمام معضلة "التبدد" والانقراض، بعد أن جربت في التسعينيات مقترح "التعدد" بقبولها خروج الأحزاب من تحت عباءتها، ذلك أنه إذا لم يكن هنالك تجديد حقيقي اليوم في الخطاب والنضال والتخندق مع الجماهير، فإن شعار بناء دولة نوفمبرية تحمي إرث الشهداء وتدافع عن حقوق الأحياء معا، لن يكون مجديا البتة في "مخادعة" الشعب مرة أخرى.
صحيح أن الجبهة إرث كبير، يصعب التخلي عنه، والانسياق وراء دعوات إعادته إلى المتحف، تحمل الكثير من المخاطر، ذلك أن أشد خصوم ثورة التحرير، وأعداء الوطن الأيديولوجيين من العلمانيين وأذناب فرنسا في الداخل، يتمنون هذا الأمر بشغف كبير، لأن الجبهة وإن بعلاتها وكوارثها، تبقى في نظر الكثيرين صمام أمان ورمانة ميزان، وحائط صدٍّ هائل، أمام تيارات التغريب والخيانة. وإن وجود الجبهة بامتداداتها الشعبية العميقة، على الرغم من الأخطاء والانحرافات الخطيرة التي عرفتها في العقدين الأخيرين، كفيل بلجم أعداء العروبة والانتماء في الجزائر وما أكثرهم.
فهل يكفي الاعتذار وحده الذي قدمته الجبهة للشعب بعد سقوط بوتفليقة، لكي تنال "صك الغفران" من الجماهير الثائرة والغاضبة، عن كل آثامها في حق هذا الشعب؟ أم إن الأمر يحتاج أيضا إلى الاعتذار من روح المؤسسين الأوائل أمثال العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد وغيرهم؟
الحقيقة أن الأمر سيكون صعبا جدا ومكلفا لكي تعود الجبهة إلى سابق عذريتها الثورية، وإلى روح الجبهة التي يتغنى بها الملايين في النشيد الوطني "جبهة التحرير أعطيناك عهدا".
ربما احتاج الأمر إلى بعض الوقت، لكنه بالتأكيد يحتاج إلى كثير من الصدق والإخلاص، لتجاوز مرحلة سوداء قاتمة، هندس فصولها المعتمة عبد العزيز بوتفليقة، وطبقتها قيادات لا تعرف معنى الثورة ولا الوطن.