هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، تقريرا تحدث فيه عن الرابحين والخاسرين في صفقة مصر مع صندوق النقد الدولي، بعد استلام القاهرة الشريحة الأخيرة من القرض البالغة قيمته 12 مليار دولار.
وقال التقرير الذي أعده الصحفي البريطاني توم ستيفنسون، إن آثار هذه الصفقة مختلطة ومتباينة، فبينما يسدد صندوق النقد الدولي آخر دفعة من قرضه، يقول أهل الاقتصاد إن برنامج السنوات الثلاث قد أفاد المستثمرين، إلا أن أوضاع كثير من المصريين لم تزدد إلا سوءاً.
وفي ما يأتي نص التقرير الذي ترجمته "عربي21":
أقر صندوق النقد الدولي في شهر يوليو/ تموز آخر دفعة في قرض الإنقاذ الذي منحه لمصر بقيمة 12 مليار دولار، فختم بذلك برنامجاً يستهدف إخراج البلد من أزمتها الاقتصادية الممتدة، والتي نجمت عن سنوات من الاضطراب السياسي.
ولكن بعد ثلاثة أعوام، كانت آثار صفقة صندوق النقد الدولي مع مصر
مختلطة ومتباينة.
وفي تقييمه النهائي للبرنامج، أشاد صندوق النقد الدولي بالحكومة المصرية لإنفاذها حزمة من الإجراءات المالية التقشفية – بما في ذلك تقليص الإنفاق ورفع الدعم، والخصخصة، وتخفيض قيمة العملة – وهي إجراءات صممت لأجل أن تصبح مصر أكثر جذباً لرأس المال الدولي.
بالإجمال، التزمت الحكومة المصرية بقيود صندوق النقد الدولي، وبينما لن يستمر الصندوق في توفير دعمه للميزانية، إلا أن وزارة المالية تنوي مطالبة صندوق النقد الدولي بالاستمرار في تقديم المساعدة الفنية.
ولكن رغم ما طرأ من تحسن على مؤشراتها الاقتصادية الكلية، بما في ذلك نمو الناتج الإجمالي المحلي، فإن هناك عدة توجهات مقلقة في ما يخص اقتصاد البلاد وصحتها المالية.
اقرأ أيضا: مصر تتسلم الشريحة الأخيرة من قرض صندوق النقد الدولي
التجار يكسبون والمصريون يخسرون
على امتداد السنوات الثلاث الماضية، ارتفعت ديون مصر الخارجية إلى عنان السماء. وبينما عاد تخفيض قيمة الجنيه المصري بأرباح طائلة على تجار العملات الدوليين، فإن ظروف المعيشة لمعظم الناس في البلاد تدهورت.
وكان صندوق النقد الدولي يأمل في أن برنامجه التقشفي، وبشكل خاص تخفيض قيمة العملة في عام 2016، سيؤدي إلى نمو سريع في الصادرات. إلا أن النمو الكبير الوحيد في الصادرات جاء من قطاع الغاز الذي لا يخلق سوى القليل من فرص العمل.
ورغم أن أوضاع مصر المالية ربما تكون قد تحسنت في بعض القطاعات، إلا أن البلاد مازالت تحدق بها الأخطار على المدى الأبعد. ولا أدل على ذلك من أن الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2019 شهدت تقريباً تضاعف العجز في الحسابات الجارية.
وطبقاً لجيسون توفيه، الخبير الاقتصادي في شؤون الأسواق الصاعدة لدى مؤسسة كابيتول إيكونوميكس، فإن هناك العديد من الأسباب التي تبعث على التشاؤم في ما يتعلق بوضع الاقتصاد المصري على المدى البعيد.
يقول ضارباً المثل بخمول إنتاجية الاقتصاد المصري: "لا تزال العديد من القيود البنيوية التي تواجه الاقتصاد موجودة على حالها وسوف يكون التغلب عليها أمراً في غاية الصعوبة".
اقرأ أيضا: بلومبيرغ عن الاقتصاد المصري: الفقر يزداد رغم تباطؤ التضخم
لا ريب أنه كانت هناك بعض النجاحات. فالتضخم الذي وصل ذروته متجاوزاً ثلاثين بالمائة في عام 2017 أمكن خفضه إلى 9.4 بالمائة. كما أن البطالة تراجعت من مستواها المرتفع عند 12 بالمائة تقريباً لتصل إلى 8.1 بالمائة.
إلا أن المشاركة العمالية – أي النسبة المئوية للسكان الذين يشكلون جزءاً من القوة العاملة – انخفضت، بما يؤشر على ارتفاع نسبة البطالة على المدى البعيد.
وكان البنك الدولي قد نشر في شهر يوليو/ تموز تقييماً لمسار مصر، ولاحظ أن تخفيض قيمة العملة لم يؤد إلى نمو في الصادرات غير النفطية، وأن مصر بحاجة لتحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من المعدل المتوقع حالياً ونسبته 5.5 بالمائة حتى تتمكن من توفير فرص عمل تتناسب مع النمو السكاني.
وكشف تحليل البنك الدول أنه بينما قامت الحكومة بتقليص مجمل الإنفاق الحكومي، فقد أقدمت على تخفيض الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم إلى نسبة 1.6 بالمائة ونسبة 2.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو دون المستويات التي يشترطها الدستور المصري.
يقول توفيه: "لا تبدو الحكومة ملتزمة بالإصلاحات البنيوية المطلوبة لإحداث تحسن بارز في فرص مصر على المدى البعيد، مثل زيادة الاستثمار الإجمالي في الاقتصاد".
اقرأ أيضا: هذه أسباب فشل "برامج السيسي" في حماية المصريين من الفقر
الوقود والزيت والغذاء ارتفعت تكاليفها
بينما حقق التجار أرباحاً جيدة بسبب تخفيض قيمة الجنيه، شهد معظم المصريين تراجعاً كبيراً في مستويات معيشتهم نتيجة للإجراءات التي اشترط صندوق النقد الدولي اتخاذها.
والآن بات نصف السكان تقريباً – أي ما تعداده أقل قليلاً من خمسين مليون نسمة – يعيشون في حالة من الفقر أو قريباً منها، وهي الحالة التي يعرفها البنك الدولي بأنها العيش على 1.9 دولار في اليوم الواحد. ومنذ عام 2011، ارتفعت النسبة المئوية للمصريين الذين يعيشون دون خط الفقر من 25.2 بالمائة إلى 32.5 بالمائة.
وبالمجمل، رأي معظم المصريين دخولهم الحقيقية تتراجع ما أفقدهم المزيد من القوة الشرائية. وذلك ناجم إلى حد بعيد عن إصلاحات صندوق النقد الدولي، والتي دفعت الحكومة المصرية لأن ترفع أسعار الغاز والزيت المستخدمين في الطهي والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والحليب والعدس.
ويوم الخامس من يوليو/ تموز، جرى رفع حزمة أخرى من الدعم ما رفع أسعار الوقود للمرة الرابعة منذ عام 2016.
في هذه الأثناء تدافع على السوق المصرية تجار الترجيح الذين يقترضون بمعدلات فائدة منخفضة على الدولار ثم يحولون ذلك إلى العملات المحلية ليشتروا سندات ذات معدلات فائدة مرتفعة.
وبحسب ما صدر عن بلومبيرغ من بيانات فقد كانت تجارة الترجيح المصرية هذا العام هي الأكثر ربحية في العالم.
اقرأ أيضا: أرقام رسمية تشير لارتفاع نسب القابعين تحت خط الفقر بمصر
بيع شركات الدولة
وأدى برنامج صندوق النقد الدولي إلى خصخصة الشركات المملوكة للدولة لتوفير المال للدولة وجذب رأس المال الأجنبي.
ومن هذه الشركات، الشركة الشرقية، وهي شركة صناعة سجائر تملكها الدولة المصرية من خلال شركة قابضة هي شركة الصناعات الكيميائية القابضة، والتي يرأس مجلس إدارتها جنرال متقاعد ووزير سابق للصناعات الحربية. ولقد عرضت الشركة أسهما للاكتتاب الأولي في شهر مارس/ آذار.
وهناك خطط لإجراء خصخصة جزئية في كل من بنك القاهرة والبنك المتحد المملوكين للدولة.
ولقد بدأت الحكومة فعلاً في بيع الشركات المملوكة للدولة عبر طرح أسهم فيها للبيع لمستثمرين دوليين كبار ولمؤسسات مالية في منطقة الخليج العربي بالإضافة إلى منح قدر ضئيل من الأسهم عبر الاكتتاب في البورصة المصرية.
إلا أن الشركات المملوكة للجيش المصري، والتي تشكل حصة ضخمة من الاقتصاد، لم تشملها بعد خطط الخصخصة. ويذكر أن عائدات وأرباح هذه الشركات ارتفعت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وكان قد تم إعفاء المصالح التجارية المملوكة للجيش من ضريبة القيمة المضافة المفروضة على السلع الاستهلاكية والتي جاء بها برنامج صندوق النقد الدولي.
اقرأ أيضا: المصريون يدفعون من جيوبهم ضريبة الاقتراض من النقد الدولي
ديون متراكمة
تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر هذا العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. في نفس الوقت راكمت مصر ديوناً دولية ضخمة بالعملات الأجنبية من خلال الاقتراض من المؤسسات الدولية وفي الأسواق العالمية.
وعلى الرغم من أن اقتراض مصر من صندوق النقد الدولي ومن غيره من المؤسسات المالية الدولية يأتي عبر معدلات فائدة منخفضة إلا أن ديونها في أسواق رأس المال العالمية ليست بهذا اليسر.
في شهر إبريل/ نيسان، أصدرت مصر 750 مليون يورو من الديون في أسواق السندات العالمية بمعدل فائدة يصل إلى 4.75 بالمائة. وفي التاسع عشر من فبراير/ شباط، اقترضت الحكومة أربعة مليارات دولار من أسواق السندات لمدد تتراوح بين خمس سنوات وثلاثين سنة بمعدل فائدة يقترب من سبعة بالمائة.
ما من شك في أن هذه الزيادة الكبيرة منذ عام 2016 في اقتراض مصر من الأسواق العالمية تكتنفها مخاطر. ففيما لو طرأ تغير على ظروف الأسواق العالمية فإن السوق – الذي يتحمل الآن ديوناً خارجية تساوي تقريباً ما نسبته أربعين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي – قد يصبح عرضة للأخطار.
وبحسب ما يقوله باسكال دوفيه، الخبير الاقتصادي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مصرف بي إن بيه باريباس، فقد لا تكون مصر مهددة بأزمة في ميزان المدفوعات – حينما لا تكون قادرة على دفع تكاليف الواردات الأساسية أو سداد أقساط ديونها – على المدى القصير طالما حافظ البنك المركزي على احتياطيه من الدولارات.
ويقول دوفيه: "ولكن على المدى المتوسط قد تتعرض للأخطار بفعل تغير يطرأ على ثقة المستثمرين الأجانب أو بسبب تدهور في ميزان الطاقة أو انخفاض في الموارد التي توفرها السياحة".
يشكل سداد فوائد الديون أكبر جزئية في ميزانية الحكومة، حيث يمثل 36 بالمائة من الإنفاق الحكومي الإجمالي، وطرأ ارتفاع كبير على مستوى الدين مقابل الصادرات الإجمالية.
ما يقرب من سبعين بالمائة من الضرائب التي يدفعها المواطنون المصريون يسخر الآن لخدمة الدين بدلاً من تمويل التنمية والخدمات العامة.
وبالنسبة لمركز الاستثمار الدولي الصافي الخاص بمصر – وهو صافي موجوداتها والتزاماتها مع بقية العالم – فقد صار الآن سالب 64 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا أدنى بكثير من الحد الاحتراسي الذي تحدده المفوضية الأوروبية للبلد.
اعترافاً منها بالمشكلة، قامت وزارة المالية في الخامس من مايو/ أيار بنشر استراتيجية لإدارة الدين، حيث تهدف الوزارة إلى تقليص الاعتماد على الدين قصير المدى واقتراض المزيد من شرق آسيا سعياً للحصول على معدلات أفضل. ولكن يبدو أن الخطة في مجملها ما هي سوى إعادة تدوير لشيء مشابه من عام 2015.
اقرأ أيضا: "معركة المؤشرات".. هل يتعافى اقتصاد مصر أم ينهار؟ (ملف)
تعافي السياحة والغاز
طرأ بعض التعافي على قطاع السياحة، والذي يعتبر أهم مصدر للموارد بالعملات الأجنبية متقدماً في ذلك على الدخل الوارد من قناة السويس ومن مبيعات مشتقات النفط. ولقد ساهم ذلك في زيادة احتياطي مصر من العملات الأجنبية وفي تحسين الاقتصاد.
إلا أن تعليق رحلات الخطوط البريطانية إلى القاهرة لمدة ستة أيام ابتداء من العشرين من يوليو/ تموز يشير إلى أن التعافي في قطاع السياحة هو الآخر عرضة للتهديد وللصدمات.
تقول علياء ممدوح، الخبيرة الاقتصادية في بيلتون فايننشال، إحدى شركات السمسرة التي تتخذ من القاهرة مقراً لها: "ما كنت لأتوقع نمواً إضافياً في السياحة خلال السنوات القادمة. هناك العديد من القضايا البنيوية في قطاع السياحة بعد سنوات من الإقالات والإغلاقات، ولذلك يحتاج القطاع إلى الكثير من الاستثمارات".
كان صندوق النقد الدولي يخطط لأن يؤدي تخفيض قيمة الجنيه المصري إلى نمو في صادرات مصر، والذي كان سيعزز الحسابات الوطنية ويواجه مخاطر الديون المتراكمة.
إلا أنه فيما عدا قطاع النفط والغاز لم تشهد الصادرات نمواً يستحق الذكر. وبحسب ما قالته علياء ممدوح في تصريح لميدل إيست آي فإن "البلدان التي تخفض قيمة عملاتها تشهد في العادة تضاعف الصادرات مرتين أو حتى ثلاث مرات، ولكن لم يحدث شيء من ذلك".
في شهر إبريل/ نيسان أصبحت مصر رسمياً بلداً مصدراً للغاز الطبيعي، وفي شهر يوليو/ تموز أعلنت شركة النفط الإيطالية إي إن آي أنها ستبدأ الإنتاج من حقل غرب مليحة، والذي تملكه شركة إي إن آي بالشراكة مع المؤسسة العامة للنفط في مصر والمملوكة للدولة.
وأعلنت شركة إي إن آي عن اكتشافات للنفط والغاز في حقول أبو رديس والقرعة.
مع انتهاء برنامج صندوق النقد الدولي، سيواجه الاقتصاد المصري سلسلة من المخاطر التي تهدد سلامته على المدى البعيد.
من الممكن أن يؤدي الانسحاب من المؤسسات المالية العالمية أو زيادة تكاليف الإنفاق على ديون مصر الخارجية إلى تعريض الاقتصاد لتهديدات خطيرة. كما يمكن أن تنجم المخاطر عن تخفيض إضافي في قيمة الجنيه المصري أو عن تراجع في موارد الغاز.
وللتغلب على هذه المصاعب، تحتاج مصر للقيام بإصلاحات أكبر من شأنها أن تؤدي إلى تقليص الفقر وزيارة الاستثمار المحلي وتنشيط التنمية بعيدة المدى، كما يقول خبراء الاقتصاد.
ولكن جيسون توفيه من كابيتال إيكونوميكس تراوده شكوك بأن ذلك سيحدث، ويقول: "نعتقد بأن أصحاب المصالح، بما في ذلك من داخل النظام نفسه، سيصعب التغلب عليهم وسوف يستمرون في إعاقة الإصلاحات البنيوية".