هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
التوترات والأزمات الراهنة مع إيران مركبة ومعقدة، وتحت مسميات وعناوين ومظاهر متعددة، لكن جميعها متداخلة ومتشابكة، بحيث أن التعاطي مع أي منها بشكل منفصل عن البقية يقدم صورة ناقصة وأحيانا انحرافية عن الواقع الراهن، وبالتالي ستدخلنا في متاهات تحليلية وتكهنية، تبعدنا عن حقيقة الأمور 180 درجة.
تعود جذور هذه التوترات إلى عامل قديم ومستمر،
هو الصراع بين إيران والغرب بشكل عام، وإيران والولايات المتحدة الأمريكية بشكل
خاص، لكن السبب الحديث، في الوقت نفسه، هو الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في
أيار/مايو 2018، والذي شكل منعطفا مفصليا في تاريخ هذا الصراع، ليعيده إلى
الواجهة مجددا بأقوى شكل ممكن.
وعلى ضوء هذه القراءة، فأزمة الناقلات اليوم
بين طهران ولندن، ليست إلا إحدى مظاهر هذا الصراع المديد، وفي الوقت نفسه، إحدى
إفرازات انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
لذلك فإن هذه الأزمة ليست بين إيران وبريطانيا، وحدهما، بل بالأساس وبالقدر نفسها وربما بدرجة أكبر، هي تندرج تحت عنوان التوتر المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
فبغض النظر عن المسوغات التي قدمتها لندن حول احتجاز ناقلة النفط "غريس 1" في الرابع من الشهر السابق، في مياه جبل طارق، والحديث عن أنها احتجزت لانتهاكها العقوبات الأوروبية بتوجها نحو سورية، إلا أن هذا الإجراء البريطاني، جاء في سياق الحظر الأمريكي الشامل للنفط الإيراني وصادراته، بغية تصفيرها، ومن هنا فالرواية الإسبانية أن بريطانيا قامت باحتجاز الناقلة بطلب من أميركا، هي الأكثر مصداقية من تلك الرواية التي تقدمها الحكومة البريطانية نفسها.
كما أنه على الرغم من المسوغات
"القانونية" الإيرانية حول توقيف ناقلة النفط "ستينا
إمبيروا"، إلا أن الدافع سياسي للرد بالمثل على الإجراء البريطاني، والتي
لطالما هددت به طهران، ولو غلف بثوب القانون.
مع ذلك فإن المبررات الظاهرية لها من الوجاهة القانونية أيضا، لأنه على ما يبدو أن الناقلة البريطانية خشيت احتجازها بسبب التهديدات الإيرانية كانت قد أطفأت أجهزة التتبع لديها أثناء العبور من مضيق هرمز، وبذلك ارتكبت مخالفات قانونية بموجب قوانين الملاحة البحرية.
أما الرسالة الإيرانية بتوقيف الناقلة
البريطانية، فتتجاوز سياق الرد بالمثل على إجراء محدد، إلى كونها تحذير عام لكل من
واشنطن ولندن وغيرهما من أي تعرض لناقلاتها في المياه العالمية، على ضوء وجود مخطط
أمريكي لتصفير صادرات النفط الإيرانية، لذلك كانت تراود صناع القرار الإيراني
مخاوف من أن عدم الرد على توقيف الناقلة في جبل طارق، يشجع على تكرار الفعل نفسه
في أنحاء العالم ضد ناقلاتها بغية تحقيق هدف تصفير صادراتها.
أما اليوم، وإيران قد نفذت تهديداتها بتوقيف
ناقلة لبريطانيا وفقا لمعادلة "واحدة مقابل واحدة"، ترفض الأخيرة الرضوخ
لهذه المعادلة من خلال القبول بتبادل الناقلات، وهو الأمر الذي أكد عليه وزير
الخارجية البريطاني الجديد، دومينيك راب، مرتين خلال الأسبوع الماضي، ما يطرح
تساؤلات عدة حول مصير أزمة الناقلات بين البلدين.
وجاء الرفض البريطاني، بينما أرسلت إيران على
لسان أكثر من مسؤول لها، إشارات تفيد باستعدادها لهذا التبادل، إذ قال الرئيس
الإيراني، حسن روحاني إن طهران مستعدة للتعامل بحس نية في حال تخلت لندن عن تصرفها
في جبل طارق.
على ضوء رفض الحكومة البريطانية الجديدة لتسوية
الأزمة من خلال تبادل الناقلات، يمكننا توقع احتمالين أو سيناريوهين لمصير هذه
الأزمة، الأول هو أن تحدث عملية تبادل غير مباشرة، بمعنى أن بريطانيا تعلم جيدا أن
ناقلتها احتجزت ردا على احتجازها الناقلة الإيرانية، بالتالي يمكن أن تقرر الإفراج
عن الناقلة الإيرانية من دون أي مفاوضات مع إيران، بعد انتهاء المدة الثانية
لاحتجازها، بموجب قرار المحكمة العليا لجبل طارق، وهي 30 يوما، تنتهي في 18 آب/ أغسطس الجاري، لكي يتبعها إجراء إيراني مماثل، كما وعد به روحاني.
هنا وفي حال فعلت ذلك بريطانيا، فثمة سؤال سيطرح سريعا حول مصير الضمانات التي طلبتها لندن من طهران بعدم توجه الناقلة الإيرانية نحو سوريا، والأخيرة ترفضها، وإن كانت بريطانيا ستكتفي بتأكيدات إيران على أن وجهة ناقلتها لم تكن سوريا؟
على أي حال، وفي حال تم الإفراج عن الناقلات
بالطريقة التي سبق ذكرها، فإن ذلك لا يعني شيئا سوى عملية تبادل، ولو غير مباشرة
ومن دون مفاوضات، مما يعني بطبيعة الحال أن بريطانيا شاءت أم أبت، تكون قد رضخت
للمعادلة الإيرانية (واحدة مقابل واحدة وإفراج مقابل إفراج).
لكن السيناريو الثاني، هو إطالة الأزمة انطلاقا
من عدم رغبة بريطانيا بحلها حاليا، وأنها تنظر إليها كفرصة "ثمينة"
لاستغلالها أشد الاستغلال في سياق تشديد الضغوط على إيران.
وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى المحاولات البريطانية لتشكيل تحالف بحري عسكري في مضيق هرمز ومياه المنطقة، توظيفا لأزمة الناقلات، مما يعني أن انتهاء هذه الأزمة عن طريق التبادل، لا يخدم تشكيل التحالف، ويعرقل المشروع، إن لم يصبه في مقتل.
فعليه، وإن كان هذا السيناريو هو الذي تفضله بريطانيا، فلا شك أنه لايستهدف فقط تحميل إيران أثمانا باهظة على احتجاز
ناقلتها، وإنما سيكون متماشيا بالكامل مع استراتيجية تشديد الضغوط الأمريكية لسحب
ورقة مضيق هرمز من إيران على المدى البعيد وتدويل الممر.
وإن كان هذا هو الهدف وراء تشكيل التحالفات البحرية،
فإن ذلك بكل تأكيد سيرفع التوتر في المنطقة إلى مستويات خطيرة للغاية ويدفع
الأوضاع إلى الهاوية، وسيجعل مياهها ساخنة ليس لسنوات قادمة، وإنما لعقود.
مضيق هرمز يندرج في "الخطوط الحمر"
الإيرانية، ومن ضمن المصالح القومية العليا للبلاد، لذلك يتوقع أن تواجه طهران
مشروع السيطرة على المضيق بجهود مضادة وتصعيد في المياه الإقليمية.
إلى ذلك، فمن الأهداف البريطانية المحتملة الأخرى من وراء إطالة أزمة الناقلات، أن تضع دواليب في عجلة علاقات إيران مع كل من روسيا والهند، وهما دولتان صديقتان لها، لأن 21 شخصا من أصل 23 فردا من طاقم الناقلة البريطانية، هم هنود (18 فردا) وروس (3 أشخاص)، لأن التأخير في الإفراج عن الناقلة البريطانية سيدفع الدولتين إلى المطالبة بالإفراج عن مواطنيهما، وهذا قد يشكل إحراجا لإيران، التي من الصعب أن تقبل بإطلاق سراح هؤلاء قبل تسوية موضوع الناقلات.
واللافت هنا أنه لا يوجد من بين طاقم السفينة أي مواطن بريطاني، الأمر الذي لا يشكل ضغطا على بريطانيا لتبدي عجلة في أمرها نحو حل وتسوية ما.
عموما بغض النظر عن أن أيا من السيناريوهين مرجح
في لندن، إلا أنه يستبعد أن يتم الإفراج عن الناقلة الإيرانية قبل الثامن عشر من
الشهر الجاري، أي قبل انتهاء مدة الـ30 يوما، التي مددتها المحكمة العليا في
جبل طارق لاحتجازها، لكن هذا التاريخ يشكل معيارا مهما لتشخيص السيناريو الذي
تمارسه بريطانيا، حيث إنه إن لم تمدد المحكمة احتجاز السفينة الإيرانية في هذا
التاريخ، فيمكن اعتبار الخطوة بمثابة التوجه للإفراج عن الناقلة الإيرانية وأنه
سيتبعها إفراج إيران أيضا عن الناقلة البريطانية، مما يعني انتهاء أزمة الناقلات.
وفي حال حدث ذلك، فإنه يعني تنفيذ الاحتمال الأول، أي التبادل غير المباشر.
لكن في حال تم تمديد مدة توقيف الناقلة
الإيرانية فإن ذلك يمثل مؤشرا مهما على أن بريطانيا تنفذ السيناريو الثاني، أي أنها بصدد إطالة الأزمة بغية التوصل لتلك الأهداف التي أوردها المقال آنفا.