أفكَار

المغرب.. أسرار العودة إلى اللغة الفرنسية في المواد العلمية

المغرب.. جدل حول أسباب العودة إلى الفرنسية في تعليم بعض المواد العلمية  (الأناضول)
المغرب.. جدل حول أسباب العودة إلى الفرنسية في تعليم بعض المواد العلمية (الأناضول)

أثار قانون مغربي يسمح بالعودة لتدريس بعض المواد العلمية باللغة الفرنسية بعد عقود من تعريبها، جدلا واسعا في الأوساط السياسية والعلمية في المغرب والعالم العربي، ليس بسبب التاريخ الاستعماري الذي يربط منطقة شمال إفريقيا بالمستعمر الفرنسي فحسب، وإنما لأن مشروع التعريب، الذي قادته نخب وطنية كافحت لعقود طويلة ضد الاستعمار وسياساته، تبدو كما لو أنها انتهت إلى الهزيمة. 

وما زاد من حدة الجدل، أن التراجع عن اللغة العربية في مثل هذه المواد العلمية، يأتي في وقت تتصدر فيه قوى إسلامية المشهد السياسي في المغرب، والتي وجدت نفسها في مأزق سياسي وثقافي في آن واحد، إذ كيف لهذه القوى أن تبرر تنازلها عن مشروعها الحضاري، الذي تمثل اللغة العربية جوهره، وبه وصلت إلى الحكم وحازت على أصوات ناخبيها، وماذا تبقى لها من خصوصية المشروع إذا كانت قد اندمجت في ذات المشاريع الثقافية والحضارية التي سبقتها لها في ذلك تيارات موغلة في الحداثة؟

الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، يرصد في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، والذي ننشره في حلقتين، الخلفية التاريخية والمفاهيمية للقانون الإطار، وكيفية صياغته حتى حصوله على ثقة البرلمان، ثم يتساءل عن التداعيات السياسية الممكنة لهذا القانون، وما إذا كانت موافقة الإسلاميين على تمريره بمثابة هزيمة ثقافية ستكون لها تداعيات سياسية.

هندسة لغوية توافقية 

بعد سنوات طويلة من النقاش داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب، تمت بلورة رؤية استراتيجية، حسمت في الاختيارات اللغوية، ووضعت هندسة لغوية توافقية بين مختلف الطيف السياسي، تنتصر للغة العربية باعتبارها لغة التدريس الأساسية، وتتيح الفرصة لتناوب لغوي يسمح بتدريس بعض المجزوءات والمضامين في المواد العلمية بلغات أجنبية، لكن بتحفظات أبعدت هذا الخيار عن ساحة التعليم الأساسي، مكتفية بالتعليم الثانوي والإعدادي مع وضع شرط الآجال، الثانوي التأهيلي في المدى القريب، والإعدادي في المدى المتوسط، مع ضرورة إخضاع هذه العملية برمتها للتقييم والنظر في نتائجها.

على غرار ما نشهده هذه الأيام في الجزائر، تفجر التوتر قبل ذلك في المغرب داخل المجلس الأعلى على خلفية اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية أولى، وتم الاحتجاج بوضعية اللغة الفرنسية المتراجعة كلغة للبحث العلمي، وتصدر الإنجليزية لمواقع الصدارة في هذا الإطار، لكن النقاش لم يذهب بعيدا في الموضوع بحكم إمساك رئاسة المجلس بزمام المبادرة، وعملها على منع هذا السيناريو الذي لم يكن مدعوما فقط من طرف الإسلاميين، بل وجد صداه حتى داخل بعض النخب التي كانت تحسب على التيار الفرنكفوني.

ومع أن قضية لغة التدريس تم حسمها عبر التوافق المعبر عنه في صيغة الهندسة اللغوية التي اعتمدتها الرؤية الاستراتيجية، إلا أن بعض الجهات الفرنكفونية لم تطمئن للكسب الجزئي الذي حققته اللغة الفرنسية، بحكم أنه جاء محكوما بجملة شروط وضوابط تضيق عليه، أولا من جهة أن التجربة لن تشمل إلا مجزوءات ومضامين وستظل اللغة العربية هي لغة التدريس في المواد العلمية، وثانيا، لأن الأمر لن يمس التعليم الأساسي، وإنما سيشمل المستوى الثانوي، وثالثا، لأن الأمر لا يخص اللغة الفرنسية، وإنما يخص غيرها من اللغات ألأجنبية، بما يعني تسويتها مع اللغة الإنجليزية في الكسب القانوني، ورابعها هو المستويات المعتمدة، إذ لن يعتمد تدريس المضامين والمجزوءات إلا في المستوى الثانوي في المدى القريب وستؤجل هذه الخطوة في التعليم الإعدادي للمدى المتوسط، وخامسها لأن العملية برمتها ستخضع للتقييم والنظر في نتائجها للحكم بعد ذلك بإمكان العمل بها أو مراجعتها.

النخب الفرنكفونية لم تطمئن أبدا لهذه الصيغة، وحاولت أن تستدرك الموقف، غير أنها لم تجد من سبيل سوى محاولة إيجاد ثغرة للانسياب من داخل المسار المؤسساتي، فتمت المفاجأة بتغيير الصيغة بعد خروجها من رئاسة الحكومة إلى المجلس الوزاري.

لم يكن أحد يتوقع أن تكون لغة التدريس سببا في تفجير الصراع داخل "العدالة والتنمية"، وهي القضية التي تعتبر من ثوابت "العدالة والتنمية" وحدودها المعروفة، فقد جرت العادة أن التيار الذي أفرز حزب "العدالة والتنمية"، حاسما في قضية لغة التدريس لجهة اعتماد اللغة العربية اللغة الأساسية للتدريس، وعدم تقديم أي تنازل للتيار الفرنكفوني الذي كان يترصد المواقع للإجهاز على مسار التعريب وإنهائه جزئيا أو كليا.

غير أن غض قيادة "العدالة والتنمية" الطرف عن الخلل المؤسساتي، وانقلابها على المسار الذي انخرطت فيه إلى أن تبلورت الرؤية الاستراتيجية، وتم إعداد مشروع القانون الإطار في حضن رئاسة الحكومة (عبد الإله بنكيران)، ودعمها للصيغة الجديدة التي تنتصر لفرنسة تدريس المواد العلمية والتراجع عن التعريب، أدخل الحزب في توتر حاد، يرى البعض أن جذوره كانت بعيدة، فيما يرى آخرون أن تنازلات سعد الدين العثماني المتتالية كانت السبب في اندلاعه.

الثانوية العامة الفرنسية.. بداية المشكلة

يرى البعض أن المشكلة بدأت مبكرا مع مبادرة وزارة التربية الوطنية سنة 2013 من غير تشاور من رئيس الحكومة وقتها الأستاذ عبد الإله بنكيران لإقرار الباكالوريا (الثانوية العامة) الفرنسية في مذكرة بهذا الشأن وجهت لمدراء الأكاديميات والمديرين الإقليميين في القطاع، وذلك في ستة عشر مؤسسة ثانوية تأهيلية في تراب ثماني أكاديميات جهوية.

قرار استغرب الجميع مضمونه وسياقه وتوقيت تنزيله، إذ لم تكن من مقدمات تبرره، ولا مواد في برنامج الحكومة والحزب تدعمه، إلا ما كان من انفراد وزارة التربية الوطنية بالقرار، وحديث عن التزام بالموضوع أمام سفير فرنسا بالمغرب.

قرار تمت قراءته وقتها من قبل تيار عريض من حزب "العدالة والتنمية" بأنه يمثل مقدمات لشرخ في منظومة التربية والتكوين، ففضلا عن كونه يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص بإحياء الطابع الاستعماري التمييزي للتعليم، فإنه يؤسس لتعليم نظامي فرنسي في المغرب إلى جانب النظام التعليمي الوطني.

الغريب في الموقف أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المؤسسة الدستورية التي عهد إليها بنص الدستور بلورة التوجهات الكبرى لإصلاح التعليم في المغرب، كانت بصدد التداول في الخطوط الكبرى للإصلاح، وكانت بحكم المكونات المتباينة التي تضمها، تبحث بنسق توافقي عن صيغة لإصلاح المنظومة كلها، بما في ذلك نظام الثانوية العامة الذي تشكل البكالوريا الفرنسية أو الدولية جزءا من حيثياته، وهو ما كان يطرح داخل "العدالة والتنمية"، الذي كان شارك في هذه المؤسسة بأكثر من ممثل، سؤال الاستعجال في فرض واقع تعليمي جديد ينتصر للتوجه الفرنكفوني، قبل أن يبت المجلس الأعلى في الخطوط الكبرى لهذا الإصلاح، ويوجه القانون الإطار للبرلمان ليصادق عليه، بعد المرور في المجلس الوزاري.

فتوى الحكيم عبد الله بها رحمه الله

أمام هذا الواقع الذي لم تكن رئاسة الحكومة طرفا في إقراره، وجد الحزب نفسه أمام خيارات جد محدودة، لاسيما وأن سياق الخريف الديمقراطي كان يتمدد في المغرب العربي، وكانت آليات تفكيك الحكومة وتفجير أغلبيتها جارية  بزعامة  حزب الاستقلال (حميد شباط)، ففكر حكيم الحزب عبد الله بها وقتها في مناورة سياسية تمنع توسيع وتعميم الباكالوريا الفرنسية وذلك من خلال طرح فكرة اعتماد الباكالوريا الدولية المفتوحة، من غير احتكار لها من قبل الفرنسية، في انتظار أن يتم تسريع وتيرة بلورة الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين التي تضع الخطوط الإصلاحية في سياق شمولي، ومن ضمنها نظام الباكالوريا الوطني.

 



إدارة المعركة داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين

انطلقت المعركة الثانية داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على خلفية تدريس اللغات وليس لغة التدريس، وبدا وكأن الاتجاه يسير نحو اعتماد الإنجليزية كلغة أجنبية أولى، بحجة تراجع اللغة الفرنسية كلغة للبحث العلمي في العالم وتبوء اللغة الإنجليزية مراتب الصدارة، ودافع ممثلو "العدالة والتنمية" إلى جانب العديد من الخبراء عن هذا التوجه، الذي كاد أن يقرر لولا تدخل آخر ساعة من قبل المستشار الملكي عمر عزيمان الذي أعاد النقاش إلى مربع الصفر، واحتمى بفكرة تقوية اللغات الأجنبية، وتعزيزها والإبقاء على الوضع الاعتباري للغة الفرنسية، كلغة أجنبية أولى، لينتقل الجدل مرة أخرى إلى لغة التدريس، وتثار فكرة الإكراهات التعليمية التي يواجهها الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة العربية في المراحل الثانوية ليجدوها مفرنسة في التعليم الجامعي، وتنقسم وجهات النظر إلى قسمين: قسم يدافع عن إنهاء مسار التعريب، والفرنسة الكلية للمواد العلمية، وقسم يدافع عن إبقاء تدريس هذه المواد باللغة العربية، وعدم التفريط في الثوابت الدستورية.

 


وقد استمر الجدل طويلا، إلى أن تم استلهام فكرة التناوب اللغوي كحل وسط، بحيث تعتمد اللغة العربية باعتبارها اللغة الأساسية للتدريس، ويتم اعتماد تدريس بعض المضامين أو بعض المجزوءات في بعض المواد العلمية بلغة أجنبية، مع التمييز بين المستويات، الثانوية والإعدادية من جهة، واعتماد مبدأ التدرج والتقييم للنظر في نتائج هذا الاختيار من جهة أخرى.

من الرؤية الاستراتيجية إلى مشروع القانون الإطار 

تابع الجميع الحفل الرسمي الذي سلم فيه الملك محمد السادس الرؤية الاستراتيجية بعد إقرارها إلى رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران مطالبا إياه بنقل مقتضياتها إلى قانون إطار مؤطر للمنظومة التربوية بالمغرب، فقامت رئاسة الحكومة بعد الانتهاء من إعداد مشروع القانون الإطار، ببعثه إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين لإبداء وجهة نظره على وجه الاستعجال، وذلك بتاريخ 27 تموز (يوليو) 2016، فتعلل المجلس بحيثية قانونية في القانون الداخلي، تتعلق بنهاية انعقاد الدورة، والحاجة إلى دعوة الجمعية العامة لدورة استثنائية، نظمت في 6 أيلول (سبتمبر) 2016 لتشكيل لجنة لإعداد رأي في الموضوع. 

كان واضحا من خلال هذا الدفع بالقانون الداخلي، أن القصد هو تأجيل إبداء الرأي إلى حين مرور الاستحقاق الانتخابي التشريعي الذي كان مقررا في السابع من تشرين أول (أكتوبر) 2016 على  اعتبار أن الرأي الاستعجالي يتطلب شهرين من تاريخ انعقاد الدورة الاستثنائية، وكان ربما المقصود هو منع رئيس الحكومة من تحقيق كسب انتخابي وسياسي من القانون الإطار.

انتهى الاستحقاق التشريعي، وصدر الرأي الاستشاري للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رقم 2/2016، ولم يظهر في تدقيقاته أي تعقيب على ما تضمنته الرؤية الاستراتيجية في موضوع الهندسة اللغوية، مما يعني أن المجلس اعتبر القانون الإطار الذي أعدته الحكومة بمثابة "بضاعتنا ردت إلينا فلا داعي للتعليق عليها"، أي أعاد التأكيد على أن اعتماد مبدأ التناوب اللغوي يشمل بعض المضامين أو المجزوءات لاسيما في المواد العلمية والتقنية، وليس المواد بكل مضامينها ومجزوءاتها، كما أعاد التأكيد على قضية التدرج والآجال، وأن الأمر يخص اللغة الفرنسية (الثانوي ثم الإعدادي) والإنجليزية (الثانوي فقط) وإبعاد التناوي اللغوي من ساحة التعليم الأساسي.

غير أن المفاجأة حصلت بعد المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 20 آب/ أغسطس 2018، والذي خرج منه مشروع القانون الإطار مخالفا من جهة للرؤية الاستراتيجية، ومخالفا من جهة ثانية للنسخة التي خرجت من رئاسة الحكومة، إذ جاء في الرؤية الاستراتيجية في الرافعة 13 من المادة 31، المتعلقة بالتمكن من اللغات المدرسة وتنويع لغات التدريس، وبالتحديد في الفقرة 85، أن اللغة العربية هي "لغة التدريس الأساس، ويتم تفعيل مبدأ التناوب اللغوي بالتدرج على أساس تدريس بعض المضامين والمجزوءات باللغة الفرنسية في التعليم الثانوي التأهيلي على المدى القريب، وفي التعليم الإعدادي على المدى المتوسط، وباللغة الإنجليزية في التعليم الثانوي التأهيلي في المدى المتوسط" في حين نصت المادة 31 من مشروع القانون الإطار نسخة المجلس الوزاري على إعمال مبدأ التناوب اللغوي، من خلال تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أجنبية أو لغات أجنبية. 

كما لوحظ تغير وضع اللغة العربية كلغة للتدريس من "لغة التدريس الأساس" إلى "اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس"، كما طال التغيير أيضا لغة التدريس، إذ زال التدرج وغابت الآجال، وتم تجنب الإشارة إلى اللغة الإنجليزية، وحلت "المواد"، لا سيما العلمية والتقنية، محل "بعض المضامين والمجزوءات في بعض المواد". بما يعني أن القانون يضمن إمكانية الشروع في التدريس باللغة الأجنبية في المواد العلمية والتقنية توا في كل المستويات، ومن دون مراعاة للتدرج والآجال التي كان منصوصا عليها في الرؤية الاستراتيجية، كما يمكن تدريس مضامين أو مجزوءات مواد أخرى غير المواد العلمية والتقنية باللغة الأجنبية، التي تعني في الحالة المغربية اللغة الفرنسية بالأساس، أي يمكن تأويل المادة على أساس أنها إعلان حقيقي لتوقيف قطار التعريب، وإنهاء مساره.

التعليقات (1)
يوسف
الإثنين، 11-01-2021 12:13 م
وذا فاك و بالعربي . النقاط كارثية و ما بالك بالفرنسية