هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
معارض صلب، يعرف قدر بلده جيدا ومكانتها في
البيت العربي ومحيطها الدولي.
غلب عليه الحزن في أيامه الأخيرة، وبقي حتى آخر
أيام حياته مدافعا عن الحريات، وعن حقوق المصريين.
شكا من العزلة ومن عدم زيارة أحد له، لأن معظم
من كانوا يتفقدونه يقبعون في السجون أو غادروا وطنهم مصر مكرهين.
سياسي عربي، ووطني مصري محترم، ومناضل صلب،
تبنى مواقف سياسية شجاعة ضد قرار تصدير الغاز المصري للاحتلال وحصار غزة.
عُرف بمواقفه الصلبة، حتى وفاته، ومنها معارضته
إقامة قاعدة أمريكية في مصر في منتصف الثمانينيات، ومعارضته مرور سفن أمريكية نووية
في قناة السويس.
فلاح مصري أصيل، لم تغيره المناصب، بقي إبراهيم
يسري، المولود في عام 1930 بمحافظة الشرقية، لأب كان عالما أزهريا متواضعا مرتبطا
بالناس البسطاء، فبعد وفاة والده تبرع بالأرض التي ورثها لإقامة مدرستين، إعدادية
وابتدائية، واحتفظ بجزء منها لنفقات تعليمه وأسرته.
حصل يسري على بكالوريوس في الحقوق عام 1956 من
جامعة عين شمس، وعلى الماجستير في العلوم السياسية عام 1961 من جامعة القاهرة،
وسجل رسالة دكتوراه بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
التحق بالمعهد العالي للنقد الفني في أكاديمية
الفنون بالهرم، وأجرى دراسات في كتابة السيناريو في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
لكنه لم يمارس شيئا من الكتابة أو النقد الفني،
فالتحق فور تخرجه بمهنة المحاماة، واختير للعمل بالنيابة العامة، إلا أنه فضل
العمل الدبلوماسي، حيث التحق بالسلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية في عام 1957.
ترأس المحكمة الإدارية لمنظمة الوحدة الأفريقية
عام 1983. كما أنه رأس اللجنة الفنية في مفاوضات طابا بين مصر و"إسرائيل"
والتي أعدت شروط التسوية بين الطرفين.
اقرأ أيضا: لماذا تجاهل إعلام السيسي وفاة السفير إبراهيم يسري؟
تدرج بعدها في الوظائف الدبلوماسية حيث عمل في
البعثات المصرية لدى كل من العراق ورومانيا وبريطانيا والهند حتى وصل إلى رتبة سفير
في مدغشقر ثم سفيرا ومديرا عاما للإدارة القانونية والمعاهدات
بـ"الخارجية" عام 1987 .
شغل يسري منصب مساعد وزير الخارجية للقانون
الدولي والمعاهدات الدولية، ثم سفيرا لمصر في الجزائر ما بين عامي 1990 و1995،
وتصادف أن أقيمت، مباراة كرة القدم الشهيرة بين مصر والجزائر، والتي تأزمت إثرها
العلاقات بين البلدين، ونتيجة لجهوده الدبلوماسية لإنهاء الأزمة، قبلت الجزائر
استضافة ثلاث مباريات ودية مع منتخب مصر القومي، وطاف اللاعبون الملعب في أول
مباراة وهم ملتحفون بالعلم الجزائري ونثروا الزهور على الجمهور.
لكن السفير لم يكرم كما ينبغي فأقصي ونقل إلى
منصب شرفي بلا عمل حتى أحيل إلى المعاش (التقاعد).
بعد تقاعده عمل بالمحاماة، ودشن حملة "لا
لبيع الغاز للكيان الصهيوني"، وأقام دعوى قضائية لإلغاء صفقة تصدير الغاز
المصري لـ"إسرائيل".
واتفاقية تصدير الغاز المصري لـ"إسرائيل"
وقعتها الحكومة المصرية عام 2005، وتقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويا من الغاز
لمدة 20 عاما، بثمن يتراوح بين 70 سنتا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، في حين
كان سعر التكلفة 2.65 دولار، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية على إعفاء ضريبي من
مصر لمدة 3 سنوات وهي الاتفاقية التي لم تعرض على البرلمان نهائيا.
وإلى جانب عمله بالمحاماة، ركز جهده في العمل
السياسي، فانضم إلى حركة "كفاية" والحملة المصرية ضد التوريث، ولعضوية
البرلمان الموازي في أواخر عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وشارك في جهود إقامة
"حركة النهضة الوطنية" التي ضمت كل الأطياف، وكان يستضيف اجتماعاتها في
منزله.
وبعد انقلاب عام 2013، قدم الراحل مبادرة
لإنهاء التنازع والعودة للشرعية، وتجنب القدح في مشروعية الانتخابات، وشارك في
إصدار "بيان القاهرة" الذي دعا لاصطفاف كل القوى السياسية لاستعادة
الحرية والديمقراطية، وقبل رئاسة "الجبهة الوطنية المصرية" التي أسست في
مدينة إسطنبول التركية، وحرص على الاحتفاظ دائما بمسافة واحدة مع جميع أطياف العمل
السياسي.
لاحقته التهديدات والتحقيقات بسبب الادعاءات
الكيدية من الحكومة بأنه يروج أخبارا كاذبة، لكنه صمد أمامها، والتف حوله مئات
المتضامين في حملة "لا لتصدير الغاز"، وسددوا عنه الغرامات المقررة ضده.
وأقام يسري دعاوى قضائية ضد إغلاق معبر رفح
وجدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، وضد إغلاق
الشوارع المحيطة بمنزل السفير الإسرائيلي في القاهرة، والشوارع المحيطة بالسفارة
الأمريكية بوسط القاهرة.
وتقدم ببلاغ للنائب العام المصري يطلب فيه
اعتقال نتنياهو عند زيارته لمصر لمسؤوليته عن مقتل 1500 فلسطيني وإصابة الآلاف في
مجازر غزة.
وفي عام 2017، طعن يسري، في الحكم الصادر عن
محكمة القضاء الإداري بعدم اختصاص مجلس الدولة بالرقابة على اتفاقية ترسيم الحدود
البحرية الاقتصادية، التي وقعتها مصر مع قبرص عام 2003، والتي يعتبرها يسري
"مؤامرة" على مصر.
وفي العام التالي، بدأ جولة جديدة لإلغاء قرار
التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، كما أنه أقام دعوى بطلان اتفاق الخرطوم الثلاثي
بالتنازل لإثيوبيا عن حقوق مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل وعدم الاعتراض
على تشييد سد النهضة الإثيوبي.
وكان في مقدمة رافضي الاستفتاء على التعديلات
الدستورية ودعا إلى مقاطعتها، لأنه بموجبها سيتمكن عبدالفتاح السيسي من البقاء في
السلطة حتى عام 2030، وقال: "لا تمثل مشاركة الرافضين للتعديلات، والذين
يصرون على التصويت بـ (لا) أي معنى ثوري رافض، إلا إذا قامت ثورة شعبية كبرى".
ورغم أنه أشاد بحملتي "اطمن انت مش
لوحدك"، و"باطل"، لكنه كان يرى أن هذا "غير كاف"، بل
ينبغي أن تتبعه خطوات أكثر "فاعلية وأهمية وإيجابية".
وأضاف: "لقد حان الوقت أن نتوقف عما يقترب
من العويل، وأن نبدأ في تثقيف المواطن وتعريفه بحقوقه كإنسان من واقع نصوص الدستور
والوثائق الدولية التي صادقت مصر عليها واعتبرتها نصوصا للقانون المصري".
لا يجامل في القضايا الوطنية فهو يؤكد أن
"نظام السيسي جاء بانقلاب عسكري وحتى بعد تنصيب السيسي يظل نظاما لا يقوم على
إرادة شعبية".
موضحا أن "السيسي يملك بكل قوة مقاليد
الحكم، ولن يسلم السلطة إلا بانقلاب عسكري عليه أو ثورة شعبية عارمة تطيح به، خاصة
أن قانون الحكم العسكري هو أنه لا يسقط إلا بفعل من داخل المؤسسة العسكرية".
في المقابل يرى يسري أن المعارضة "تعاني
من طفولة سياسية، فضلا عن أنها تعاني من ضعف شديد يشل حركتها ويعطل قوتها، وما
تقوم به ضجيج بلا طحين"، بحسب قوله.
ووصف المعارضة بالهشة قائلا إنها تكتفي بإصدار "بيانات عنترية، لكنها في واقع الأمر أصبحت غير قادرة على تطوير هذه البيانات إلى
عمل سياسي سلمي".
وشدد يسري على أن "الأوضاع الراهنة لن
تتغير إذا استمر ضعف النخب والقيادات وفي ظل اكتفاء الطبقات الفقيرة والمتوسطة
بالعويل والشكوى؛ فالشعب الواعي المنظم هو الوحيد الذي يملك مفتاح التغيير".
على الرغم مما أحدثته وفاة إبراهيم يسري، من
ردود فعل واسعة بين النشطاء المصريين، وما قدمه مئات المعارضين من كلمات رثاء
لدوره في الدفاع عن القضايا الوطنية؛ إلا أن وسائل الإعلام المصرية الموالية
للحكومة المصرية وللأجهزة تجاهلت الخبر.
وخلت تماما الفضائيات جميعها والصحف المصرية، "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" و"أخبار
اليوم" و"اليوم السابع" و"الوطن" و"المصري
اليوم" و"المصريون"، من أية أخبار عن وفاة يسري بعد صراع مع المرض
طيلة الأشهر الماضية .
لم يكن يسري سياسيا عاديا حتى يمر رحيله دون
رثاء يليق بمناضل كبير، لذلك حمل الأثير معه عشرات البيانات التي صدرت عن أحزاب
وتجمعات وشخصيات عربية تتحدث عن مناقب ومواقف رجل عرف كيف يدافع عن وطنه وحقوقه في
الحرية والسيادة الكاملة على أرضه وثرواته الطبيعية.
رحل رجل عربي عاصر الأحداث المفصلية في مصر
والوطن العربي على مدى أكثر من سبعين عاما، رحل بهدوء دون ضجيج، لكنه هدوء الحكمة
والتاريخ والسيرة الطيبة.