ثمة حكمة قائمة إلى يوم الدين؛ تؤكد أن السلطة التي تنحاز لأحد مكونات دولتها ضد باقي المكونات تضع الدولة برمتها في مرمى ذلك المكون نفسه.. تلك المليشيات التي قمعت وفضت بالقوة اعتصام الخرطوم هي ذاتها التي انحازت لها حكومة المخلوع البشير، وهي ذاتها التي تنهش في كل مكونات الشعب الآن، لولا الثورة المباركة التي ترفض تهميش المركز لأي طرف؛ مستعيدة لحمتها كاملة.
هذه خلاصة ما توصلت إليه عقب انتهائي من قراءة كتاب: "دارفور خلق جديد.. تجربة حية في بناء السلام" لياسر الغرباوي.
قليلة، إن لم تكن نادرة الكتب التي تخوض غمار السلام لترسيخ مفهومه لحل الصراعات وإدارتها بعيدا عن الزج بها قي أتون الفوضى والحروب والدمار المتبادل بين الأطراف.
والأكثر ندرة تلك الكتب التي تستبدل التطبيق بالتنطير وتستغني بالواقع عن المتخيل، وتنطلق من الذات إلى العالم، وتستشرف المستقبل.
من هنا تأتي أهمية كتاب "دارفور خلق جديد"، والغرباوي مؤلفه من القليلين المهمومين بفض النزاعات. فقد كرّس جهوده من فترة لهذا المفهوم الذي يبشر بالسلام ويتدثر بالمستقبل، حتى أن مركز دراساته (مركز مركز التنوع لفض النزاعات) لا يكاد يحوم إلا حول هذا المعنى، بأصدائه هنا أو هناك.
قليلة الكتب التي تخوض غمار السلام لترسيخ مفهومه لحل الصراعات وإدارتها بعيدا عن الزج بها قي أتون الفوضى والحروب والدمار المتبادل بين الأطراف
ورغم أن الكتاب لا يتجاوز 184 صفحة من القطع المتوسط، وصدر منذ شهور خمسة عن دار لوسيل في العاصمة
القطرية، ليرصد تجربة شخصية للباحث قضاها في إحدى قرى دارفور
السودانية، وهي فرية في قرية أرارا، مبتعثا من جهة إغاثية، فإن الكتاب يعد وثيقة براءة لما يمكن أن ينجزه كل رهان على المستقبل، وكل أمل في توقيف إراقة الدماء، وكل حلم بالتنمية الخضراء.
يؤكد الكتاب في دلالته الكلية؛ على الترسيخ العملي لمفهوم بناء السلام الذي يشير إلى فعل كل ما يؤدي لعدم الانجرار إلى الصراعات، اعتمادا على الدبلوماسية الوقائية التي تتعاون فيها الجهات والمؤسسات والأفراد، لإزالة أسباب المعضلات وحل الصعوبات التي تواجه الفرد وتصالحه مع بيئته، سواء أكانت تلك الصعوبات إنسانيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة أو حتى اقتصاديّة، كون هذه المشكلات قاطبة أو إحداها هي السبب في نشوب الحروب والنزاعات عبر التاريخ.
وتعد تجربة الغرباوي التي صاغها بلغة أدبية وعقل رحالة ويد موثق، مستخدما الخرائط والرسوم التوضيحية، نموذجا لتكامل مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في "مركز التنوع لفض النزاعات" و"الهلال الأحمر القطري"، اللذين قاما بجهد واضح كرجل إطفاء أفلح في إخماد الحرائق.
يؤكد الكتاب في دلالته الكلية؛ على الترسيخ العملي لمفهوم بناء السلام الذي يشير إلى فعل كل ما يؤدي لعدم الانجرار إلى الصراعات، اعتمادا على الدبلوماسية الوقائية التي تتعاون فيها الجهات والمؤسسات والأفراد
ورغم أن طبيعة الكتاب التسجيلية قد جعلت الكاتب مضطرا إلى الاستغراق في ذكر التفاصيل الواقغية ورصدها، مرتديا روح أدب الرحلة الذي يصف كتيرا ويسهب وصفا، شارحا العديد من التفاصيل الواقعية، فإن الكتاب يبدو نابضا بتجربة حية واقعية عاشها الكاتب من بدايتها، مسطرا حكاياته الواقعية التي تلامس البيوت والطرق والمواصلات، ومصادر الرزق والبنى التحتية للمجتمع الذي كاد أن يهلك فيه الحرث والنسل.
ونظرا لأهمية القضية التي يتناولها؛ وهي كيفية فض الحروب بالسلام في إقليم دارفور، يشدد الكاتب على أن الصراع في إقليم دارفور كان، وعسى ألا يظل، من أبرز الصراعات التي شهدتها المنطقة العربية والإفريقية خلال عقود. فالإقليم شبه دولة بمساحته الكبيرة، وبتعدد أعراقه، ويحتوي على قبائل متنوعة، بلهجات مختلفة، وتسيطر عليه مجموعتان متنازعتان (القبائل العربية والأفريقية). وقد أدى الصراع في الإقليم إلى تفاقم الجفاف الشديد الذي أحاط بدارفور في فترات موسمية للصراع على موارد الرعي والماء، وهو ما أدى إلى تصاعد المشاكل داخل هذا الإقليم بين أبناء الشعب والوطن الواحد.
وقد دخلت الحكومة السودانية وأطراف الصراع بعدها في مفاوضات مختلفة، استمرت لأكثر من عقد من الزمان، في محاولة لوأد النزاع المستمر هناك، والعمل على وجود بيئة سلام تتيح لأهل الإقليم العيش المشترك. وكان آخر هذه المفاوضات هي التي جرت بالدوحة في العام 2011، والتي تكللت باتفاقية سلام كبيرة، كان ما سمح بمساهمة الدولة القطرية لتمد يد المساعدات المختلفة لتكريس حالة السلام بدارفور.
ومن أبرز المشاريع التنموية التي أشرفت عليها مؤسسات قطرية، مشروع "الوئام والسلام" الذي تم تنفيذه وإدارته من قبل "هيئة الهلال الأحمر القطري"، لوضع جسور السلام بين أهل دارفور، ولاستمرار عملية
التنمية من خلال الوعي الكافي لأهل الإقليم بنبذ الصراع والعنف والقتل على أرضية الهُويّة.
لم ينس الكاتب في غمرة توصيفاته لأهل الإقليم؛ أن يشير تاريخيا إلى طبيعة العلاقة بين النظام السوداني ودارفور وتاريخ الإقليم، مؤكدا أن منطقة "دار فور" ذات تاريخ ضارب في القِدم، إذ كانت لها علاقات مع "الدولة المصرية" في العهد الفرعوني، وكانت منطقة ذات دولة وسيادة؛ وتُعدّ وفق أقوال العديد من المؤرخين بمثابة أقدم المناطق الإفريقية التي كان لها كيان إداري ومالي مستقل. وقد بدأت رحلة أهالي دارفور مع الإسلام مبكرا، إذ وصلت بشائر الإسلام إلى السودان في عام 31 للهجرة عن طريق اتفاقية البقط بين عبد الله بن أبي سرح وعظيم النوبة في دنقلة. وخلال 300 عام من هذه الاتفاقية، تغلغل الإسلام رويدا رويدا إلى دارفور، حيث نشأت أول سلطنة إسلامية في هذه المنطقة في القرن الثالث الهجري، وهي سلطنة "الدايو" والتي طبقت أحكام الشريعة الإسلامية فيها نظامها القضائي القبَلي. وفي عام 1445م، تأسست مملكة الفور الإسلامية في دارفور أيضا، والتي اهتمت ببناء المساجد وتعمير الخلاوي (وهي مدارس قرآنية أشبه بالكتاتيب في مصر).
السبب الجوهري للنزاع في دارفور يعود إلى تهميش المركز لهذا الإقليم، وعدم وصول التنمية إليه بشكل حقيقي، وتدخل الحكومة المركزية بالخرطوم، لدعم طرف على حساب طرف آخر
و"دارفور" لم تكن ضمن دولة السودان رسميا حتى العقد الثاني من بدايات القرن العشرين. ففي الحرب العالمية الثانية دعَّم السلطان "علي دينار"، أحد سلاطين دارفور، الدولة العثمانية ضد الإنجليز، فتخلّص الإنجليز منه بقتله. وقد وافق الإنجليز على انضمام دارفور إلى دولة السودان، مقابل رفع العلم المصري والإنجليزي في منطقة "الفاشر"، وأن تؤدى سلطة دارفور (500 جُنيه) كضريبة للإنجليز، وكان ذلك تحديدا في العام 1917.
والإطار الجغرافي للسودان الحديث كان قد تأسّس على إرث سلطنتي الفونج (1504-1821) والفور (1650-1916)، وأن دارفور لعبت دورا طليعيا مع بقية أقاليم السودان في إنجاح الثورة المهديّة، ولاحقا في مقاومة الاستعمار البريطاني حتى نال السودان استقلاله.
فالسبب الجوهري للنزاع في دارفور يعود إلى تهميش المركز لهذا الإقليم، وعدم وصول التنمية إليه بشكل حقيقي، وتدخل الحكومة المركزية بالخرطوم، لدعم طرف على حساب طرف آخر؛ إذ ساندت قبائل الرعاة وهم غالبا من أصول عربية ضد قبائل المزارعين الذين هم من أصول أفريقية.
يومئ الكتاب، تلميحا لا تصريحا، إلى أن الاستبداد والسلام لا يجتمعان، كما أن الحرب والسلام لا يلتقيان، وكلاهما الاستبداد والحرب نقيض للتنمية والإصلاح والعمران.
كما يشير الكتاب بطرف خفي إلى الدور القطري (نسبة لدولة قطر العربية)، المهم والرائد في صناعة السلام والاستقرار في دارفور، من خلال مشروعات تنموية كبرى، مثل مبادرتها إعمار وتنمية دارفور، والتي شملت في المرحلة الأولى خمس قرى نموذجية، فيما ستشهد الفترة القادمة البدء في المرحلة الثانية، والتي تشمل 10 قرى نموذجية. والمشروعات القطرية أسهمت بصورة كبيرة في عودة الكثير من النازحين واللاجئين إلى قراهم، ولقد ارتبط السلام في دارفور باسم الشقيقة دولة قطر التي صنعت السلام في دارفور، فلولا قطر لما تمكن أهل دارفور من إنجاز ما تم إنجازه الآن.
من هنا فإن كتاب "دارفور خلق جديد.. تجربة حية في بناء السلام" للكاتب ياسر الغرباوي؛ وثيقة مهمة على نجاح العمل المؤسسي الإغاثي والتنموي، يمكن تكرارها في أكثر من صعيد.