محاولة لإنصاف بوتفليقة

يحاول ديناصورات السياسة في الجزائر تأكيد عروبتها، بلَيِّ عنق الدستور، وترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية/ عهدة خامسة، باعتبار أنه ليس أقل عروبة ووزنا وشأنا من حسني مبارك المصري، وعمر البشير السوداني، ومعمر القذافي الليبي، وعلي صالح اليمني، وصدام حسين العراقي.

تنص عقود الزواج في السودان على بقاء الطرفين مقترنين "إلى أقرب الأجلين: الموت أو الطلاق". ومن الواضح أن الرؤساء العرب يكتبون دساتير بلدانهم على مقاساتهم، من باب مجاراة الدول التي فيها حوكمة راشدة، ثم يكتشفون أن النص على عدد محدد من ولايات الحكم يتعارض مع مبدأ البقاء في السلطة إلى الموت، وفوجئ بعضهم أن احتمال مفارقة السلطة بالطلاق القسري وارد، فيعاندون ويكابرون، ثم يجدون أنفسهم محشورين في زوايا ضيّقة، ولات ساعة مهرب.

 

 

من الواضح أن الرؤساء العرب يكتبون دساتير بلدانهم على مقاساتهم، من باب مجاراة الدول التي فيها حوكمة راشدة، ثم يكتشفون أن النص على عدد محدد من ولايات الحكم يتعارض مع مبدأ البقاء في السلطة إلى الموت

ليس من الإنصاف عقد مقارنة بين عبد العزيز بوتفليقة والطواغيت العرب "المزمنين/ المدمنين" على كراسي السلطة، فللرجل تاريخ نضالي ناصع، منذ أن كان في التاسعة عشرة، عندما صار عضوا نشطا في حركة تحرير بلاده من فرنسا، ولديه خبرة برلمانية، وصار يوما ما أصغر وزير خارجية في العالم، حيث كان عمره وقتها 26 سنة، وكان قبلها وزيرا للشباب والرياضة، ثم وجد نفسه في ظروف مضطربة رئيسا لبلاده.

ولكن من الواضح أن كبار معاوني بوتفليقة لا يريدون له حسن الخاتمة، فقرروا ترشيحه لولاية جديدة، فصار من حق الناس أن يتساءلوا: هل عقمت وعقرت جبهة التحرير بحيث عجزت، وهي في السلطة منذ عام 1962، عن إنجاب شخص مؤهل، لشغل كرسي الرئاسة في الجزائر؟ لماذا كل هذا الحرص من أقطاب الحزب الحاكم على إعادة تنصيب رجل فاقد الأهلية للمنصب عضويا، ويعجز حتى عن التوقيع على المراسيم كما تقتضي مهام منصبه؟

 

 

 

من الواضح أن كبار معاوني بوتفليقة لا يريدون له حسن الخاتمة، فقرروا ترشيحه لولاية جديدة، فصار من حق الناس أن يتساءلوا: هل عقمت وعقرت جبهة التحرير بحيث عجزت، وهي في السلطة منذ عام 1962، عن إنجاب شخص مؤهل

أم أن المسألة فيها "إنّ"؟ و"إنّ" هنا هي أن لكل حاكم عربي بطانة تبحبح مستظلة بسلطانه، ولأنها تعيش عالة على الحاكم، فإنها تدرك أنها ستعاني من اليتم، وستفقد امتيازاتها في حال رحيله. والحكام بدورهم حريصون على إحاطة أنفسهم بأناس عاطلين من مواهب الحكم ولا طموح لهم؛ لأن أهل الحكم في الجزائر يتذكرون جيدا كيف أطاح هواري بومدين بأحمد بن بيلا، الذي أسند إليه وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وكيف تعاقب الجنرالات على كراسي السلطة بالتآمر ضد بعضهم البعض

وإلى جنوب شرق الجزائر، هناك السودان، حيث ظل حزب المؤتمر الوطني في الحكم منذ أن جاءه على صهوة الدبابات في عام 1989، ومنذ وقتها وعمر حسن أحمد البشير هو رئيس البلاد يعني حتى الآن حظي بست ولايات رئاسية. وحسب الدستور الذي صاغه الحزب الحاكم على مقاس الرئيس، كان من المفترض أن يتقاعد البشير في نيسان/ ابريل المقبل، ولكن قيادات الحزب التي رباها البشير ورعاها، هرعت إلى البرلمان لتعديل الدستور، بحيث يصبح البشير رئيسا حتى عام 2025. وكانت لديهم في ذلك حجة يصعب دحضها: الدستور ليس قرآنا مُنزلا من السماء.

 

 

 

قيادات الحزب التي رباها البشير ورعاها، هرعت إلى البرلمان لتعديل الدستور، بحيث يصبح البشير رئيسا حتى عام 2025. وكانت لديهم في ذلك حجة يصعب دحضها: الدستور ليس قرآنا مُنزلا من السماء

وهاج الشارع السوداني، وظل يطالب منذ أواسط كانون الأول/ ديسمبر برحيل البشير ونظام حكمه بالكامل، فقدم الرجل تنازلا ليسترضي الجماهير الغاضبة، بأن طلب من البرلمان "تأجيل" تمرير مقترح تعديل الدستور؛ ليس سحب المقترح أو إلغاءه، بل فقط تأجيله، طبعا "إلى حين هدوء الأحوال".

كان الشاعر نزار قباني شاهدا على عصر الكساح السياسي العربي، وسجل لحال لا أظن أنه حسب استمراره حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فكانت قصيدته التالية، والتي تصلح لأن يتغنى بها جميع مواطني دول "من الخليج إلى المحيط":

أيها الناس: أنا الأول والأعدل/ والأجمل من بين جميع الحاكمين/ وأنا بدر الدجى، وبياض الياسمين/ وأنا مخترع المشنقة الأولى، وخير المرسلين

كلما فكرت أن أعتزل السلطة/ ينهاني ضميري/ من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟/ من سيشفي بعدي الأعرج، والأبرص، والأعمى؟/ ومن يحيي عظام الميتين؟/ من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟/ من ترى يرسل للناس المطر؟

من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟/ من ترى يصلبهم فوق الشجر؟

كلما فكرت أن أتركهم/ فاضت دموعي كغمــامة/ وتوكلت على الله/

وقررت أن أحكم الشعب/ من الآن إلى يوم القيامة.

(قصدت من محاولة إنصاف بوتفليقة، القول إنه لا يد له في أمر إعادة ترشيحه، بل ربما ليس عنده علم بالأمر الذي يدبره جماعة "في جاه الملوك نلوك").