قضايا وآراء

مناورة ترامب مع إيران

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدّل المواقع وينتقل بينها سريعا. إيران ليست مستثناة من هذه سياسته، حيث تحول فجأة من رئيس ملمّح لحرب ضدها "لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ" إلى رئيس داع للقاء القادة الإيرانيين ومفاوضتهم دون أي شرط مسبق. 


ثمة تساؤلات منطقية حول دوافع وأهداف ترامب من الإعلان عن استعداده للقاء نظيره الإيراني دون شروط مسبقة خلال مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء الإيطالي في البيت الأبيض في 30 يوليو، وخاصة أنه جاء نقيض التصعيد ثنائي خطير كاد أن يفجر الأوضاع الهشة، وتنافى مع الشروط الـ 12 التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 21 أيار/مايو ضمن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة حيال إيران.


يبدو أن هذه الخطوة كانت محسوبة فأراد ترامب من خلالها الظهور بمظهر رئيس أمريكي يمسك بزمام المبادرة تجاه طهران. كما أنه حاول أن يرمي الكرة إلى الملعب الإيراني بقوله "إذا كانوا يريدون اللقاء فسوف نلتقي"ووضع إيران في موقف منفعل يحمّلها كُلف وأثمان، إذ أن الرفض أو القبول الإيرانيين لعرض ترامب إجراء لقاءات ومفاوضات غير مشروطة، يكون محرجا ومكلفا في آن واحد. فمجرد القبول بمبدأ التفاوض واللقاء مع الرئيس ترامب يعود له بالنفع بالدرجة الأولى، ويمكّنه من تسجيل نقطة على حساب إيران واستغلال هذه القضية إعلاميا والترويج له كانتصار "تاريخي"، زاعما أنه نجح أن يجرّ إيران تحت الضغط إلى طاولة المفاوضات حول اتفاق "حقيقي" تنشده إدارته.


فضلا عن ذلك، فإن قبول إيران بمبدأ التفاوض من جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي، يضفي نوعا من الشرعية على هذا الانسحاب أولا، ويقضي على ما تبقى من الاتفاق ثانيا. والخطورة تكمن هنا بالنسبة لإيران. ومن ناحية أخرى، أن رفض إيران لهذا العرض الترامبي، يجعلها في موقف محرج أمام الأوروبيين الذين على الأغلب سيلومون نظرائهم الإيرانيين على رفضهم الدخول في مفاوضات غير مشروطة. 


سبق تعرض ترامب، تأكيداته المتكررة على أن سلوك إيران الإقليمي قد تغيّر وأنها لم تعد تتصرف كما في السابق، فبعد لقائه مع زعيم كوريا الشمالية، قال الرئيس الأمريكي في مقابلة مع قناته المحبّبة "فاكس نيوز" إنه بعد انسحابه من الاتفاق النووي، إيران تحولت إلى بلد مختلف ولم تعد تطمح في البحر الأبيض المتوسط وسوريا واليمن كالسابق. ثم في لقائه مع المحاربين الأمريكيين القدامى في يوليو الماضي كرر ذلك بقوله، إن إيران لم تعد تلك الدولة السابقة. 


صحيح أن هذا الكلام المكرّر للرئيس ترامب يستهدف أساسا تبرير انسحابه من الاتفاق النووي،وتصوير هذا الإجراء نافعا ومغيّرا لسلوك وسياسات إيران الإقليمية، أما ذلك ليس كل ما يبتغيه من وراءه، حيث غايته الأخرى،قد يكون التمهيد لإجراء مباحثات مع طهران من خلال الترويج بوجود الأجواء مهيأة لبدء هذه المرحلة.


المعطيات الراهنة تدحض ما يزعمه ترامب، وتؤكد أن إيران هي الدولة السابقة بسياساتها ونفوذها الإقليمي، ولم يطرأ تغيير على ذلك، إذ أنها شاركت في معارك درعا في الجنوب السوري، وكذلك قصف حليفها اليمني سفنا سعودية في باب المندب مما أدى إلى توقف ملاحة هذه السفن لبعض الوقت، وأيضا أطلقت تهديدات خلال الفترة الأخيرة بإغلاق مضيق هرمز ومضائق أخرى إن منعت من تصدير نفطها. 


إيران التي تلقت هذا العرض الأمريكي بالرفض القاطع والتشكيك في نوايا ترامب، ليست مستعدة اليوم للجلوس مباشرة معه، فالتفاوض تحت رحمة العقوبات والحرب الاقتصادية يستهدف بالأساس تحقيق مطالب كانت مطروحة كشروط مسبقة للبدء بمفاوضات ولقاءات ثنائية. لذلك الاستعداد الأمريكي بالتفاوض مع إيران دون شروط مسبقة، لا يعني إلغاء تلك المطالب. ما يهم إيران اليوم ليس إلغاء الشروط على بدء المفاوضات، وإنما خطوات أمريكية عملية تخفف وطأة الحرب الاقتصادية من شأنها تشكل أرضية مناسبة لأي تفاوض مباشر.


بيدا أن ما يرمي إليه حاليا الرئيس الأمريكي هو تطبيق النموذج الكوري الشمالي مع إيران، وجرّها إلى طاولة التفاوض ليس بغية التوصل إلى حل شامل لجميع القضايا يرضي الطرفين، لأن ذلك مع إيران غير ممكن على ضوء وجود عوامل ومحددات كثيرة على رأسها العامل الإسرائيلي، وإنما لتصوير المشهد إعلاميا، بأنه حقق "انتصارا تاريخيا" باحتوائه طهران بعد بيونغ يانغ. 


في المقابل، طهران لا ترفض التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية من حيث المبدأ، وهي خاضته أكثر من مرة، لذلك فإن حاجز إجراء المفاوضات معها لم يعد قائما، لكنها أولا، لا تراها سياسة صائبة في الوقت الحاضر على ضوء تشديد الضغوط الاقتصادية الأمريكية المتمثلة في فرض العقوبات التي ستبدأ مرحلتها الأولى خلال الأيام القادمة في السادس من هذا الشهر، وأيضا المحاولات الأمريكية الرامية إلى تصفير صادرات النفط الإيراني، وكذلك الحديث عن تشكيل الناتو العربي لمواجهة الجمهورية الإسلامية.

 

وثانيا، أي تفاوض تحت هذه الضغوط سيكون في اتجاه واحد، تطرح فيه هذه الإدارة مطالب، وتطالب الطرف الإيراني بتلبيتها. من هنا التفاوض في هذه الظروف سيكون من موقف الضعف ولا يجدي نفعا. وثالثا التفاوض اليوم يخدم الأهداف الداخلية للرئيس الأمريكي بالدرجة الأولى مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات التكميلية للكونغرس الأمريكي في نوفمبر القادم.


مع ذلك، ليس مستبعدا أن تدخل إيران في مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر سلطنة عمان أو غيرها لجس نبض الأخيرة والوقوف على حقيقة نوايا ترامب، وما إذا كان عرضه الأخير مجرد مناورة أو مبادرة.


وأخيرا، إذا ما نظرنا بتمعن أكثر إلى سياسات طهران وواشنطن اليوم،فسنجد أنهما لا تملكان، لا إستراتيجية للحرب، ولا إستراتيجية للتفاوض، وهذا ما أكد عليه أيضا "حشمت الله فلاحت بيشه" رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني.

0
التعليقات (0)