هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "إندبندنت" مقالا للدكتور رمزي بارود، يبدؤه بالحديث عن المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الأولى، التي انطلقت عام 1987، والتي عرفت في غزة بـ"مجزرة العيد"، التي ارتكبها الإسرائيليون في أول أيام العيد، وقتل فيها أربعة شباب، أحدهم صديق طفولته رائد مؤنس.
ويقول بارود: "بعد دفن الضحايا في مخيمنا المتواضع، حاول والدي أن يجد إذاعة على الراديو تذيع الخبر، لكنه لم يجد، وعندها أدركت أن قصة منطقتي يجب أن تنشر، ومع الوقت أدركت أن المخيم الذي أعيش فيه ليس إلا صورة مصغرة عن ظاهرة فلسطينية أعم، يهمش فيها الخطاب الفلسطيني بشكل مقصود، وتكتم فيها الأصوات الفلسطينية عمدا".
ويضيف الكاتب: "شرعت في رحلة على مدى ما يقارب 25 عاما لاستعادة الرواية الفلسطينية نيابة عن جيراني وأصدقائي وشعبي، فكتابي الأخير (الأرض الأخيرة: قصة فلسطينية)، هو آخر كتبي، الذي يهدف لأن يقدم تعبيرا جمعيا عن النضال الفلسطيني، ويدور حول النكبة -حيث تم تدمير الوطن القومي للفلسطينيين عام 1948- وملايين اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المنفى منذ ذلك الحين".
ويشير بارود في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن "إحدى تلك القصص هي قصة أحمد الحاج، وهو مسن شيوعي يعيش في غزة، وكان قد فر من فلسطين في 1948، عندما هوجمت قريته السوافير، وحرقت على يد المليشيات اليهودية، التي أصبحت فيما بعد الجيش الإسرائيلي، وحتى هذا اليوم فإن الحاج، الذي يبلغ من العمر 85 عاما، يرفض أن يبني بيتا في قطاع غزة المحاصر".
ويقول الكاتب: "تحدثت مع الحاج، وأجريت سلسلة من المقابلات مع اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين وخارجها؛ لأفهم ما الذي يجعلهم يقدسون (حق العودة) إلى بيوتهم التي طردوا منها هم أو أسلافهم قبل 70 عاما".
ويلفت بارود إلى أن "الحاج رفض أن يملك بيتا في غزة؛ لأنه خشي إن فعل ذلك أن يركن إلى حياته في المنفى، فبالنسبة له فإن هذه الخطوة تعني عبئا ثقيلا لا يستطيع هو أن يتحمله، وقضى عدة سنوات في سجن إسرائيلي بسبب رفضه القبول بالنفي إلى غزة".
ويقول الكاتب إن "الحاج بقي طيلة حياته وقلبه في السوافير، ولطالما روى القصص عن حياته فيها لعائلته ولكل من استمع إليه، تحدث فيها عن سعادتهم في القرية، وعن ألم العيش في المنفى.. هذه المشاعر ذاتها تتكرر بين الفلسطينيين حتى من ولد منهم بعد النكبة".
ويضيف بارود: "لقد تحدثت إلى شباب، يشعرون بارتباطهم بقرى اختفت قبل أن يولدوا".
ويجد الكاتب أن "النكبة ليست مجرد تاريخ يتم إحياء ذكراها في 15 أيار/ مايو، إنها أكثر شمولا من مجرد حدث واحد، مهما كان مأساويا، إنها تمثل الحياة التي حرم منها ملايين الفلسطينيين ظلما، وكل يوم بعدها أصبح يمثل حياة الفقر والمنفى والحاجة".
ويفيد بارود بأن "النكبة أصبحت جزءا من الهوية الجمعية للفلسطينيين كلهم، وهي الآن محفورة في ضمير كل فلسطيني، لدرجة أنه يصعب تخيل مستقبل للسلام ما لم يتم التعامل مع الجريمة الأصلية بشكل عادل ودقيق".
ويستدرك الكاتب قائلا: "مع أنني ولدت ونشأت في مخيم للاجئين في غزة، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، إلا أن ارتباطي بقرية محيت من الخارطة قبل عقود، ليس تصرفا غير منطقي، فقريتي بيت دراس تبقى أهم قطعة على الأرض عندي".
ويقول بارود: "تعلمت عندما كنت طفلا من جدي أن أكون فخورا؛ لقد كان فلاحا قويا ووسيما، ولديه إيمان راسخ، كان يستطيع أن يكبت حزنه العميق بعد طرده من بيته في فلسطين هو وعائلته، وبعد أن طعن في السن كان يجلس ساعات بين الصلوات يستعيد الذكريات الجميلة لحياة القرية، وأحيانا كان يصدر عنه تنهد ألم وبعض العبرات، إلا أنه لم يقبل الهزيمة، أو فكرة أن بيت دراس ذهبت إلى غير عودة".
ويضيف الكاتب: "تطور وعيي السياسي نتيجة مأساوية مخيمات اللاجئين، والإصرار على تصحيح الماضي الأليم، الذي شهد موت قريتي، والفقر الدائم لعائلتي، جدي وجدتي ووالدي ووالدتي مع إخوتي وجيراني وأصدقائي وزملائي في المدرسة، كلهم مدفونون في المخيم، مات والدي تحت الحصار في غزة، ولم تسمح لي إسرائيل ولا مصر برؤيته لوداعه، نكبتنا مستمرة".
ويرى بارود أن "ميدان المعركة لا يزال بعد النكبة مرسوما على حدود غزة، حيث يتظاهر عشرات الآلاف في مسيرة العودة الكبرى، التي بدأت نشاطاتها في 30 آذار/ مارس، وتنتهي في 15 أيار/ مايو".
وينوه الكاتب إلى أنه "في الجانبين من الصراع الدائر، يحارب كل من الفلسطينيين والإسرائيليين لأجل إرث يمتد عقودا من الزمان: فالشباب الفلسطيني يكملون النضال ذاته، الذي تبنته أجيال من الفلسطينيين منذ وقوع النكبة، أما الجيش الإسرائيلي -الذي قتل العشرات وجرح الآلاف في الأسابيع الأخيرة- إنما يطبق السياسات الدموية ذاتها، التي طبقتها العصابات الصهيونية المسلحة عندما قامت بالتطهير العرقي لسكان فلسطين عام 1948".
ويقول بارود: "يبدو الوضع وكأن الوقت تجمد في مكانه، أو أن التاريخ أعاد نفسه بشكل عميق، وليحدث التغيير فإنه يجب أن يحصل تغيير في النموذج، ولا يمكن السماح لهذا الواقع العنيف بأن يستمر إلى الأبد".
ويذهب الكاتب إلى أنه "من الضروري أن نربط الحاضر بالماضي، فعقلية المستوطن الاستعمارية في الماضي هي التي لا تزال تسيطر على أفعال إسرائيل اليوم، وهي التي ستسيطر على مستقبلها، إن لم يتم القضاء على الأبارتهايد، وسيسمح للاحتلال بأن يستمر، وألا تعكس آثار النكبة".
ويرى بارود أن "سرقة الأراضي الفلسطينية، التي تقوم بها إسرائيل في الضفة الغربية، وتزايد المستوطنات غير القانونية، التي تضطر الفلسطينيين لمغادرة القدس، هي إعادة لأحداث سابقة، أحداث درامية استمرت على مدار أكثر من قرن".
ويشير الكاتب إلى أن "الاستيطان الصهيوني في فلسطين بدأ عام 1881، عندما نظرت القيادات الصهيونية في أوروبا إلى فلسطين العربية على أنها خيار لإنشاء وطن قومي لليهود، ولم يعر هؤلاء اهتماما للشعب الفلسطيني الذي كان يعيش هناك، ووصلت هذه الطموحات ذروتها من خلال حملة إرهابية دموية ومنظمة بشكل جيد عام 1947-1948، أدت إلى بناء دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، وتم تدمير ما يقارب 600 قرية وبلدة؛ لخلق مساحة لبناء دولة حصرية لليهود".
ويبين بارود أنه "منذ ذلك الحين لم تتغير سوى الأسماء والألقاب، فالمليشيات الصهيونية التي نظمت المذابح ضد الفلسطينيين قبل إنشاء إسرائيل اتحدت معا لتشكل الجيش الإسرائيلي، وقيادات تلك المليشيات أصبحوا زعامات إسرائيل".
ويقول الكاتب: "كانت أمنية جدي الوحيدة في نهاية حياته هي أن يدفن في بيت دراس، وبدلا من ذلك فإنه دفن في مقبرة مخيم النصيرات، التي بدأت تضيق بساكنيها، لكنه بقي بدراساويا حتى آخر يوم في حياته، متمسكا بذكريات المكان، الذي بقي له ولنا جميعا مقدسا وحقيقيا".
ويختم بارود مقاله بالقول: "لملايين اللاجئين، ولآلاف المتظاهرين على حدود غزة، لم تعد فلسطين فقط قطعة أرض، لكنها نضال مستمر لتحقيق العدل، باسم أولئك الذين ماتوا في المنافي وأولئك الذين لم يولدوا بعد كلهم".