هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
تحرير فلسطين يبدأ من القاهرة، لكن من أين يبدأ تحرير القاهرة؟.. بعد 70 عاما من النكبات المتواصلة دخل الحكام العرب إلى مستعمرات الهزيمة فخورين بالمستقبل، بعد أن كانوا يبررون تلك الهزائم صاغرين.. صارت الهزيمة "واقعية"، وصارت فلسطين عقبة في طريق التعايش السلمي، ومانعا من الاستقرار في المنطقة، وقطعة أرض يتاجر بها الحكام للاستثمار الناجح مع "العدو/ الحبيب"، بينما تبقى الشعوب العربية في حالة صدمة مروعة، وتشوش يبهج صناع "الفوضى الخلاقة"، وعجز مؤلم عن الفعل أو حتى رد الفعل؛ لأن إصرار الخارجية الصهيونية على تنظيم الاحتفال الواسع باغتصاب فلسطين على نيل القاهرة، ولذلك دلالات رمزية يجيد الصهاينة توثيقها من احتفال خفي سابق عند سفح الأهرامات قبل ثورة يناير، إلى الاحتفال الذي أقيم هذا العام فوق الأرض التي كانت في السابق أول معسكر قيادة للجيش الوطني في مصر، المعسكر الذي انطلقت منه ثورة عرابي، في فندق بين جامعة الدول العربية ومبنى المتحف المصري، وعلى بعد أمتار من تمثالي عمر مكرم في الجنوب الشرقي والفريق الشهيد عبد المنعم رياض في الشمال الشرقي.
(2)
كانت مقولة "تحرير فلسطين يبدأ من القاهرة" هي المقولة التي نُسبت إلى الضابط جمال عبد الناصر، باعتبارها مقولة "النكبة التي أفضت إلى ثورة"، لكنها اليوم تحولت إلى سؤال حائر افتتحت به مقال: "ومن أين يبدأ تحرير القاهرة؟".
لا أستطيع أن أعكس الإجابة بسهولة وأقول من فلسطين، حيث يجهز الشباب الحر لمسيرة العودة، حيث الحجارة تهدد الكيان العدواني المسلح، وحيث الطائرات الورقية تهدد طائرات الأباتشي والإف 16، وحيث تقاوم القلوب الخضراء إرهاب المفاعلات النووية.. لا أستطيع أن ألقي بمسؤولية تحرير القاهرة على شباب غزة، وأنتظر شفاء القلب لمجرد الرهان على علاج الجرح النازف.. الجرح الذي كان يسمى فلسطين، فصار الآن يسمى غزة أو الضفة أو القدس أو "السلطة" أو "اللاجئين"، أو "وهم الدولة المسخ التي لا ترضى بها إسرائيل"، فماذا جرى للعرب؟.. ماذا جرى للقاهرة؟ وماذا جرى لفلسطين؟
(3)
فلسطين التي كانت ماء القلب في مصر، صارت بعيدة وغريبة. يكفي أن نتتبع لغة الإعلام الرسمي عن فلسطين والفلسطينيين لنكتشف هول الخيبة، وأثر النكبة العظيمة التي وصلنا إليها:
"لعنة الله على الفلسطينيين..!/ خونة / حماس منظمة إرهابية..!/ السلطة الفلسطينية عميلة للغرب وإسرائيل..!/ محاكمة رئيس مصري بتهمة التخابر مع حماس..!/ القبض على عدد من الفلسطينيين يتسللون عبر حدود أم العروبة..!/ إعلامي مصري شهير يبشر شعب العروبة: الحرب القادمة لتأديب المجرمين في غزة..!/".
والمؤسف حقاً أن لغة الإعلام المنكوب أثرت على أعداد من عبيد الأنظمة المغيبين بفعل سحر الطمس والتدجين، وتحولت الشعوب إلى شراذم تتباين نظرتها لفلسطين، وتنكفئ على أحزانها وأوهامها، صارت النكبة بحجم لغة العرب، صار لكل شعب عربي فلسطينه، صار لكل عربي جرحه، وقضيته، فبدا يتبجح وهو يصافح العدو، ثم يرشق "راية نضاله" في عين أخيه وعليها شعار العرب الجديد: أنا ومن بعدي الطوفان!
(4)
كتب أحد المناضلين المصريين القدامى مقالا يسخر فيه من حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، قال فيه: إن من يطالبون بالتضامن مع غزة عليهم أن يتضامنوا أولا مع مصر، يكفي ما قدمناه للقضية، فقد ضحينا كثيرا ثم تلقينا جزاء سنمار. علينا أن نهتم الآن بأنفسنا ونترك الفلسطينيين يحملون قضيتهم!
(5)
أمثال هذا "المناضل المنهزم" هم إفرازات النكبة التي سهلت للصهاينة "غزو القاهرة" وغرس نجمة داود في عين النيل، لكن هل انتهى الصراع بنكبة نهائية لا نهوض منها؟ هل ضاعت فلسطين في فلسطين، وخسرت التعاطف في مصر، وتحولت إلى أرض للاستثمار في مشروع نيوم، أو صندوق زكاة لأثرياء الخليج، أو ضحية لقوادين وقوى إقليمية "تستخدم" القضية أكثر مما "تخدم" القضية؟
لا أملك إجابة؛ لأن الإجابة رهن الإرادة، رهن الأمل، رهن الفعل، وأنا ممن يعرفون ويؤمنون بأن فلسطين لن تموت، وأنها ستظل من القضايا العالقة التي ترفض الانطفاء. فالفلسطيني ليس هنديا أحمر، ولن يكون، ثمة شيء أعمق مغروس في ذاكرة الفلسطيني.. ثمة "جينات تاريخية" تستعصي على المحو، ولا تتأثر (إلا مؤقتا) بذلك الهوان العربي المخجل؛ لأن فلسطين مهما عانت ستظل أقوى من ضعفنا، أكبر من هزائمنا، أبقى من حكامنا، ومن تجار الشعوب، لكنني كمصري لا زلت أفتش عن بلدي محاولا استعادة الدور المفقود، لا زلت أسأل سؤالي الحائر المؤلم: من أين يبدأ تحرير القاهرة؟