مثلت الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة في
تركيا مفاجأة للشعب التركي، والمحيط الإقليمي والدولي أيضا، ذلك أن الرئيس
أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) كان أمامهما فرصة للبقاء في السلطة بشكل طبيعي لمدة عام ونصف العام، لكن أردوغان قبل دعوة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشتلي لهذه الانتخابات المبكرة، بل زادها تبكيرا من آب/ أغسطس إلى حزيران/ يونيو المقبل، وسط تكهنات بأن الموضوع كان باتفاق مسبق بين الحزبين والزعيمين، لالتقاء مصالحهما في هذا التبكير.
إجراء انتخابات مبكرة هو سلوك سياسي متبع في الأنظمة
الديمقراطية الراسخة، وقد جربته تركيا ذاتها من قبل، وكانت آخر مرة في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، بعد خمسة شهور فقط من إجراء انتخابات برلمانية لم يحصل فيها أي حزب على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة. والمعروف أن نظم الحكم البرلمانية هي الأكثر استخداما للانتخابات المبكرة، حين ينفرط عقد بعض التحالفات الحاكمة. وقد شهدنا نماذج متكررة لذلك في إيطاليا، واليونان، وإسبانيا، وفرنسا، وهولندا، وحتى الكيان الصهيوني، كما أن النظم الرئاسية لم تخل من ذلك أيضا، كما حدث في الأرجنتين، والبرازيل، وفنزويلا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
مرسي والانتخابات المبكرة
لم يدع الكثيرون الفرصة تمر دون التعرض لتجربة الرئيس مرسي في الحكم، والمطالبة بانتخابات مبكرة قبل نهاية العام الأول له في الحكم. والحقيقة أن الفكرة لم تكن مرفوضة من حيث المبدأ، بل أعلن رئيس مجلس الشورى السابق الدكتور أحمد فهمي أن الرئيس مرسي قبل فكرة الاستفتاء عليه، أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولكن عقب الانتهاء من الانتخابات البرلمانية التي كانت تنتظر فقط إقرار المحكمة الدستورية لقانون الانتخابات. وقد طلب الرئيس مرسي من المحكمة المسارعة بهذا الأمر حتى يتم الانتهاء من تلك الانتخابات التي كانت الأحزاب قد أعدت عدتها لها. وهذه الشهادة أكدها أيضا بشكل علني الدكتور هشام قنديل، رئيس الوزراء السابق، وكذا الوزير السابق الدكتور محمد محسوب في شهادته على قناة الجزيرة، وهو ما كرره أيضا إبراهيم منير، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، مؤخرا. ولا يطعن في هذا الأمر كون الرئيس مرسي لم يعلن هذا الأمر بنفسه في خطابيه الأخيرين، فربما اكتفى الرئيس بوصول الرسالة لمن يهمه الأمر، وهو المجلس العسكري الذي كان يدير التفاوض مع الرئيس عبر الوسيط الدكتور أحمد فهمي، وإن كان الأصح هو أن يعلن الرئيس مرسي هذا الأمر فعلا بنفسه في حينه، حتى وإن كان هذا الإعلان لن يمنع انقلابا كان مرتبا له سلفا.
كانت لمصر تجربة برلمانية بدأت بمجلس شورى النواب عام 1866، إبان الحكم العثماني لها، وقد ظلت التجربة تتطور حتى أجهز عليها انقلاب العسكر في العام 1952، حيث أصبحت
مصر تعيش في ظل الحكم العسكري منذ ذلك الوقت وحتى الآن، باستثناء فترة عام واحد للرئيس المدني المنتخب محمد مرسي.
في المقابل، كانت تركيا مسرحا للعديد من الانقلابات العسكرية خلال الستين عاما الماضية، بدأ أولها في السابع والعشرين من أيار/ مايو عام 1960، حيث تم وقف نشاط الحزب الديمقراطي بتهمة العزم على قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية. وكان الانقلاب الثاني بعد ذلك بأحد عشر عاما، وتحديدا في 12 آذار/ مارس عام 1971، ثم كان الانقلاب الثالث والأشهر بقيادة الجنرال كنعان إيفرين عام 1980، وكان الانقلاب الرابع عام 1997، والذي أجبر نجم الدين أربكان أول رئيس حكومة إسلامي على التنحي عن السلطة (لم يكمل أربكان عاما في الحكم مثل مرسي)، فيما فشلت محاولة الانقلاب الخامسة منتصف تموز/ يوليو 2016.
غرائب تركية
الغريب أن العسكر الذين قاموا بالإنقلابات لم يتصدوا للحكم بأنفسهم مباشرة باستثناء كنعان إيفرين، بل أجروا انتخابات جديدة عقب كل انقلاب، وكانوا يسمحون في الوقت نفسه لقادة الأحزاب التي تم حلها بتأسيس أحزاب جديدة، وهو ما استفادت منه الحركة الإسلامية في تركيا مرات عديدة. والحقيقة أن فكرة الانتخابات النظيفة ظلت سمة دائمة للانتخابات التركية منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك وحتى الآن، رغم تعدد الانقلابات، وهذا من عجائب الديمقراطية التركية.
من عجائب الحالة التركية أيضا أن يوصف الرئيس أردوغان بالديكتاتور "العثمانلي"، وهو الذي لم يصل للسلطة عبر انقلاب عسكري، بل عبر صناديق انتخابية شفافة منذ العام 2002، لكن من الواضح أن الكاريزما التي يتمتع بها تحفز الأتراك على معاودة انتخابه في كل مرة، حتى جاوز في مدد حكمه (16 عاما حتى الآن) مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك (14 عاما). ورغم أن الكثيرين يظهرون مواقف معارضة لأردوغان ولحزبه، إلا أنهم يغيرون موقفهم أمام صناديق الاقتراع حماية لمكتسباتهم الاقتصادية التي حققها الرجل، والذي رفع دخل الفرد من ثلاثة آلاف دولار سنويا عام 2001، إلى 11 ألف دولار حاليا، كما رفع حجم الصادرات التركية خلال عشر سنوات من 36 مليار دولار إلى 158 مليار دولار، فيما ضاعف حجم وسائل النقل العامة من سبعة ملايين وسيلة إلى 19 مليون وسيلة، ورفع عدد الأنفاق من 50 نفق إلى 188 نفقا، فضلاً عن الجسور، ومن أبرزها جسر البوسفور الذي دشن مؤخرا، إلى جانب جسري "عثمان غازي" بمنطقة يالوفا شمال غربي تركيا، و"السلطان ياووز سليم" بإسطنبول، ونفق "أوراسيا". وأصبحت الإيرادات السياحية في تركيا تشكل 21 في المئة من أصل السياحة العالمية، بحسب بيانات البنك الدولي، حيث يزور تركيا سنوياً 40 مليون سائح.
هذه النجاحات الاقتصادية والسياسية تدفع العديد من القوى الإقليمية والدولية المعادية لأردوغان لمحاولة إسقاطه، عن طريق التلاعب بالاقتصاد التركي وسحب الاستثمارات، وهو ما انعكس مؤخرا على سعر الليرة التي تراجعت كثيرا أمام الدولار، وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت أردوغان لقبول فكرة الانتخابات المبكرة لقطع الطريق على تلك المؤامرات التي خططت لاستنزاف الاقتصاد التركي قبل الموعد الطبيعي للانتخابات أواخر العام المقبل.
عسكر وعسكر
تقدم الحالة التركية نموذجا في تعامل القوى المدنية (بشقيها الإسلامي والعلماني) في التعامل مع الانقلابات العسكرية، وقد تطور هذا النموذج من المقاومة السلبية الطويلة إلى المقاومة الشعبية العنيفة ضد آخر محاولة انقلابية، حيث تصدى لها الشعب، وأجزاء مهمة من الجيش والشرطة. في الانقلابات السابقة كانت القوى السياسية تعيد إنتاج نفسها في أحزاب جديدة، حتى مع استبعاد بعض شخوصها بقرارات عسكرية أو أحكام قضائية، كما حدث للزعيم نجم الدين أربكان الذي شكل أربعة أحزاب متتالية، وكما حدث لأردوغان ذاته عام 1998، حيث قضى بضعة شهور في الحبس بعد إلقائه قصيدة عدتها النيابة خرقا للعلمانية، وبمجرد خروجه من السجن أسس مع رفيق دربه عبد الله جل (الرئيس السابق لتركيا) حزب العدالة والتنمية الذي فاز في أول انتخابات خاضها عام 2002، وشكل الحكومة.
ما وصلت إليه تركيا من استقرار ديمقراطي، واستعصاء على الانقلابات العسكرية، جاء بعد تضحيات كبيرة قدمها الشعب التركي، ونخبه السياسية التي لم تفرط في منجزها الديمقراطي، وتصدت على اختلاف مشاربها لمحاولة الانقلاب الفاشلة صيف العام 2016، حتى لا تمكن العسكر من إدارة الحياة السياسية مجددا. لكن الفارق كبير بين عسكر تركيا وعسكر مصر، فبينما سمح الأولون عقب انقلاباتهم بعودة الحياة السياسية، وإجراء انتخابات ديمقراطية، حتى وإن تحكموا في الأمور بطريقة غير مباشرة، إلا أن عسكر مصر حين استولوا على السلطة عام 1952 لم يتركوها إلا لعام واحد فقط عقب ثورة شعبية في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وقد شهد الجميع كيف أنهم عادوا للسيطرة المباشرة مجددا عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، دون أن يفتحوا الباب لأي قوة سياسية حتى لو كانت علمانية بمنافستهم، والوصول إلى مقعد الرئاسة.